أرجوكم؛ المزيد من الانتباه


منذ يومي الأول وأنا رضيع أقترب من ثدي أمي وأرتشف الحليب الذي يرويني، علمت أن الارتواء يكفي لرضاي، مذاق الحليب رائع ومنعش ودافئ، والإكثار منه بما يتجاوز حد ارتوائي فكرة مغرية وتزيد من مستوى اللذة، إلا أنها كانت غائبة حينها وكنت يومئذ على الفطرة. أرتشف من الحليب قدر الحاجة، لا ألجأ إليه إلا عند الظمأ.


بعد ١٩ عام بعد الرضاعة، فتحت حسابي الحالي على تويتر، سنة وبعض السنة وأنا مستمر على تطبيق منهجي مع ثدي أمي الذي أرضع منه: الكتابة قدر الحاجة للتعبير، دون سطوة مؤثر خارجي يهز قراري ويغير حساباتي. حتى ذلك اليوم الذي شاركت فيه بتعليق على أحدهم، لأحصد وللمرة الأولى عشرات اللايكات، حتى المئات وعدد من المتابعين الجدد وأنا حينها لا أتجاوز عدد معارفي المقربين.. كانت مفاجئة خارج الحسبان، لذيذة ومنعشة وأغرقتني بسيلٍ جارفٍ من الانتشاء؛ أتطمن على التغريدة كل دقيقة، أتفحص الهاتف كل عدة دقائق، أيها العالم أعيروني الانتباه.. يا للذته!


كانت التغريدة منعطف تويتري مثير، دفعتني للتغريد أكثر أملًا بمستوى تلك اللذة، تطوير ملكة الكتابة والتفنن بالعبارة والدخول في المناوشة والبحث عن الشائع لإعطاء الرأي والرأي الآخر فيه، طمعًا بإعادة تجربة ما حدث. كان الدافع هذه المرة ليس الحاجة الشخصية للكتابة، وإنما الحاجة الشخصية والماسّة والضرورية لتحقيق الإثارة والانتباه. خلال ما يتجاوز ثلاثة أشهر تضاعف عدد المتابعين خمسة أضعاف ما كانوا عليه، آلاف المرات من الاطمئنان على عدد اللايك والمتابعة، والتغذّي على قلق "كم سأحصل عليه من هذه التغريدة".


المثير بالنسبة لي وأنا أتأمل الأشهر الماضية بعين فاحصة، وغير المستغرب بالنسبة للعلم والأبحاث وطبيعة الإنسان الباحث عن النشوة، أن اللايك الواحد والعشرة وحتى العشرين على التغريدة الواحدة لم يعد يحرك ساكنًا فيّ، لا تعجبني غير الخمسينات والمئات، وخلافها يحتاج إعادة نظر. 

كل مرة يظهر لي، أن البحث عن الانتباه يزيدني تعاسه، ومنحه يمنحني السعادة

جوزيف جوردان

في آخر الأيام، وفي بعض الأحوال كنت أحاول تغيير الدافع وأكتب، ونعم كانت كل تلك المحاولات هي الأكثر قبولًا من نفسي تجاهي، ومن الغير أيضًا تجاه ما قد كتبت. بين قوسين كما يقولون للتركيز على دقة العبارة (أصابتني لوثة) وفهمت حينها دافع تلك الحماقات التي يتم ضخها كل يوم، بتغريدات وسنابات وعبر ستوري انستقرام من قبل "المؤثرين"، بل والدخول بكل ما يمكنهم تجميع الكلام حوله والتأليف عنه، وإثارة الجدل ولو تشوّه المظهر والمنظر ورأيناهم بعين الشفقة وسوء المنقلب. 


الأرقام هذه المرة لم تجلب الطمأنينة التي أردت، ولم تجعل حاجاتي الحقيقية هي المحرك الحقيقي للكتابة، كانت لوثة ونقمة وعجب. واليوم أعجز عن ذكر أني تجاوزت وتطهرت، ولكن محاولاتي لكبت تلك الدوافع بمنهجية، كان لها الأثر البالغ والرضا المستقرّ. 


أخيرًا تذكرت حديث النبي ﷺ، وهو مقارب لهذه الفتنة ويمثل واقعها: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». تبدل الغايات تتبدل معه النتائج، ولو أوهمتنا يومًا بأنها تحالفنا. 

Join