تشريح حُلم عابر

قليلة هي المرات التي أتذكر فيها الأحلام بصورة واضحة، وتبدو لي أنها عادة سنوية فيها أحلام متتالية وكل واحدة منها أوضح من الأخرى. أتصوّر أنها مرتبطة بشكل كبير بالمنبهات التي قررت إلى الآن مئة مرة قطعها من بعد غروب الشمس، ولكنها مسراتنا الصغيرة يا الله! الأسابيع الماضية حافلة بأحلام مجنونة، ولا يوجد بينها رابط مباشر، وآخر مفسر للأحلام عرفته شخصيًا كان في المرحلة المتوسطة، الوقار المعطّر براحة النشا، والمرزام/الهرم الذي يقف عليه الطير، والتمنّع عن تفسير شطحات المراهقة كان يضفي مصداقية مذهلة، ولا أعرف كيف بدأ الأمر ولا في أي أرض يسير اليوم! المهم استيقظت من أحد أحلام هذه السلسلة وأنا مندهش من العناصر التي جُمعت في مكان واحد، وهذه تدوينة تستعرض العناصر وتنتهي بالحُلم العابر:

 

كود
بدأ الولع بألعاب البلايستيشن متأخرًا، وأتصوّر أنها بدأت أيام كورونا، عالم مذهل وممتع وبعضها متكامل من حيث القصة والموسيقى وطريقة اللعب. لا أحب الألعاب الجماعية أو الأون لاين، ولا ألعاب الأسلحة والمتفجرات. وبالعادة شراء الألعاب يكون بالتقاسم مع الأخ الأصغر. أقنعني بطريقةٍ ما تجربة لعبة "كود"، وفُتنت باللعبة من البدايات الخجولة وصولًا إلى مرحلة التعريق، والمعرّق أحد المصطلحات الكثيرة في مجتمع اللعبة الذي تشعر بأنهم يعيشون في عالم مواز ما زالت فيه أرقام القبائل تعني شيئًا، والمعرّق يعني الذي يجلد ولا يبالي، والوصول إلى هذه المرحلة يتطلب غض النظر عن سيل هستيري من الشتائم، وتذكير دائم بأنك: "نوب!". الشيء الذي تمنحه إياك كود هو الهروب من ضغوط الحياة، وهذا الهروب/التفريغ يختلف من شخص إلى آخر. تجد أحدهم بالصوت المرتفع والشتيمة، والآخر بقضاء الساعات الطويلة أمام الشاشة، وهناك المعرقين الحقيقيين الذين يجمعون بين الاثنين. يوجد شعور لذيذ في الانتصار، وألذ منه ردة فعل المهزومين. 

 

لا توجد كلمات تصف الحماس والتوتر إن بقيت الأخير في الفريق، وأمامك خمسة أو أربعة من فريق الخصم، وبطريقة ما تخلصت من أحدهم. تسمع فجأة: "حيّ عينك، وحش، أنت تستطيع"، ولا تجد نفسك إلا مكررًا: "أزهلوا، ابشروا بي". الجدير بالذكر أنه في اللحظة التي "تتزهل" فيها، يأتيك صاروخ آر بي جي من حيث لا تحتسب! وللأمانة التاريخية حذفت اللعبة الأسبوع الماضي، لأنني اكتشفت أنني تجاوزت الحد الأسبوعي الذي يصنف فيه المرء ضمن اضطراب ألعاب الفيديو، الحد الذي أخذته من أول نتيجة بحث، الثاني يقول إنني ما زلت ضمن النطاق، والثالث يؤكد أنني بعيد كل البعد عنه، وما زلت حاذف اللعبة إلى كتابة هذه التدوينة.

 

لوحة

أحب المتاحف، وتحدثت في تدوينة سابقة عنها، وكما تلاحظ عزيزي القارئ كبرنا وصرنا نحيل إلى التدوينات السابقة! تتكرر الأعمال التي تصوّر الحكايات المسيحية، والتي نشأت ابتداءً للوعظ وتعليم الناس، وتصوير القديسين لتخليدهم، وعلى سبيل المثال تجد صلب المسيح بعدة أشكال على مر العصور في الفسيفساء، والنحت، والرسم في مختلف مدارسها.

 

توجد بعض اللوحات الذي تثير الحس الفكاهي بداخلك، أتذكر المرة الأولى التي رأيت فيها لوحة رأس النبي يحيى بن زكريا أو يوحنا المعمدان على طست فضي، تحمله فتاة بشعر أشقر وفستان أخضر، وتشيح بالنظر بعيدًا. ما أثارته هذه اللوحة هو تساؤل: "من هذه النسوية المجنونة؟"، ولا يمكنني تحديد إذا كان هذا يمكن إدراجه ضمن الفكاهة أم لا. الحكاية أن الملكة طلبت رأسه بعدما أقنعت الملك لأسباب لا يمكن التأكد منها، بعض الروايات تقول إنه مانع زواجها من الملك وأخرى تقول إنها أحبته سرًا وتمنّع من تلبية نداء الطبيعة. قبل أسابيع يصوّر أحدهم متحف أوفيزي في فلورنسا، وأول لوحة تذكرتها هي لوحة رأس النبي على الطست، واختلط الأمر علي هل كان يحيى أم زكريا. أيًّا كان السبب الحقيقي لمقتله، تجنّب قدر المستطاع غضب المرأة!

 

عملاق صغير شاذ

مؤخرًا أصبحت الأشياء تختفي من المنزل، وآخر الضحايا "ريموت" التلفزيون. بحثت عنه في الأماكن المعتادة، تحت الطاولة، بين الكتب، داخل الكنب، وسط سلة الملابس، بالوعة المطبخ، صندوق الأحذية، ولا يوجد أي أثر. تذكرت أن جهاز البلايستيشن يوفر كل منصات الأفلام المعتادة، وأصبحت أعتمد عليه. السؤال البديهي لماذا لا أحضر جهاز تحكم جديد بدل هذا العناء؟ والجواب العناء في إضاعة وسط الأسبوع بحثًا عن جهاز، ونهاية الأسبوع للتسدح والتبطح. المهم من ضمن البحث عن التطبيقات على الجهاز وجدت برنامجًا متخصصًا في أفلام/مسلسلات الأنمي، وكما هو متوقع أول ما يُعرض هجوم العمالقة، وصورة العملاق الضخم يُطل من وراء السور، الإطلالة التي جعلتنا نتعلّق بهذا العمل الفاتن. 

 
الأبراج الشاهقة
تبادر إلى ذهني تسمية هذا العنصر بالبرج العاجي، ولكن تساءلت لماذا يُسمى "البرج العاجي"؟ ويبدو أنه مصطلح بدأ من أحد الأسفار كمصطلح للنقاء النبيل، وذُكر في نشيد الأنشاد: "عُنقك يشبه برج عاجي"، إلى أن وصل المصطلح إلى وصف المثقفين البعيدين كل البُعد عن الواقع، وهذا على ذمّة ويكيبيديا. أثار فضولي البحث عن المعنى في قودريدز، ووجدت أن توفيق الحكيم يقول: "إن البرج العاجي هو المكان المرتفع الذي يشرف منه الفِكْرُ الطليق على الحقائق المجردة من الهوى والمصالح الشخصية، وإن كل إنسان ولا سيّما المفكر والفنان له في حياته منطقة حرة عالية يخلو فيها إلى نفسه ليرى الأشياء في صفائها، فالبرج العاجي للإنسان كالبرج العاجي للحمَامِ؛ في النهار يهبط الحمام إلى الأرض ليلتقط حبات رزقه ثم يطير إلى أعالي برجه، ولو كان له ما للإنسان من طبيعة التفكير لكانت له تأملات وهو في برجه مثل تأملات الإنسان في برجه"، المثقفين ياخي مالهم علاج! المهم يبدو لي أن هذه الأبراج يبنيها الإنسان بنفسه أو ممّن هم حوله، وفي عالم الأعمال أجد الكثير من التسميات في التواصل مع الأشخاص تثير أعصابي مثل أستاذ/الدكتور/سعادتكم... إلخ. 

 

حضرت أحد الاجتماعات ونائب مدير القسم شخص تقاطعت طرقنا مرات قليلة أيام الجامعة، وبداياتي هناك كان في سنواته الأخيرة. في فترة التدريب كان المشرف غير المباشر على البرنامج العام. تمضي السنوات وصولًا إلى اجتماعنا هذا. وشعرت من لحظة الوصول أنه ما يزال يراني ذلك المتدرب الذي ترك الحفل الختامي لرحلةٍ ما وطالَبَ بالشهادة لاحقًا. المُلاحظ أن الجميع ينادونه بـ"أستاذ فلان"، أربعة أشخاص في القاعة لا يمكنهم الاعتراض على فكرة يطرحها، ولا حتى ابداء رأي في الأمر دون التحبب والتودد بـ"أستاذ فلان"، ولا أبالغ لو قلت إن عينيه تلمعان في كل مرة تُلقى فيها هذه الكلمة، وبحكم أنني من طرف خارجي، بدأ أحدهم الخطاب معي "وش رأيك أستاذ الوليد؟"، والسؤال الآن هل لمعت عيني؟ كادت. بدأت أناقشهم وكل شخص باسمه المجرد، وشعرت بانتصار صغير ولذة طفولية في وضع الناس في منازلهم، في إبعَاد الحمام عن الحبوب، بالنظر إلى عينيه بشكل مباشر وأنا أكرر الاسم لسبب وبغير سبب. أنت في نهاية المطاف أبو فلان أو فلان أو فلانة في أي اجتماع عمل. جرّب أحد الأصدقاء أم فلان، وكانت النتائج كارثية!

 

يوم القيامة

يكبر المرء ويكتشف معه أنواع جديدة من القلق: المستقبل، المجهول، الوظيفة، الأبناء، والمرض وغيرها في قائمة طويلة لا تنتهي وتتجدد بناء على كل مرحلة عمرية. أقدم فكرة مُقلقة أعرفها وأتذكر شعوري فيها هي فقدان الوالدين، وتأتي في المرتبة الثانية يوم القيامة. عقلي الصغير يعجز استيعاب فكرة الحتمية المطلقة في وجود يوم تجتمع فيه ملايين البشر في مكان واحد، ودرجة حرارة هائلة، والأصوات تضيع في البكاء، والأطفال تشيّب شعورهم من هول هذا اليوم، والأحباب يطارد بعضهم البعض من أجل حسنة واحدة يمكن أن تعيد موازين الأشياء ولا مُستجيب، لا المرء وأخيه، ولا الأم وابنها، ولا الزوج وزوجته. في ظل هذه الفوضى العارمة، تُنادى الأسماء وتتم محاسبتهم، وتأتي اللحظة الحاسمة الصراط المستقيم وخطافاته التي يمكن أن تنقذك. خطّاف يعني أن تُعيد المحاولة بجرحٍ غائر!

 

 أتذكر في كل المرات التي يُطرح فيها الأمر في المراحل الدراسية المبكرة عن يوم القيامة والجنة وحور العين، تفكيري يتوقف تمامًا عند يوم القيامة. الفكرة المُقلقة أنني مهما عملت في هذه الدنيا، وبغض النظر عن مآلات الأشياء، هذا اليوم المرعب قادمٌ لا محالة. أتذكر أنني قررت في تلك المرحلة تعلم الجمباز، وتعني ابتداءً التشعبط بالأبواب، وتسلق المكيفات إلى أن أصل للمرحلة التي أتمكن فيها من المشي على الحبل، ينتظرني صراط مستقيم!

 

الحُلم العابر

أستيقظ على برج هائل يُطل على أرض صفراء تتسع إلى آخر ما يُمكن إدراكه البصر، للوهلة الأولى تشعر بأنك في صحراء قاحلة، لكن هذه الصُفرة انعكاس الشمس القريبة من الأرض اليباب، وفي اللحظة التي أدركت أننا في يوم القيامة، يظهر خيال عملاق هائل يأتي من الأفق البعيد. الأصوات تتعالى من خلفي تعبيرًا عن حالة الهلع، ومن سوء الحظ أنني من ضمن الجموع التي تُطل بشكل مباشر من أعلى هذا البُرج. شعرت أن الشخص الذي يقف على يميني ينظر إليّ، التفت، وأجابني دون أن أسأل: "ما أعرف اسأل النبي زكريا وراك!"، التفت إلى الجهة الأخرى، لحية كثة وشعر طويل، وعيون ساهمة تجاه الكائن الضخم الذي يقترب، سألته: "زكريا، وش الوضع؟". وبحركة سريعة، ينحني إلى الأسفل وهو يردد: "أزهل.. أزهل"، يرفع آر بي جي ضخم، ويوجهه نحو العملاق، وفي لحظة إطلاق الصاروخ، يرنّ المنبه الرابع للدوام.

الوليد
Alwaleed@hey.com

Join