ستيك، أتاي، وأغاني!
قبل أيام كنت عند صديق يُحب الطبخ، أخرج قطعة اللحم، وأخذ يتحدث عن الفروقات بين قطعتي لحم، هذه من ظهر البقرة وتلك من ردفها. بدأ يحكي عن التفاصيل وعملية التمليح، وأيّها سوف تصبح "جوسي" بعد الطبخ، والعديد من التفاصيل لا أذكرها. عقلي في حالات مماثلة يتخذ وضعية دفاعية، يتوقف عن التركيز، ويبدأ بطرح سؤال داخلي: "طيّب، وبعدين؟ كله لحم في الأخير". وعادةً حتّى لا أُفسد لحظة الحماس في حديث الآخر، يشتط العقل بعيدًا دون الاستماع أو الإنصات لما يُقال، وفي ذات الوقت تظل الأعضاء تتفاعل بشكل جيّد، حركة العينين، ربما إيماءات اليد، وطبعًا مصحوبة بالهمهمة.
في ذلك اليوم، دخلت في هذه الحالة فورًا بعد إخراجه للقطعة المنقعة في الملح لعدة ساعات. هو يحكي وأنا أفكر ما هي ردة الفعل التي يجب أن أُبديها بعد التذوّق؟ هل سوف تتكرر تجربة شاي الزعفران، التي امتُدحت لي على طول الطريق، لاحقًا أخذت أتجرع الخلطة -الخايسة- حتى نهاية الجلسة، وأنا أرغب في الموت الفوري والمباشر! عمومًا سوف أعبر عن إعجابي في كل الأحوال، لأن هذا المجهود وهذا الشرح الذي يُسرد الآن يستحق هذه المبادرة اللطيفة. إن كان الطبخ جيدًا، فالإعجاب في محله، أما إن كان سيئًا، لا بأس سوف أصبح نباتيًا، وأخبره أن هذا هو الستيك الأخير، وأنا آكله الآن على مضض، قبل الرحلة الطويلة في إضافة جزء من اهتماماتي ومشاعري للالتفات لمستقبل وحياة البقر. يخرج صديقي عصير راوخ عنب "ما تكتمل الليلة إلا بهذا!". ضحكنا بعد تبادل بعض النكات السخيفة، وعدت أفكر في المبادرات اللطيفة، وماذا لو كانت البشرية أكثر صراحةً، ما هو أسوأ شيء يمك... "نتركها 4 دقايق على كل جهة.. سامع الشلوطة".. "واو! ياعيني".
أحد أسوأ الأشياء التي يُمكن أن تحدث لشخص متخصص في التسويق تحديدًا، هو إخضاع معظم الأشياء من حولنا لمفاهيم مثل القيمة المضافة، التكلفة، العوائد، خلق تجربة، وأخيرًا القصة الجيّدة التي تصنع صورة معينة للعميل -الذي لن يكون على صواب أبدًا-، وبالتالي تتم عملية الشراء. يعتقد العميل أنه ذكي جدًا باختياره، وكذلك يظن المسوّق. هل سبق أن زُرت مطعم، وعلى ظهر القائمة مُختصر لبدايات المؤسس، وتاريخ العائلة، وكفاحه ليصبح الشيف الذي تعلّم في مدرسة باريسية، كل هذا لخلق ارتباط عاطفي بسيط، كفيل بأن يُنسيك طعم الحمص المعلّب. الفكرة تتجلى أكثر عند بعض أصحاب مقاهي القهوة المختصة، التي في كل مرة أزورها، أشعر بأنه بار على استحياء، ابتداءً من ألوان النيون، الأزياء، الموسيقى، وصوت الشيكر الذي لا يتوقّف! ودائمًا يبدو لي الباريستا عبارة عن بارتندر بائس يحاول جذب الانتباه، مظهره وحركته وبشاشته المُريبة، وبالعموم لا تشبه المقاهي في شيء. عندما تقرر زيارة هذا المكان أو غيره، تجد العديد من جنسيات القهوة، لنفترض اخترت القهوة الأثيوبية –غالبًا لأنها آخر اسم نطقه البارتندر- سيحكي لك عن البن الأثيوبي، المزروع في تُربة منخفضة قضى فيل حاجته عليها ليشكل البيئة الأمثل لحبة البُن، وتجاوز العديد من الحروب القبلية/الأهلية، ووصل الآن بين أيديهم بعد مزاد تم في مدينة أمريكية لا أحد يعرفها، أو يعرفها الكل، لا يهم، ومن ثم ينتقل لعملية التحميص... إلخ. بالنسبة لي لا شيء يعلق من كل هذا الحديث، لأنني في نهاية المطاف –كمسوّق- أعرف أن هذه عملية المُراد منها خلق قيمة، سوق أقول بعد كل المقدمات الطويلة: "أوك يعطيك العافية، عطني قهوة ما تسبب لي حموضة"، وفي المطعم أيًّا كان مصدر الحمص، ضع بجانبه قطعة ليمون وطبقًا يحتوي على صوص/شوربة بيضاء، وبذلك تنتهي كل هذه المعاناة.
الجدير بالذكر هذه الحالة كانت تحدث لي كثيرًا، إلى أن حطمها لي باكستاني السباكة. لن أحكي عنها، لا داعي لذكر المرة التي انشرخ فيها المسوّق بعد التنظير. لنعُد إلى صديقي الذي يحاول أن يقنعني بأن صوت الشلوطة يعني بالضرورة طعمًا جيّدًا!
بعد أن انتهى من التقليب، وضعه على طبق، وأتى بالملح الحجري، كان في علبة مختلفة أحضرها من جنوب أفريقيا. أكد لي أنه لا يوجد هذا النوع إلا في مكانين فقط، الجادة سي في كيبتاون، وعلى الرف الثالث من أي سوبرماركت. أعترف ابتهجنا ذلك الابتهاج الطفولي من الخدر الذي أصابنا بعد أكل الستيك، وطاب لنا أن نتخيّل للحظة أن السبب من النبيذ الحلال، ولن أقول هذا الخيال أحيا ذكرى جمعتنا سابقًا أعادها الله، ولن أؤكد على أنه مجرد خيال!
صديقي تجري في دمائه الصحراء، لم نستمع إلى أغانيهم في تلك الليلة، ولكن شربنا الأتاي. ولمن لا يعرفه، هو أوراق تُغسل بماء فاتر، ومن ثم توضع في مياه ساخنة، تُطبخ على نار هادئة لفترة طويلة، يُشرب على مهل بمقدار اتساع الأحزان، يجليها ويذهب الهم، وتحلو على رغوته الأحاديث. سوف أستعمل الكلمة التالية لأول وآخر مرّة، عند "الرشفة" الأولى تشعر بشيءٍ ما يضرب في أقصى الرأس، مُعلنًا عن بداية مسّ الطرب المجنون. تنقلنا بين العديد من الأغاني، وبدأ كل واحدٍ منّا محاولةً ضمنية كي يثبت للآخر أنه صاحب ذوق رفيع، عرض مقطع مُغنية تمتلك صوت فظيع، بجانب الأشياء الأخرى، كالشجرة التي في الخلفية مثلًا! وعرضت عليه أغنية اضطررت للبحث عنها بالصيغة التالية "أغنية على سيمفونية بحيرة البجع والمغنية ترتدي مخطط أبيض وأسود". بعدها انتقلنا إلى ليونارد كوهين، شاهدنا الأغنية الخالدة "أنا رَجُلُك!" وانبسطنا على الذكورية قليلًا، التي باستطاعتها أن تجعلك مُلاكم، سائق، طبيب، وأيًّا كان القناع المُلائم. بعدها "وديني على الكنيسة". كل هذا مصحوبًا بالأتاي الخادر!
أحيانًا تمر علينا لحظات عاديّة نشعر فيها بسعادة فائضة، بداية الويكند، الاستيقاظ مبكرًا، الخروج بنتيجة مرضية من اختبار توقعت أن تُنتهك فيه، وكذلك عند اللحظة التي يشرح لك فيها صديق ما عن مصدر قطعة لحم بقريّة بكل حماس، يُكمل وأنت في عالم آخر تُفكّر: لمثل هذه اللحظات تُكتب الأشياء!