الطفل الذي يمسك زمام الأمور

قررت من عدة سنوات تجنّب النقاشات التي أعرف منذ البداية أن أعصابي ستُتلف فيها، وربما أفقد السيطرة على نفسي، وفقدان السيطرة لا يعني السب أو الشتم بل خروج طفل ينسى الموقف، ويرغب في تحطيم كل القواعد المنطقية، ويصبح نصب عينيه خسارة الشخص وأخذ النقاش بالكامل إلى منطقة شخصية تسائِل الصحة الذهنية والطفولة الغريبة التي أوصلت صاحبها لهذا الرأي. في الأسبوع الماضي، استيقظ الطفل!


أتذكر استيقاظه قبل الأخير، كانت في السنة الثانية من الجامعة، استضاف النادي خريجًا يتحدث عن موضوعٍ ما، لا أذكر الموضوع ولا وجه المتحدث. كل ما أتذكره أن ذلك الشخص يتوسط المجلس، ويمكن التيقن من كونه أحد مؤسسي التوست ماستر المجانين دون أن يصرّح بذلك، لأن فرط حركة اليدين وتوزيع النظرات المجنون يليق بمؤسس وليس بعضو حديث يحاول اختبار تقنيات فن التحدث إلى الجمهور. أكرر في السنة الثانية من الجامعة، أيام الطاقة الهائلة في الدفاع عن الأفكار، والتمسك بالآراء وإن أعطاك الطرف الآخر الشمس في كف والقمر في الكف الآخر، هذه مبالغة مزعجة، سأتنازل عن أي رأي من أجل القمر! المهم هذا الدفاع عن الأفكار مجرّد امتداد لأيام الثانوي والنقاشات التي تدور مع أبو عثمان أو المدرسين الآخرين، أسئلة مثل هل التدخين حرام؟ هل مشاهدة الأفلام بعد حلقات التحفيظ يعتبر نفاق؟ هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ أرصاد جوية أم إرادة إلهية؟… إلخ.


أبو عثمان من الشخصيات التي يصعُب نسيانها، شخصية روائية بامتياز وربما سينمائية لو شُذّبت اللحية قليلًا. يمتلك إجابات قاطعة ونهائية لكل شيء، ولا يمكن مجادلته فيها. سُئل عن داروين، وأجاب بكلمتين: "ابن زنا". عن الجمع بين الأفلام وحلقات التحفيظ: "نفاق"، عن فتوى لشيخ معروف عن رياضة المرأة -ترند ذلك الوقت-: "كذب مغرض"، عن كرة القدم: "خصاوي الشيطان". لا أحد تجرأ منّا وسأل عن مصدر هذه المعلومة، كلنا كتمنا فضولنا عمّا إذا كانت هذه تجربة شخصية أم لا. المهم ما زلت مؤمنًا إلى هذه اللحظة أن هزيمة الاتحاد في نهائي أبطال آسيا 2009 بسببه. في صباح ذلك اليوم المشؤوم، أخبره أحد الهلاليين عن الاحتفالات والمفاسد التي ستحدث لو فاز الاتحاد، وبلا أدنى تردد -كالعادة في إجاباته القطعية، ولكن رغب لسبب لا أحد يعرفه في إضافة لمسة مسرحية- رفع أبو عثمان يديه المنحوتة من أثر السنين حتى قلنا بلغت يداه عنان السماء، ودعى أن تزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأن يعودوا خائبين وأن يديم علينا الأمن والسلام. لم تزلزل الأرض تحت أقدام الاتحاد، ولكن عاد خائبًا!


قرر أبو عثمان عمل حلقة نقاشية عن التدخين. لا أتذكر تفاصيل النقاش الذي حدث في الفصل، ولكن حججي بسيطة، ومتمسّك بها مثل طوق نجاة لغريق، لماذا؟ بزر لا يوجد أي تفسير آخر. كانت الحجة التي أواجه بها تحريم الضرر: "طيب الببسي مُضر، وأعرف سبعيني للحين يدخن بشراهة." الفكرة التي تأتي على شكل كرزة فوق كل هذه الردود الصبيانية أن الإكثار من أي شيء مُضر حتى وإن كان شرب الماء، انتهى النقاش بطلبه العودة إلى الدرس مصحوبة بنظرات متوعدة. في نهاية ذلك اليوم حاولت الخروج سريعًا لتجنّب محاضرة طويلة وعريضة عن التدخين في عز الظهيرة، وأعرف أنه لا يمكن ولا يليق الانتصار في معركة فردية على الهامش مع أبو عثمان. في أي تدوينة، أحاول قدر الإمكان تجنّب شخصيات الأفلام، ولكن أشعر الآن أنني مضطر أن أقول أقرب وصف لظهوره المفاجئ والسريع من الممر، واليد التي أعرفها جيدًا تحاول تثبيت الشماغ المتطاير، والمسواك الذي يسبقه للوصول، بدا وكأنه أحد حراس أزكابان من عالم مختلف تمامًا. المهم الكارثة تقترب، وعكس جميع التوقعات، بدأ يسألني عن أمور الحياة المتنوعة، وبطريقة لطيفة جدًا انزلق إلى سؤال: "أنت تدخن؟"، أخبرته لا لست مدخنًا، أعاد السؤال بطريقة أخرى: "أنا زي أخوك الكبير ترى عادي شباب وحركات كذا"، كدت أضعف أمام هذه المناورة العبقرية من الشيخ الكبير، ولكن لا فعلًا لست مدخنًا، "أجل وشوله تدافع عنه"، وبدأت المحاضرة عن أنه يراني قدوة للآخرين، ويجب أن أنتقي إجاباتي بعناية، وأكثَر من الوعظ والنصائح إلى أن اضطررت اضطرارًا أن أقول السبعيني لاحظناه يمرض مؤخرًا، وأن الببسي لا توجد فيه رائحة، والإكثار من المسواك لا يضر!


من تلك المرحلة والدفاعات شبه الصلبة عن الأفكار، وصلت إلى السنة الثانية في الجامعة، وأتى الخريج ليلقي محاضرة أو شيئًا من هذا القبيل. التراتبية في الجامعة تنطوي على قوانين غير مكتوبة ومن أهمها: "أكبر منك، أعلم منك"، وتسميات كل مرحلة من الجامعة تنطوي على قيود معينة. المهم يأتي الزميل الخريج، ويتحدث عن الرِضا في الحياة، تحدث وتحدث إلى أن أصبحت غير راضٍ أبدًا عن أي كلمة يقولها. بدأت فقرة المشاركات، وأخبرته عن رأيي في الأمر، وأنه يستحيل وجود الرضا الكامل، وقبل الإسهاب في الإجابة، يقرّب المايك، ويقطع حبل الأفكار بكلمة واحدة: "إلّا"، ويصمت بعدها. ضحكت بصوت مرتفع لأن ردة الفعل لا يمكن أن تكون أكثر غباءً من هذا. كررت الإجابة بشكل أبسط أن محرّك الإنسان هو عدم الرضا، وما دام هناك سعيًا فهناك شعورًا بعدم الرضا، والدنيا دنيا لأنه لا وجود للرضا، وبنفس الطريقة السابقة يقطع الإجابة في المنتصف: "إلّا.. الإنسان يقدر يحصل على الرضا الكامل، عندك الأنبياء -يلتفت للحضور- صحيح ولا لا؟". شمّر الطفل الذي بداخلي يديه، وأجبت: "لا الأنبياء ما وصلوا لدرجة الرضا الكامل، لأن"... "أتوقع أخذنا وقت طويل في المداخلة هذي، في أحد عنده مشاركة." ضحكت مجددًا والتفت على الشخص الذي كان على يميني، وقلت بصوت مسموع: "يقولك الأنبياء راضين، ونقدر نصير زيهم". بعد نهاية اللقاء مر على الجميع لمصافحتهم، وتوقف عندي: "ماشاء الله مشاركتك مثرية".. "كانت أثرى لو عطيتني فرصة"، ابتسم وأكمل فقرة المصافحة الملكية. أرسل النادي لاحقًا اعتذارًا على لسانه لجميع الحضور عن تصرفه، وأتذكر ألحقوها بعبارة سخيفة عن كرم أخلاقه وسعة صدره. كل هذا لا يهم لأن السؤال الذي ظل مُلحًا، ويعلم الله كم رغبت في ذلك الوقت أن يصله: "هل أنت راضٍ عن نفسك الآن؟".


استيقظ الطفل الأسبوع الماضي على نقاش في المواضيع التي ما إن تبدأ حتى يفسد في الود شيءٌ ما، وقطعت الكثير من الوعود على نفسي في عدم مناقشة أحد فيها إلا إن كان من الدائرة القريبة. كان الطرف الآخر من الفئة التي بدأت تكثر من حولنا، الفئة التي تجسّد حساسية مواقع التواصل الاجتماعي، ورأيها يتغيّر بتغيّر الرأي العام أو يرتبكون عند قراءة آراء مختلفة في التعليقات، وهم أنفسهم أصحاب الاطلاع على الحياة اليومية للمشاهير، ويعرفون الفروق بين الوجوه الكثيرة المتشابهة. هؤلاء يأخذون جميع الأمور على محمل شخصي، وتلاحظ أنهم يقدمون عشرات التحذيرات قبل إبداء الرأي: "هذا رأيي، بالنسبة لي، أشوف أنه"، وهذه الأفكار خلف الآراء -أخبرني صديق أنني أستعمل كلمة "يسيح/تسيح" بكثرة في تدويناتي، أحب الكلمة وأحب أول مرة سمعتها، ولكن من أجل جبر الخواطر، سأكمل بشكل مختلف- ولكن هذه الأفكار تذوب/تتبخر/تتلاشى عند أول نقاش، ويتوتر صاحبها، ويدخل في منطقة التأكيد على أن هذا الرأي الشخصي، ولا يعنيني النقاش معك، ولا يهمني أبدًا سماع فكرة مختلفة.


تحدثت مع صديق عن الموقف الأخير الذي ظهر فيه الطفل، الصديق الذي تخرج كلانا على يدي أبو عثمان، الصديق الذي أعرفه من 15 سنة، وبحكم العادة والطبع بارك جهود الطفل، أصبحنا في مرحلة نعامل "صديقك من صدقك" بشكل مختلف. المهم ظل السؤال المؤرق لماذا هذه الحساسية العالية والتمسك بالآراء وتفويت الكثير من البديهيات؟ أود التنويه على أننا لسنا علماء اجتماع، ولا أصحاب قهوة سوداء، بل كانت جلسة شاي على طريق أبو بكر الصديق، ووجدنا أن الفرق الجذري في نموذجين رئيسية: التحفيظ والشارع.


الأولى تتفق أو تختلف ولكن تؤسس مرجعية أخلاقية وإن كانت هشة أو ضعيفة، وتعطيك على الأقل فكرة التعاطف مع المستضعفين في الأرض، وأن الكون يمضي بالعدل، وإن التبس علينا هذا المفهوم، وأن كل مصائب الدنيا تجري لغايةٍ ما. الحلقات كأي تجمع إنساني، يمكن أن تمنحك إيمانًا يظل معك تواجه به معترك الدنيا، ويمكن أن تجعلك متطرفًا أو متحرشًا، وترسم لك المعالم الأولى لتقسيم العالم بين الصواب والخطأ أو الحق والظلم، ولكنك تكبر وتعرف لماذا الصواب صوابًا ولماذا الخطأ خطأً، وتبدأ تشكّل نظرتك إلى الحياة وأنت تعرف ما الذي يقوله الآخر لأنك ستحتك مع الغني والفقير والمغترب والمجنون والمغصوب والمتسامح والمتطرف والمتطفل وغيرها من مختلف أطياف الناس، وتدرك استحالة اتفاق الجميع على رأي في النقاشات المتنوعة، وإن كانت تنطلق من أفكار رئيسية ثابتة، والسؤال هل هذا ينطبق على جميع الحلقات؟ لا طبعًا أنا وهذا الصديق من المحظوظين، ولكن أود الاستفاضة في هذا الأمر لاحقًا.


الشارع على الصعيد الآخر غابة تصنع لك جلدًا سميكًا لمواجهة الحياة، تعتمد على نفسك في الذهاب إلى البقالة، ومعرفة الشتائم باللغة الهندية، يطاردك العامل وأنت تصرخ بها راكضًا وكأنه إعلان انتصار كبير، الجار الذي كان يحلم بأن يعمل في موجز الأخبار، ولكن شاءت الأقدار أن يمارس حلمه في استراق النظر ونقل الأخبار، الصراعات التي تنتقل من الأقدام إلى الأيدي أحيانًا مع الحارة الأخرى، سرقة السيارة للتفحيط، الابتسامة عند مرور الحافلة الصفراء، وغيرها العشرات التي تجعلك تُحيك الأعذار والمبررات بشكل جيّد جدًا، وتجعلك تبني دائرة أصدقاء بعد أن اختبرت الكثير والكثير من الأشخاص الذين تقاطعت معهم.


كان الطفل بداخلي منزويًا، وكما ذكرت خرج في لحظة نادرة، واليوم أصبح بإمكاني محاكمته بشكل واضح، وأسأله عن الرضا، وأقيّمه أخلاقيًا لأنه منذ متى وأنا أتلذذ بإحراج شخص بذلك الشكل، ومن ثم أضع الأعذار والمبررات التي تخرجني من المأزق الذهني الذي شعرت بعد نهاية النقاش، وربما تخرج هذه المحاكمة على شكل تدوينة دون ذكر الموقف السخيف عن طريق سرد النماذج التي اختبرتها في عملية تقييم للأفكار والأشخاص والحياة. الموقف بأكمله فرصة جيّدة للتذكير بأنه لا حاجة لاستنزاف الطاقة والجهد، بل الميل إلى الصمت أكثر -خصوصًا- عند مناقشة الفئة الحسّاسة من الأشياء، الفئة التي لا تختلف عن تعاطي أبو عثمان مع الأمور، آراء محدودة، واضحة وصريحة، وغير قابلة للنقاش، ولا تحتمل الاختلاف، وترغب في انتصارات صغيرة على الهامش. بعد الاعتذار لاحقًا عن الموقف، قال: "أصلًا ولا همني". في نهاية المطاف يفتقد الاثنان إلى النماذج/التجارب، تُعتبر من حظوظ الدنيا، التي تمكنهم من توسيع الأفق قليلًا.

الوليد
Alwaleed@hey.com

Join