محادثة الغرباء باعتبارها مجازفة استراتيجية
بإمكاني السهر ليلًا للتخطيط لكل كلمة، وكل حرف، وكل معنى يحمل أبعاد وجودية، وكل توجيه بصري تتداخل معه رسالتي الإنسانية، وعنوان رئيس وعشرة عناوين فرعية.. عندما أرغب بمحادثة غريب. أو إلقاء كلمة أمام حشد لا أعرفه. أو عندما أُحاط بجماعة بشرية تتجاوز أصابع اليد الخمسة. دائمًا ما تحدث انبعاثات عصبية تخترق الغلاف القلبي ليتفجر عداد النبضات ومقياس التوتر.. عندما أرغب بمحادثة غريب أو شخص ألتقيه للمرة الأولى دون موعد ومحادثة مسبقة. اعتدت حمل مطّارتي-كأس الماء معي لتخفيف حدة هذه اللحظات الإنسانية التي تشكل فارقًا حياتيًا وربما مصيريًا في شكل اليوم وتاريخي، أمارس عمليات الشهيق والزفير مع ضحكات السخرية من صديقي الذي لا يأبه بمن أمامه.. بل يعشق الأعين الموصدة والمترصدة له؛ يتغذى من خلالها وينتصر لنفسه عندما يمنح الانتباه والنظر.
أكتب هذه المدونة بعد محاولة لقاء أحد الذين أُعجبت بهم ورغبت لقاءهم، ولأنه ماثل أمامي وبالقرب بضع خطوات من كيبورد جهازي المحمول الذي أنقر به أصابعي.. فشلت في محادثته هكذا مباشرة: مرحبًا يا هذا، أنا أحمد. لأنه كيف يحدث هذا اللقاء دون رسالة مسبقة تُنبئه عن وجودي ليحتفي بي ويخبرني باستعداده ورغبته وسروره التام بلقائي؟ لا أتخيل حدوث خلاف هذا التمهيد، ولو حدث فلن تأتي مني المبادرة. لذا أستمتع برفقة صديقي الساخر لأنه يدفعني بالإكراه، ويتفنن بإحراجي والقهقهة على مظهري المثير للشفقة في لقاءاتي الأولى التي أشكره عليها لاحقًا.. دومًا.
هناك عبارة يرددها الكثير من حولي وأتباع تطوير الذات “واجه مخاوفك تنتصر عليها”، وعندما فعلت كنت أنا المخاوف وهي التي واجهتني وانتصرت علي. كانت نتيجة مواجهة هذه المخاوف، والدرعمة الاجتماعية لشخص يهاب هذه اللقاءات والأسئلة، وكثرة التجاوز على التركيبة التي جُبل عليها.. المزيد من التوتر وقلق الأسئلة ونبضات القلب غير المنتظمة. ثم يقولون واجهها وانتصر عليها؟ تبًا لكم. أملك الكثير من الحلول للتوفيق الاجتماعي والخروج بأحسن العلاقات وأجملها وأكملها وأمثلها، وفعلت هذه الحلول وحظيت بالأروع من حولي.. دون مواجهة ولا انتصار ودخول معركة خاسرة؛ لم يخبرني عن هذه الحلول أصحاب هذه المقولة الذين لم يشعروا ما أشعر به، ولم يخوضوا تلك المجازفات الاستراتيجية العصيبة.. بل حدسي وحاجتي وسعيي لخلق الحلول من العدم هو الذي أخبرني بعد أن أخذ الله بيدي وأنار تلك الطرق لي. مثلًا، أنا أعامل العلاقات وكأنها أشياء قابلة للرصد والاختبار عن بعد، أتابع من بعيد بفضل وسائل التواصل وأمهد الطريق وأرتاح ثم أخلق بعض الثقة وأحدد الموعد ومنطقة اللقاء؛ وأتعرف. أو ربما أحطت نفسي بالصديق الساخر ليفتح لي الأبواب المغلقة ويبادر بتقديمي. والكثير من الحلول التي لا تتطلب مجازفة.
رحلاتي الدولية الثلاث الأخيرة -باستثناء واحدة-، كانت لوحدي. ههه، نعم لوحدي برغم الذي ذكرته أعلاه. وبرغمه أيضًا كانت هي الأكثر إثراءً وحياة وتجربة فريدة ومتنوعة وممتعة؛ تعرفت بها على الكثير بطريقتي الخاصة التي لم تتطلب درعمة ولا “مواجهة مخاوف”.. اه كم أكره هذه الجملة. وحظيت بها على علاقات مع أولئك ممتدة وطويلة وتحمل معها القيمة والذكريات التي عندما أتذكرها أحبس أنفاسي ثم أطلقها وأقول بصوتي الداخلي الجهوري: اييييه عسى الله يعيدها. وفي المرة الوحيدة التي “درعمت” وبتعريف آخر “بادرت” حدث الذي لا يحتاج إلى تكملة.
تأقلمت مع هذا الحال، ولقيت من ثمار الطرق الأخرى أكثر محصولًا وأحسن رفقةً وأفضل وسيلة للمعرفة والقرب. وأحببتها أكثر. ولا زلت أخوض بعض تلك المجازفات لقبض فرصة قبل التلاشي والتقاط لُقطة قبل السقوط. وإلى أصدقائي الذين يشاركوني الحال والرهبة: غازي القصيبي وإيلون ماسك ومارك زوكربيرغ ومئات ممن كسبوا المعارف وقادوا الأمم وحظوا بالعلاقات السعيدة وتنفسوا الصعداء.. يشاركونكم الحال والمخاوف والرهبة؛ لستم وحدكم.