الصوت الذي لا يُسمع

الأخ الأكبر 

لقب أطلقه جورج أورويل، بروايته الخيالية غير المنسية 1984، على السياسات القمعية ودولة المراقبة السلطوية، وبقيت هذه الأسطورة السياسية الأدبية عقودًا من الزمان يقرأها الملايين، ولا زالت، وأرجو أن تظل. بهذه التدوينة، سأتخيل مع أورويل وأعطني سيدي القارئ قلبك وأشرع لي دماغك، وأطلق لي عنان خيالك.  

تدعوني ابتداءً الكتابة عن الأخ الأكبر، والرواية بشكل أعمّ، تحدّي الفكر وسؤال المعنى الدائم؛ لأنه كان الأزمة التي لحقت شعوب أوشينا وأوراسيا وأستينا، الدول التي تتحقق بها معالم الرواية. الأزمة الحقيقية، هو عدم شعور تلك الشعوب بأنهم في “أزمة” ههه. وسبب عدم إفاقتهم، هو عدم وعيهم وجهلهم التام الذي أدى إلى رضاهم وظنهم بطبيعة الحال الذي هم عليه؛ لذا كان الأشد شقاءً من بينهم ليس عامة الشعب، وإنما الأقلية الواعية الذين قال عنهم إميل سيوران واصفًا حالهم “الوعي لعنة مزمنة، كارثة مهولة! إنَّهُ منفانا الحقيقي، فالجهل "وطن" والوعي منفى.” 
ومن قال عنهم المتنبي:
”ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ
وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ”

في تلك الدولة، فقد الإنسان إنسانيته. أقصد، الخاصية التي تجعل منه إنسانًا متميزًا بعقله عن الحيوان، والجماد، والمخلوقات الفضائية، فقدانه الحاسة المُثلى ومعيار التمييز: فقدانه عقله. لا أقصد أن يكون مجنونًا، ولكن أن يصبح ما هو دون ذلك؛ أن يختار بإرادته أن يُطفئ زر عقله ويعرقل حواسه الإدراكية عن العمل. أن يكون أداة أشبه بروبوت يتحرك وفق إشارات أخاه الأكبر؛ يقول قوله، يتبع رأيه، يناصر قضاياه التي يجهلها، وأن يُصرّ هذا الإنسان أن يبقى تابعًا يرفض الاستقلال، والحرية، وأن يفكر خارج الإطار المرسوم له، حتى بينه وبين نفسه. في دولة الأخ الأكبر، يتحول الإنسان إلى مسخ يقتات على فتات الرفاه الذي يُشبع غرائزه، وهواه المحكوم له. أبعد من ذلك، هو عدوك اللدود الذي يبلغ عن جريمة تفكيرك، ليس أفعالك الخارجة عن المألوف، لا؛ مجرد تفكيرك. في تلك الدولة غير مسموح لك أن تُفكر، وهناك شرطة فكر تتمثّل بأبنائك داخل بيتك الصغير، والستارة المُعلّقة على جدران بيتك التي تسمع أحساسيك وتقرأ حركاتك وهمساتك، وصولًا إلى الأخ الأكبر. في تلك الدولة، لا يضطر ذلك الأخ بأن يراقبك بنفسه، أو من خلال عشرات الآلاف من جنوده؛ الكل جنوده الأولياء المكفولون بحماية إلههم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الأعظم، المُنزَّه عن الزَّلل والنسيان والخطأ، الأخ الأكبر. 

في مقالة العبودية الطوعية لكاتبها ايتيان دو لا بويسي، وهو قاضٍ فرنسي كتب مقالته قبل مئات السنين في عصر النهضة وهو ابن الثمانة عشر -وفي رواية وهو في الثانية والعشرين-، كان عنوان المقالة الأساسي: أن الشعوب تختار طغاتها، وهي من تساهم بوجودهم وحمايتهم، طواعية بجهلهم وحماقتهم. وأن ترفض الشعوب حريتها الحقيقية مقابل رغبتها بالبقاء على حالها اليائس، يسألون ربهم أن لا يُغيّر عليهم. يرضون المهانة، يُشبعهم اكتفاء المأكل والمشرب، وبعض رفاه الخنازير بممارسة الجنس والاستمتاع بالهوى وإدمان الرذيلة. تلك الشعوب، مثلها مثل العصفور في قفصه، تفتح له بابه فيرفض الطيران إلى الجبل، والغابة، ومشاركة العصافير الأخرى حياته، راضيًا ومُحبًا مسكنه الصغير يرفض الخروج منه. هذا العصفور لا يعلم مالذي ينتظره خارج قفصه. 

الصوت الذي لا يُسمع

لم تنشأ دولة 1984 بقيادة الأخ الأكبر، بصدفة ليلة وضحاها، ولا بمجهود يوم وأسبوع وشهرٍ وسنة؛ نشأت بمرور عشرات ومئات السنين، بعبور أجيال ربَت على تاريخ مزوّر، وكتب تعليم مسيطر عليها، برفض للصوت الآخر وإعلام يملك الكلمة الواحدة والرأي السديد. بدولة 1984 يقرأ الشعب التاريخ، بطبيعة الحال تاريخ أعاد كتابته الأخ الأكبر. أخفى الأرشيف، محى السجلات، أباد الماضي وصنعه من جديد. يقول أورويل: “من يملك الماضي يملك المستقبل، ومن يملك الحاضر يملك الماضي.” 
لذا كان الوحيد الذي يبقى هو ما تحفظه الصدور، وتتدبّره العقول، ولو أضرم المغول النار في بيت الحكمة وألقوا بالكُتب في نهري دجلة والفرات، ولو تغير ماء دجلة إلى الأحمر والأزرق بفعل دماء القتلى وحبر الكتب التي أغرقت. كان المغول يعرفون ثمن الحضارة إذا أُخفيت، وقيمة العلم والثقافة إذا مُحيت.. مصيرها النسيان أو المقاومة، والأخير هو الذي حصل وأدى إلى استردادها وإعادة الحضارة إلى عاصمتها بغداد.

يدرك الأخ الأكبر قوة الكلمة، وأثر الصوت إذا ظهر. لذا كان إخفاءه لتمرير أدواته، وغسل عقول الملايين الحُرّة عبر السنين، أداة سحرية وفاعلة لحشد الأتباع وتغيير النظرة. كانت العقول المفكرة ذلك الزمان صامتة، عبر منظمات سرية تدرك خطورة أفعالها، مستعدة للتضحية بحياتها، لا يُسمع صوتها. 

في رحلة التغيير التي سلكها الأخ، علم أن القمع وسيلة تُكثر من الدسائس والجواسيس والضغينة داخل منظماته، علم أن الأفكار تحيا وتُبعث بها الحياة عندما يُقتل أصحابها، وأن الجمهور يتعلق بقياداته المفكرة أكثر عندما يُختطفوا. علم أن القمع وسيلة مؤقتة تؤخر الثورة قليلًا، لا تمتلك معيار الاستدامة التي يرغبها هو، وحزبه من بعده. سلك الأخ طريقتين أساسيتين لتحقيق استدامة القمع والسيطرة، وأن يحظى بالمحبة قبل الرهبة. 
أولها: أن يجرد أصحاب الأصوات من قوتهم، أن يُظهر حقيقتهم لجمهورهم، أن يُخبر الأتباع بأن القائد أخذه الضلال وأصابه الخرف، مسعاه الأول تدميرهم وإغواءهم لطريق التهلكة. ينشر أحاديثهم المسربة، ويكشف دنسهم وخُبث نواياهم. وأن يصنع هذا الأخ قادة، بأصوات أقوى، بدلًا عنهم. 
العامة يجهلون، خدعتهم وسيلته وانقلبوا على أبيهم الروحي وأمهم المقدسة. 
ثانيها: لم يتوقف الأخ بمسعاه الأكبر على الوسيلة الأولى، خشي تأقيتها واتخذ ما هو أذكى منها؛ أن يبعث القادة السابقين إلى الحياة مرة أخرى، بثياب جديدة.. بهوية نقيضة. أن يعود القائد السابق متنكرًا لماضيه، حقًا وليس مزاحًا أو خوفًا. عبر شرطة الفكر داخل المعتقل، يقتنع القائد بأنه كان ضالًا، فاسدًا، فكره مختلّ. وهذا هو التفكير المزدوج. 

التفكير المزدوج

أن يصبح الأسود أبيض، الكذب حقيقة، الكراهية حب، أن تقتنع سيدي المواطن بأنك ترى الحرب الفاسدة التي يرتكبها الحزب، هي حرب خير وإصلاح. يعني، أن تؤمن بخلاف ما ترى، وأن تصدق ذلك وتدافع عنه. أعرف أن هذا عصيّ على الخيال، لكنه حقيقة في زمن 1984.

يؤمن سكان كوريا الشمالية، أنه لا توجد كوريا سوى واحدة، وأن العالم مُلكهم، وأنهم يعيشون الحياة الكريمة ولو كانت الإيماءة المخالفة دليلًا على تعرضك للإعدام، أو ربما كان داعي الإعدام عدم إعجاب الرئيس كيم جونغ بك. 

دمتم بحياة كريمة، في وطن كريم، وأمان خالٍ من خرافات 1984

Join