انا قادم ايها الضوء
أعشق قراءة كتب السير الذاتية وكان أجملها على الإطلاق كتب جلال أمين: علمتني الحياة, رحيق العمر ومكتوب على الجبين. خلال إجازتي الاسبوع الماضي ذهبت أبحث عن كتاب جديد فوقعت على كتاب محمد أبو الغيط: أنا قادم أيها الضوء.
اشتريت الكتاب وأنا لا أعرف قصة كاتبه، ولكنه صدمني مباشرة عندما اكتشفت أنه يحكي يومياته مع السرطان. بعد قراءة عدة صفحات بحثت عن محمد ابو الغيط, المصري المقيم في لندن, راجيا ان تكون نهاية الكتاب سعيدة ولكن صدمت اكثر حين عرفت ان السرطان لم يمهله سوى سنه ونصف وتحديدا منذ منتصف ٢٠٢١ والى ديسمبر ٢٠٢٢.
يوثق محمد بعض يومياته ومعاناته مع المرض ويذكر التواريخ ومعظمها في عام ٢٠٢٢, فأتذكر ما كنت أفعل حينها, فلا زالت ذكريات السنة الماضية حاضرة في الذاكرة, فاتأمل ما كنت فيه من نعم وكيف ان غيري كان يعاني, فصدقا وحقا: وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
وأنا أقرأ الكتاب يروادني شعور البكاء عند وصفه لمعاناته الشديدة مع المرض, وعند شعوره بالحزن على ابنه الذي يظن انه الوحيد الذي لن يتجاوز فقده ابدا. أعتقد ان تخمينه صحيح, فأحيانا أكتشف اني لم اتجاوز فقد أبي أبدا. لا اريد ان احكي لك ايها القارئ بعض الشواهد التي حكاها محمد عن معاناته لأنه بدى لي انه كان يصف الجحيم. هذا الكتاب جعلني اكثر تعاطفا وشعورا بمرضى السرطان.
هذا الكتاب جعلني افكر واعيد النظر واتأمل لأنني شعرت انه اخذ بيدي الى الموت مباشرة, وكشف لي زيف الآمال والآماني التي قد تراوادني ان انا صرت الى ما صار اليه محمد, وارعبني, فلست انا ولا من أحبهم في مأمن. يقول محمد عن حاله وكيف لم يكن يظن أن يصيبه ما أصابه:
وكذا غدر نوائب الدهر، وعجز الإنسان، فلا أمان لتصاريف الأقدار، ولا اطمئنان لتقلبات الأحوال، فتأمل
ويقول ايضا:
كل يوم من المعافاة هو إنجاز عظيم. حقا وصدقًا :من أصبح آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوة يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها
وأنا أقرأ معاناة محمد فهمت لماذا يرفض بعض مرضى السرطان الخضوع للعلاج الكيماوي الذي يبدو وكأن آلامه أسوأ من الموت، ولهذا شعرت أن رفض هذا العلاج سيكون خياري لو قدر الله، فحياة كريمة قصيرة أشهى لدي من تلك المعاناة، ولكن أسأل الله أن لا يضعني في هذا الموقف، فأي موقف وأي مصاب هذا؟ كما أنني لست أضمن نفسي ولا أعرف حينها حقًا ما سأختار، فما أيسر التنظير الآن.
الشيء الذي جعلني أشعر بشيء من البهجة وأنا أقرأ الكتاب هي حكايا محمد عن زراعة حديقته الصغيرة المليئة بالفراولة والتوت والخيار والباذنجان والنعناع والريحان واللافندر وكيف أنه كان يستغرق ساعات فيها دون أن يشعر. يبدو ان محمد ليس الوحيد الذي وجد في الزراعه رفيقا أنيسا, فحسين البرغوثي المتوفى ايضا بالسرطان يصف جمال الانشغال بها بقوله:
شيءٌ في الجبل كان يقول لي، كلما حدقت في الزيتون والأودية المقمرة حتى ولو بقيت لك سنتان للعيش، فإن سنتين هنا أعمق من قرنين هناك
حسين البرغوثي
من الاشياء الجميلة هي وصفه لوالده الذي بدى لي رجلا عظيما وقدوه بذل علمه ووقته من اجل مساعدة الناس, وكان فيه من الحكمة ما جعله يصبر على ابنه عندما كان مراهقا ويأخذه كما يقال: بحلمه. الجميل في مهنة والد محمد, طبيب التجميل, انه يرى اثر عمله مباشرة ويصنع فارقا هائلا في حياة الناس الذين قيمناهم بشكلهم وصورتهم فنفرنا منهم, فالأصل فينا البشر تقييم الكتاب من غلافه لا محتواه. يحكي محمد عن حكاية عائلة من قريتهم ولدت ابنتهم بعيب خلقي في يدها, فرحب بها والده وعمل لها عملية تجميل أعادت يدها الى طبيعتها دون مقابل, وعرفوا بعد أيام ان الفتاة خطبت. أي شيء أعظم وأجمل من هولاء البشر الذين غيروا ويغيرون حياتنا للأفضل؟
بالرغم من كثير القتامة في الكتاب وقلة البهجة بين سطوره إلا أني ازعم انه زادني بصيرة وغير حياتي للأفضل, ولذلك أجده يستحق القراءة. رحم الله محمد وكان في عون أهله وأحبته.