أبطال خارقين
!سروال بفانيلة وجِلال مرقّش
أكثر سؤال يمر عليّ مؤخرًا: "كيف تجربة الأبوة؟"، وعلى الرغم من أنني أحب هذا السؤال، وأنوّع أحيانًا في الإجابة عليه، إلا أنني مدرك بأن الأمر ما زال مُبكرًا، مُبكرًا جدًا، ويكون تعليق الآخر غالبًا: "عقبال ما تشوفها عروس"!
عدة مواقف علقت في الذاكرة مرتبطة بالتجربة، أحدهم يجيب على سؤال تربية الأبناء: "زي ما تربيت تربيهم ما يبغى لها قراية"، لم أقتنع بإجابة سطحية بسيطة مثل هذه، ليس لأن الآباء لم يجيدوا التربية، ولكن لاختلاف كل الأشياء، وعقلية "سهالات" لا يمكن تطبيقها على أمر مُهيب مثل هذا الأمر. شخص آخر يحكي أن أخاه أصبح أكثر قُربًا من العائلة على الرغم من اعتياده على خلق مسافة بينه وبينهم، ومجموعة أشخاص آخرين يحمّلون كل مصائب الدنيا على عوائلهم، وبالتأكيد لا أحكم عليهم، في نهاية المطاف كل شخص بالغ لديه مطلق الحرية في البحث عن شماعات تطبطب عليه. في المثال الأول لم أبحث عن إجابة معينة، بقدر ما هي محاولة لتفهم نشأة الطفل، والتغيرات التي تُصاحبه، وبالتوازي طريقة تعاملنا مع هذه المتغيرات، والمثال الثاني عن العاطفة التي تُعيد ربط الفرد بأسرته، قبل أيام صديق يقول فيما معناه إننا على اليسار قبل تكوين العائلة، والمثال الثالث كيف يمكن تجنّب خلق العُقد الحقيقية والوهمية لهذا الطفل. الأمر المتيقن منه أن الطفل يرى والديه أبطال خارقين إلى أن يصل مفترق طُرق يقرر بعدها إذا ما كانوا فعلًا كذلك أم لا، ولا أتصوّر حجم الصدمة التي تصيب الطرفين حينها.
في جميع التجارب التي تنطوي على مشاعر مكثفة، أفضّل دائمًا تأجيل الكتابة عنها لأنني أخشى أن أفوّت بهارات الذاكرة لاحقًا، وأن أحصر الشعور في كلمات قليلة تظل الشاهد على تلك التجربة، لذلك الكتابة عن التجربة مؤجل إلى أجلٍ غير مُسمى، لكن صادفت مقال آلن ديبوتون الذي فرّغ العديد من المفاهيم وانعكاساتها على التجربة، ليست بالضرورة قواعد ثابتة في كل التجارب، ولكن تُعطي لمحة لأشياء قابلة للوقوع، أما أكثر أثار انتباهي هو أنني شعرت بعاطفة عميقة لكل آباء/أمهات الأرض، العاطفة الممتدة للمشاهد التي رأيتها قبل وأثناء وبعد وصول لين. تعلمنا هذه المقالة أن المهمة ليست يسيرة أبدًا، وليست أحادية بمعنى أن كل الأشياء ستصبح وردية، ويُخلق المعنى للحياة، والدهشة المجنونة لكل التفاصيل، والأهم من كل ذلك أن نتفهم أن الآباء حاولوا، بعضهم بشكل جيّد، والآخر بشكل سيء، ولكن في كل الأحوال يصعب لومهم على ذلك، تُعاد الحلقة بشكل مختلف، وندرك حجم العبء في وقت متأخر. ربما تستطيع هذه المقالة أن تخفف الحديّة في النظر إلى بعض الأمور، أن تعلمنا التسامح/الامتنان الذي أدّعي أننا نعاني من نقص حاد فيه.
كُتبت هذه الافتتاحية، وترجمت أجزاء من المقالة -ترجمة غير حرفية -أدناه على فترات طويلة، واكتملت تقريبًا تحت ظلال مشهدين مختلفين. المشهد الأول: اجلس في مقهى جافا تايم، مقهى المطاوعة، الدور الثاني، وأكتب هذا، آخر ما كُتب، ويوجد أمامي طفل تطارده أمه، يصرخ مبتهجًا، وتركض مُحرجة، وللمرة الأولى في حياتي لا تراودني الرغبة في مد ساقي لإيقاف هذا الإزعاج. المشهد الثاني: قبل أيام قليلة شاهدت فيلمThe Hunt الدنماركي، ومرعبة فكرة أن الآباء سيصدقون كل ما يريد الطفل قوله، وهذا ليس غباءً منهم، ولكن نتيجة عاطفة عميقة!
*فضّلت استعمال كلمة الأم واشتقاقاتها في بعض المواضع على الوالدين/الآباء في ترجمة كلمة Parents المستخدمة بكثرة في المقال أدناه، لثلاثة أسباب:
1. تجربة الأم أعمق بمراحل لا تُقارن بتجربة الأب
2. الأب في لحظات معينة يبدو كشاهد على الأحداث
3. لأنني لست مترجمًا!
شذرات من
مسرّات الأمومة ومآسيها
مقال آلن ديبوتون
يعتبر دور الأمومة من أصعب الأدوار في العالم، يمنح السعادة الفيّاضة، وفي ذات الوقت الإحباط المأساوي.
رسائل المجتمع
يهتف المجتمع بحماس للأم، ويؤطّر حضور هذا الطفل بأجواء احتفالية، وهذه البهجة والحماس، الصادق في معظمه، يولّد أو يحفز أقسى التبعات لأن التعبير عن الانزعاج أو المشاكل المرتبطة بالتجربة ستكون في غاية الصعوبة، وسيبدو الأمر وكأنه فشل خاص بالأم عند الشعور بالضيقة، وكأنها علامة عطب غير اعتيادية في تركيبتها، ويبدأ تأنيب الضمير وشعور بالذنب لا يمكن احتماله بمجرد عبور بعض الأفكار في ذهنها: الابتعاد عن العائلة لأيام قليلة، تفويت إمكانات الحياة قبل قدوم الطفل، الشك في التوقيت، وفي بعض الأحيان، بغض هذا الطفل المزعج.
تُعد العاطفة الجيّاشة التي يقدمها المجتمع قسوة غير مقصودة لأنه يركز كُليًا على الجوانب الوردية من التجربة: "تقر عينك بها/حافظة لكتاب الله/عروس... إلخ"، وبالتالي أي شعور لا يتسق مع هذه الرسائل سيتراكم بالسلب داخليًا، وتُفتح أبواب جلد الذات. علينا أن نتقبل ودون ذنب أن التجربة بأكملها عبارة عن ثنائيات متلازمة: مذهلة وصعبة/مُجزية ومستنزفة/مُثيرة ومرهقة. يجدر بالآباء تحمّل واستيعاب هذه الثنائيات، سيرحل الضيوف المبتهجون إلى حياتهم الخاصة، وسيتناوب الآباء وحدهم على تغيير الحفاضات آخر الليل.
المسؤولية
يصعب علينا في حياة "الكبار" تفهم أن معظم الأمور تقع خارج نطاق السيطرة، ولكن عند تربية الطفلة ننسى كليًا ذلك الإدراك الناضج، ستشعر الأم أنها مسؤولة عن كل الأشياء التي تحدث للطفل، وأي مشكلة تواجهه، لا بد من أن تمتلك حلًا لها. نعلم جيدًا أن المهنة لا يمكن عزلها تمامًا عن المنافسة، وأن الأمراض والأوبئة لا مفر منها، وأن الإنسان معقد، صعب، وحيد أحيانًا، وأنه من الصعب أيضًا العثور على الأصدقاء الحقيقيين، وحتّى الحُب أصبح نادرًا. لكن عندما يتعلق الأمر بالطفل، سننحي كل هذه الأشياء جانبًا، ونشعر بأن الأمور بوسعها أن تكون مختلفة، وهذا الاختلاف مرتبط بشكل مباشر بطريقة تربيتنا. نتمنى، كتعبير عميق عن الحب، أن كل القواعد العامة في الوجود البشري يمكن أن تعطّل من أجلهم فقط، والنتيجة الطبيعية للمسؤولية المُبالغ بها هي الشعور بالذنب، ولذلك نخاف من كوننا آباءً سيئين، نلوم أنفسنا على التعلق بفكرة جميلة، حساسة، مجنونة، وهي أنه في متناول أيدينا القدرة الكلية على خلق السعادة، والوقوف في وجه النواميس الكونية.
الحُب
حُب الطفل في البدايات لا يمكن مقارنته بأي حُب أو أي تجربة سابقة، وشعور الارتباط به غير مقيد ولا مشروط. نحب الآخرين لإنجازاتهم أو جدارتهم الشخصية، أما الأطفال نُحب كل ما يتعلق بهم، كل العثرات والتجارب الفاشلة، أن نشهد ذلك الضعف اللطيف والمدهش، الأحزان الصغيرة، المعاناة التي يمكن تجاوزها بقطعة حلوى، حتّى لو كانوا متطلبين وعاجزين عن الاعتناء بأنفسهم، سيغرقنا هذا بالحنان. لو أصابتهم ندبة فوق الحاجب، سنراها علامة مميزة، ولو يجاهدون في خطواتهم الأولى، سنظهر شفقة داعمة لهذا التحدي، ولو كانوا قرّاءً بطيئين، سنؤمن فعلًا أن القراءة لا تعكس قيمة الإنسان، ولو سقطوا مرضى، سنتمنى لو أن هناك إمكانية لحمل هذا الألم عنهم، وأخيرًا ندرك يقينًا أن سعادتهم تهمنا أكثر من سعادتنا الشخصية.
الحُب في حياة البالغين، مهما تكررت بينهم عبارات الحب غير المشروط، مقيّد بما يمنحه الآخر، ولكن يطيب لنا ولهم أن نعبّر عن حُبنا المجنون، حب الشوق المتلهف إلى إسعاده، والعزاء لآلامه، وتذليل الصعاب من أجله، وأحيانًا البهجة لوجوده فقط، وتوفير الحماية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولكن عند قدوم الطفل ندرك أن كلماتنا للآخرين مجرد كلمات.
الغضب/السلطة
مهما بلغ حُب الآباء عنان السماء، إلا أنهم في نهاية المطاف كائنات بشرية، والكائن البشري يغضب أحيانًا. قد تتعطّل حياة الأب لعشر دقائق كي يقنع طفلًا في السنة الثانية بارتداء الجاكيت أو بعد الاستيقاظ المبكر وتجهيز الإفطار، بيض مسلوق وتوست مقطّع بطريقة مثالية تجدهم يبتعدون مشمئزين؛ أو تربطهم إجبارًا بالمقعد الخلفي في السيارة، ليس لأنك عنيف (كما يشعر الطفل) بل لأن القانون يحتّم عليك ذلك، ومهمة شرح النظام القانوني خارج متناول اليد في تلك اللحظة؛ أو يكرهون الحضانة لأنك تتخلى عنهم عند غرباء عشوائيين في المكان الذي أعياك البحث عنه. أحيانًا لا يمكن الادعاء بأنك الحصان المجنّح لأن ركبتك ارتطمت بطرف الطاولة، ولكن الأطفال لا يتعاطفون، ولا يمكنهم رؤية حقيقة نواياك الطيّبة، بل اللحظة المحبِطة لإرادتهم الخاصة.
هذه الأيام، لا يمكن ببساطة أن نطالب أو نعطي بشكل رسمي أمرًا أبويًا -على الرغم من أن هذه الاستراتيجية فعّالة في معظم التاريخ البشري-. يجب علينا أن نقترح بدلًا من أن نأمر، وهذا أمر في منتهى اللطف. قمنا بنبذ السلطة لأننا نفضّل أن نكون محبوبين بدلًا من أن نكون مُهابين. نريد أن نشرح بدلًا من الاكتفاء بالأوامر، ونحاول دخول عالم أطفالنا الخيالي، ونشرح بطريقة عقلانية لماذا عليهم الذهاب إلى النوم (مع ذلك يقولون إنهم لا يشعرون بالتعب)؛ لماذا عليهم تجربة قطعة صغيرة من البروكلي (من يستمتع بالخضروات؟)؛ لماذا عليهم ألّا يتمددوا بكاءً على الأرض (بعد أن تطلب منهم عدم وضع أيديهم في فنجان القهوة)؛ لماذا لا يمكنهم البقاء ساعتين في البانيو أو أكل قطعة بسكويت لوتس (على الرغم من أنها، بكل صراحة، لذيذة).
عندها ستشعر بأمر مُريب، هؤلاء المزعجين ليسوا لطفاء! تفقد أعصابك على أكثر شخص تحبه في العالم، وفي نفس الوقت تكره نفسك، ومع ذلك، فإن كل شخص بالغ لطيف سيتفهم تمامًا أنك لست سيئًا، ولكنك تحاول القيام بشيء بالغ الصعوبة أفضل من أي جيلًا آخر، وهي توفير البيئة الآمنة والمناسبة للطفل، وأن تنضج إلى الحد الذي تتمالك فيه أعصابك، وتنسى تمامًا مونولوج الشتائم على طريق أبو بكر.
أن نقول: "لا!"
يحلم الآباء بالاستجابة السريعة لأبنائهم، ولكن يُختبر هذا الحُلم عند طلب الأشياء الضارة أو الخطيرة. على سبيل المثال يريد الطفل البقاء مستيقظًا على الرغم من التعب الواضح عليه؛ أكل أربعة علب من الآيسكريم بغض النظر عن التبعات المؤلمة؛ مشاهدة 25 حلقة من مسلسل كرتوني؛ الاعتداء على طفل آخر؛ استكشاف العالم السحري خلف منافذ الكهرباء. عند منعهم من هذه التصرفات، لن يفهم تصرفك على أنه شيء لصالحه، بل بكل بساطة سيشعر بأنك فظيع، بل ديكتاتوري، وهو عدوك المستضعف!
يقع معظم الآباء في الاختلاف الجذري للمفاهيم، نعم يمرحون ويتفاعلون، ولكن في مواقف معينة لن يستطيعوا التخلّص من دور صاحب السلطة العليا لأنه بإمكانهم رؤية التبعات والعواقب على العكس من الطفل، ولذلك هناك ثمن لتحقيق رغبتنا الصادقة في أن نراهم على أفضل حال دائمًا، وهذا الثمن مُحبط لهم.
التقدير
لا أحد يشك في أن تجربة الأمومة تنطوي على العديد من الأعمال، والانشغال اللانهائي من الحرص والواجبات، ولكن هذا لا يلغي كونها مصدرًا لأكثر اللحظات شاعرية. اللحظات التي تفلت أحيانًا، ولا تُلاحظ في الحياة اليومية الممتلئة، ابتداءً استشعار هيبة وفتنة خلق هذه الحياة، أو رؤيتها تنام بوداعة، وحتى التعبير عن الأفكار الساذجة، قبضة الكف الصغيرة على الأصابع، التعبير الأقصى للحماس عن طريق القفز على السرير، محاولة مساعدة الآباء، عند الضحك والابتسامة، عن العطسة والتثاؤب، عند النوم في خط سفر، والالتباس لاحقًا في تحديد المكان والزمان.
يُلفت الانتباه دائمًا للتطورات الجسدية التي تحدث للطفل، سلسلة الأوائل المذهلة: السن الأول/الكلمة الأولى/الخطوة الأولى/اليوم الأول في المدرسة... إلخ. توجد هناك إنجازات قد لا تُلاحظ بسهولة مثل خلق الكذبة البيضاء الأولى، الشعور بالأسف لتصرف ما، مسامحة طفل آخر، النكتة السخيفة الأولى، أحلام اليقظة في الصالة. التطورات النفسية لا تقل أهمية ومتعة عن التطورات الجسدية، وملاحظتها جيدًا سيضيف مواضيع جديدة ومثيرة للحديث عنها معهم لاحقًا، ومع الأجداد والأصدقاء الذين لن نمل من مشاركة صور أطفالنا معهم، ومراقبة ردود أفعالهم المتوترة في إبداء التعبير المناسب.
تقدير هذه الأشياء الصغيرة يُثري تجربة الأمومة، وإدراك أن الرحلة مهما بدت مُرهقة إلا أنها تظل ممتعة في تتبع تلك الأشياء. لا تتوقف التجربة عند هذه المسرات والآلام فقط، ولكنها تُعيد اتصال ذواتنا، بغض النظر عن الطبقات المعقدة والمحبطة التي راكمتها تجارب الحياة، بماضينا البريء. سيفتش البالغ عن الجزء المحبوب والضائع من نفسه، الجزء اللذيذ بشكل مؤلم الذي يجعله يُدرك إلى أي حد يمكن للحياة أن تكون قاسية. في لحظات الكشف تلك، لن نمتلك إلا مقاومة سيل الدموع قدر الإمكان.
جيّد إلى حدٍ ما
لاحظ دونالد وينيكوت، المتخصص في الصحة النفسية للآباء والأطفال، أن معظم الآباء المُراجعين في العيادة مُحبَطين من أنفسهم، يشعرون بأنهم فشلوا كآباء، ويكرهون أنفسهم لذلك. كانوا يخجلون من خلافاتهم العرضية؛ المزاج الحاد المؤقت؛ الملل من أبنائهم؛ الأخطاء المتكررة؛ تُطاردهم الأسئلة المُقلقة: هل نحن متزمتون/متساهلون/وقائيون أكثر مما ينبغي؟ أم أننا لسنا كذلك بشكل كاف! أكثر ما أثار فضول وينيكوت أن معظم هؤلاء الآباء ليسوا سيئين، وليسوا كذلك مثاليين استنادًا إلى المعايير الوهمية عن الكمال. لكن كما يقول: "آباء جيدين بما فيه الكفاية".
"جيّد إلى حدٍ ما" أفضل من المثالي لأنه في نهاية المطاف، سيعيش الطفل ما تبقى من حياته في عالم غير مثالي أبدًا!
لا يمكننا المُضي قدمًا في الحياة إذا كنا معتمدين فقط على هؤلاء المثاليين الذين يحيطون بنا، المثاليين الذين لا يعرفون الغضب، ولا يظهرون التعب، ويمتنعون عن إبداء الإحباط، ولا يتصرفون تصرفات غبية. في تجربة الأمومة، تُمارس هذه الأشياء بلا وعي أحيانًا، ليس لأنها سيئة، ولكن لأنها كائن بشري! تُغني هذه التصرفات تجربة الطفل، والمثالية الصرفة في تربيته ستنهار تمامًا عند أول مواجهة للعالم الخارجي.
سخرية الأقدار
من أكبر المنجزات التي يحلم بها جميع الآباء الجدد هي تجاوز الأخطاء التي واجهتهم خلال النشأة، تبدأ الفكرة بعدم الضغط على الأبناء لفعل أي أمر ضد إرادتهم، ومنع المشاكل المادية عنهم، وسيكونون الدرع ضد كل شرور العالم، وسيحاولون تطبيق الفكرة الواهمة التي تقول بأن كل الأشياء ممكنة، والجميع يعلم أن الحياة في معظمها سلسلة اختيارات غير متوقعة.
كل محاولة لتجنّب تلك الأخطاء أو الالتفاف حولها، تأتي بنتائج عكسية، نتائج على شكل سخرية مجنونة. تدرك الأم مع مرور السنين أنها خلقت مجموعة جديدة من المشاكل، ربما لم تفقد أعصابها أبدًا، على العكس مما فعله الآباء سابقًا، ولكن تكتشف أن الطفل بشكل ما أصبح عنيدًا ووقحًا! وتعلم جيدًا أنها لم تكن كذلك أبدًا في سنهم؛ أو ربما حاولت أن تشرح قراراتها بأوضح صورة ممكنة، على العكس من الآباء الصارمين، ولكن تجد أن الطفل لا يستمع، كما فعلت سابقًا بامتنان! ولكن هذه ليست مشكلة متعلقة في الأم، بل تغير الأجيال على مرور الزمن، وتُصيب الآباء عندما يحاولون الابتعاد عن الأساليب القديمة في التربية، ولاحقًا عندما يصبح الأبناء آباءً، سيشعرون بالشيء ذاته في منطقة مختلفة.
العلاقة الحميمية
الطفل عدو الجنس الأول، وكما هو متوقّع لا يقع الخطأ عليهم؛ لا يعترفون بفكرة خصوصية البالغين، يمكنهم الاستحواذ على كل الوقت، وكذلك البكاء بلا تحرّج آخر الليل، ويأتي معهم عدة مشاعر لا تتأقلم جيدًا مع تعقيد الرغبات الجنسية. يتطلب الطفل، بل يُحفز، جانب العطف والمسؤولية والنضج من طبيعتنا. بينما تُحفز الرغبات الجنسية من الجوانب المظلمة من شخصياتنا؛ العنف، الجموح، الوقاحة، وحتى البدائية!
من خلال الطفل يُعاد الاتصال بالبراءة، وبالمقارنة تبدو الملذات الشهوانية مثيرة للاشمئزاز. يظل العقل مرتبطًا بالحكاية التي رويت قبل دقائق على الطفل، ويقلق هذا العقل من تلك العطسة، هل هي بوادر زكمة؟ ينخفض الجنس، في معظم الأحيان، عندما يصبح الزوجان آباء، لأنه من الناحية النفسية يصعب الوصول إلى ذواتنا الأكثر جاذبية، ويشعرون بأهمية ترك مساحة شعورية كافية عن الجسد، وتتحول غرفة النوم إلى ذكرى إغماءة عميقة، وهمس للخلافات العائلية.
الخلافات
يربط الطفل الأبوين بطريقة عميقة، الطفل الذي سيصبح دائمًا الحليف العاطفي للطرفين، ولكن لأن الاثنين تحديدًا يحبون هذا الطفل، ستنشأ مناطق جديدة للخلافات. ربما لديك موقف متطرف من حل الواجبات المدرسية، هل هي مسؤوليتك؟ أم يجدر بالطفل الاعتماد على نفسه؟ ماذا عن مواعيد النوم؟ وهل كل وعكة صحية تتطلب زيارة الطبيب؟ هل يمكن ترك الطفل عند الأجداد في نهاية الأسبوع؟ هل الحضانة/المربية جيدة بما فيه الكفاية؟ عندما يُقرران قضاء ليلة رومانسية في مكان معيّن، ويقرر الطفل البكاء، هل يلغيان الفكرة أم أنها ليست إشكالية كبيرة؟
يصعُب تقديم التنازلات، لأن الأمر غير متعلق بتفضيلات الطرف الآخر أو برغبة شخصية، كل جدال يتعلق بمستقبل هذا الطفل، تريد قدر الإمكان تسهيل حياته، ولذلك ستشعر أحيانًا أنك محاصر في خلاف مع الطرف الآخر الذي يهتم لذلك المستقبل كما تفعل تمامًا، بل وأكثر.
التناقض/الازدواجية
مُقلق جدًا تغير الطفل من كونه لطيف إلى عدائي، قبل دقائق يلعب بمرح، والآن يحاول التخلص منك أو يعبر عن الغضب بملامح مزعجة. كيف يمكن أن يكون هذا ذات الطفل؟ هل ارتبكنا خطأً ما؟
في هذه اللحظات الصعبة، تؤكد ميلاني كلين، المحللة النفسية لتطورات الطفولة، أن الطفل يقسّم الطفل الآباء إلى أيقونتين مختلفة، الأب/الأم الجيّد والعكس. في واقع الأمر هو ذات الشخص، ولكن حياة الطفل الداخلية ترى الأمور بشكل مختلف. كل الأشياء اللطيفة تُمنح لأحد الطرفين، والطرف الآخر يصبح مصدرًا الإزعاج. لا يستطيع الطفل تخيّل أن الأم على سبيل المثال يمكن لها أن تكون محبوبة ولطيفة وفي نفس الوقت منشغلة، أو أن الأمور المزعجة يمكن أن تحدث لها، وإن حدث فإن هذا الشخص السيء قرر الظهور. الأب الجيد لن يرغمه على النوم أو يبدي ردة الفعل المجنونة عندما يقرر تغطيس الهاتف في المرحاض، أما ذلك الذي يُرغم أو يمنع فهو السيء الذي ظهر فجأة.
يتعلم الطفل بشكل متدرج، وبصعوبة أيضًا، الحقيقة الكئيبة، التي تتطلب حياة كاملة لاستيعابها، أن الشخص ينطوي على جانب لطيف ومزعج، وأن كل إنسان فيه الضد وضده، نهار وليل، أفراح وأحزان، يضحك ويبكي!
عندما يقول: "أكرهك"
لا يمكن تخيّل شعور أسوأ من أن يعبّر طفلك بغضب: "أكرهك" أو أي عبارة تدل على الامتعاض الشديد.
الأصعب من ذلك أن نتخيّل مستوى الثقة والأمان عند الطفل لمقدرته على التعبير عن الغضب أو الرفض لوالديه، ولا يُعد هذا فشلًا في التربية. في جوهر الأمر، يتعلّم الطفل أن بإمكانه النجاة حتّى وإن أظهر كل هذا الانزعاج. يمكنه إظهار العنف ولا يشعر بالخوف من ذلك، لديه مساحة آمنة كي يبدي هذا الانزعاج، ولا يكتمه في داخله. يدرك أنه محبوب للدرجة التي يمكنه فيها التعبير عن الكراهية. يقول دونالد وينيكوت: "لينشأ الطفل ويتمكن من اكتشاف أعمق الأجزاء في طبيعته، يجب عليه تحدي شخص ما، وفي بعض الأحيان كرهه، دون أن يكون هناك خطر من الانفصال في العلاقة".
يحتاج الطفل أن يكون رافضًا وفظيعًا، ليصبح لاحقًا ممتنًا وحكيمًا!
التمرد
يتمنى بعض الآباء لو كانوا يمتلكون أطفالًا يتبعون القوانين، يمكنهم الشعور بالارتياح عندما ينفذ الطفل الأوامر بشكل آلي، ولكن لو حدث هذا فعلًا فهناك أمر مُريبًا يتعلق بهذا الطفل اللطيف والجيد دائمًا!
يرى وينيكوت أن الطفل يجب أن يتمرد أحيانًا بلا خوف من العواقب، وكما ذكرت سابقًا الأريحية في التعبير عن المشاعر السيئة، خلال رحلة الحياة، سيصادفها بعدة أشكال، في هذه المرحلة التي ما يزال الآباء يمتلكون زمام الأمور، يستطيعون التعامل معها بشكل مُثري للطفل. "الطفل الجيد" تحت الضغط المستمر من الآباء سيدّعي لاحقًا أنه لطيف ومُطيع، وربما بالذنب عند الخروج من هذا الإطار، ولطالما كانت الجوانب الإبداعية، المثيرة للاهتمام، والطموحة تنطوي على شيء من المخاطرة، ولا توجد مخاطرة عند انشغال الطفل بجذب انتباه الآباء في محاولاته المتطلعة دائمًا للحفاظ على صورته الجيدة.
في الحياة نصطدم بالجوانب الفوضوية، والمراوغة، والسخيفة، ونتعاطى معها في معظم الأحيان بالتفهم والتجاوز والمسامحة، وهذه الصفات المذهلة عند البعض ليست نتيجة إعفاء خاص من السوء أو الأنانية أو المزاج المتقلب. الطفل الذي يشعر بأنه مُطالب بإنكار تلك الأجزاء من نفسه، سيكافح للاعتراف بواقع الآخرين المعقد، وكما تُشير بعض الدراسات أن الشخص الممل، الجامد، المتكيف كان مطلوبًا منه أن يكون جيدًا عندما كان طفلًا.
التعامل مع المشاعر السيئة
يمكن تفهم فكرة أننا نحاول خلق متراس يقي أطفالنا من الحزن، نشعر بأننا يجب أن نسعدهم ونشتتهم عن الأشياء المؤلمة، ولكن يمكن، دون قصد، أن ننقل لهم أنه من غير الممكن أو المسموح لهم الشعور بالحزن، حتى في أبسط الأمور الطبيعية، سيدّعى الطفل أنه سعيد وبلا مشاكل. نحاول هز الطفل على أمل إنتاج ابتسامة؛ نشتري العديد من الهدايا لمنحه شعور الإثارة، وإذا حدث أي شيء بشكل خاطئ، فغريزتنا وتصرفاتنا تؤكد على أنه لا داعي للقلق، البهجة هي الحل.
أحد الأسباب التي تدعونا إلى نفي الأحزان عن أطفالنا هي مقاومتنا الدائمة لمشاعر الإحباط والحزن. نحاول استخدام الطفل ليدير مشاعرنا الخاصة، والسبب الآخر هو أننا نتعامل مع الحزن كدليل على فشلٍ ما، إذا كان الطفل لا يضحك، فهذا يعني أننا آباء سيئون، وهكذا نخلق دون أن نعي انطباعًا حادًا أن الأمور لا تجري على ما يُرام عند المشاعر السيئة، على الرغم من أنها في الحقيقة ردود أفعال طبيعية للحياة وتجاربها المختلفة.
سنشعر كذلك بالعجز أمام معاناة الطفل، مهما رغبنا في الوقوف أمامها. تتحطم اللعبة المفضلة؛ تنمر وقح في المدرسة؛ عدم الاختيار لمجموعة ما. لا يمكننا منع هذه الأشياء من الوقوع، ولكن يمكننا منحهم طرقًا أفضل للتعامل مع الإحباطات المختلفة. ابتداءً، توجد دائمًا مساحة داخلية للحزن، بدلًا من الادعاء باللامبالاة أو الغضب. هناك فرق بين الحزن لعدم الاختيار في فريق كرة القدم (مع بقائها هواية ويمكن لعبها لاحقًا)، وبين أن كرة القدم لعبة الأغبياء. الشعور بالحزن ليس لطيفًا على الإطلاق، ولكن في الواقع هو أفضل بكثير من الخيارات الأخرى. الحزن غالبًا استجابة مناسبة، ومدرَكة، وذكيّة، وكذلك بنّاءة في حياة الكائن البشري.
هناك أيضًا مرحلة التفهم، عندما يُصر أحد ما على الوقاحة أو الأذية فهو على الأغلب يعاني خلف الكواليس، لا يمكننا رؤية تلك الآلام، مهما أظهر الثقة في نفسه، ولكنه في حالة سيئة لأنه لا يوجد شخص سوي يتلذذ بالإساءة إلى الآخرين، وينال الرضا منها. يمكننا تعليم أطفالنا مهارة المعاناة الجيدة، بالنظر إلى الأمور بشكل مختلف، ومحاولة تبسيط فكرة أن العالم سيء لأنه مسكين، لأنه يعاني، ومن يدري ربما نقتنع بأنفسنا أيضًا!