البحث عن أماديس!
رأيه ينزل من عالم مجهول كنت أسعى إلى الارتقاء إليه، وبما أني كنت مقتنعًا بأنّ أفكاري كانت لتبدو محض سخافة لهذا العقل التّام، محوت ما في ذهني من آراء بشكل كامل، لدرجة أني حين أصادف واحدًا منها كنت أعتنقه بنفسي... في هذا الكتاب أو ذاك من كتبه أشعر بقلبي مفعمًا كما لو أن إلهًا طيّبًا أعاده لي وأعلنه رأيًا مشروعًا وجميلًا
دون كيخوت دا لامنتشا عن أماديس
قبل عدة أشهر بدأت في تدوينة عن معركة دون كيخوت ضد الطواحين الهوائية، ومعاركنا التي تشبهها في أيامنا هذه، واستعارة "الحياة ساحة قتال" باتت متكررة ومزعجة، ولكن أحبها! لسنا فرسانًا مهما ادعينا ذلك، والدنيا لن تتوقف عن مناورتنا أبدًا. الحديث عن هذه المعارك مؤجّل إلى أن أكمل قراءة العمل، بعد التوقف للمرة الثالثة في المنتصف لضيق الوقت أو بالأحرى قِصَر النفَس. تمضي الأيام، ويصادفني الفارس المجنون في موقع آخر، في موقع المُحاكي لشخصية يراها أعظم فرسان الأرض، يتخلى دون كيخوت بطيب خاطر عن أحد أهم الشروط الأساسية للفرد، وذلك بخلق رغباته الخاصة عن طريق استعارتها من الآخر.
أصبحنا نعيش في عالم يُحاكي بعضه الآخر، وربما عشرات المرات في اليوم. المحاكاة تبدأ من الكلمات التي يرددها من نحب، تعديل النظارات بنفس اللمسة، وأحيانًا حك الشعر بالطريقة ذاتها، وصولًا إلى الاستنساخ شبه التام في الاهتمامات، وكأن الإنسان في سعي دائم للتماهي مع الآخرين، كأن الحياة مصنع مانيكان هائل. اليوم نرى تشابه الوجوه وتراكم الصور بعد معارض الكتاب بالطريقة ذاتها، وكلمة عاجل على كل الأشياء، والمربع الأصفر العريض حتّى يلتفت لها العابر، وتصوير الأحداث التي يراها/يعرفها الجميع، والتعبير عن قضايا لمجرد التعبير، وولادة شخص معتوه كل يومين يتحدث عن أسرار الحياة ومساراتها، والكل يبدو في حفلة محاكاة مجنونة.
ألاحظ أحيانًا في المجالس يطرح أحدهم تجربة معينة، وفجأة يزدحم المكان بسيل التجارب المدهشة، سباق محموم للمشاركة، ويمكن فهم الأمر على أنه في إطار الفلك العام للموضوع المطروح، ويمكن كذلك رؤيته على أنها منافسة خفيّة، ويلفتني أكثر من كل هؤلاء الأشخاص المتوارين الذين لا يتحدثون، أراهم أحيانًا يحاولون التخلص من الإجابة بأي طريقة ممكنة، قد يبدو تحفّظًا مفهومًا إلى حدٍ ما، ولكن أتصوّر أنه في تلك اللحظة تحديدًا يولد الشعور بالنقص، الشعور الذي يمكن التقاطه بالتركيز قليلًا. ما الذي يحدث عندما يتحدث الآخر عن مدن الدنيا وهذا أقصى تجاربه توزيع الموز على خط الهدا؟ أو عن غزوات النساء وهذا يشعر بأنه مجهود مرهق في طريق معالمه غير واضحة؟ أو حتى حكايات معارفه في كل مكان وهذا لا يعرف إلا أن الحلّاق يشعر بالندم على إحضار أبنائه للرياض؟ والعديد من الأمثلة التي شعرت بها وسط أي حديث جماعي، ويمكن القول على ضوء ما سبق إن إبراز العضلات في المجالس والمنافسة عليها أمر يمكن استيعابه، ولكن ماذا عن الرغبة الخجولة الصامتة التي تولد في هذه اللحظات؟ رينيه جيرار يطرح فكرة أن الرغبة -الشعور بالنقص- يؤدي إلى طريقين إما تأليه النموذج أو الافتتان الحاقد!
في الحالة الأولى يشعر المُقلد/المريد/الآخر أنه مهما سعى في هذه الأرض لن يصل أبدًا إلى النموذج، وبالتالي لا مفر من الإعجاب المتطرف به، حتى الأشياء تصبح عديمة المعنى ما لم يتحدث عنها النموذج. قرأنا عشرات الكُتب السخيفة التي سمعنا مديحًا لا نهائيًا لها وكأنها بلغت أقصى درجات العُمق. العمق الكلمة التي لا أفهم معناها إلى اليوم، وتبدو لي أنها هروب من التعبير الحقيقي عن شعورنا تجاه الأشياء، لن يموت المرء فجأةً إن صرّح بعدم الفهم أو عدم الإعجاب، ولكن يلجأ البعض إلى اختزال هذا اللَبس في الشعور بكلمة: "التجربة عميقة/لمست مناطق قصية"، ماذا يعني بالعُمق؟ وماهي المناطق العميقة التي لُمست؟ حفظ الله مناطقنا الخاصة والعامة من اللمس! يبدو لي أن هذا اللَبس يوجد لأن النموذج تحدّث عنه بشكل مخالف عن انطباعنا، وفي المقابل لدينا الرغبة في أن نصل إلى إدراك وسعة إطلاع النموذج الواقعي أو المُتخيّل. يكتب جيرار عن الرغبة البروستية -مارسيل بروست- أنها استمرار انتصارُ الإيحاء على الانطباع. يحضر بروست عرضًا مسرحيًا، ويشعر بخيبة أمل بريئة، ولكن السيد دو نوربوا يشيد بالممثلة بعبارات مبتذلة، ويكيل المديح على العرض، تحدث المفارقة، ويشعر بروست أن العرض فعلًا سار بشكل متقن، وأنه استعجل في شعوره بالخيبة! النموذج لا يطلق الرغبات فقط بل: "تكفي شهادته لتتفوّق بسهولة على التجربة المعيشة إن خالفت هذه الأخيرة تلك الشهادة". أستطيع القول دون ثقة كاملة إن الحالة الأولى تأليه النموذج، يمكن أن نطلق عليها تولّد الرغبة البروستية، أن ننتظر آراء الآخرين قبل إطلاق الحكم على الأشياء، نرغب بشدّة أن نمتلك تلك الفصاحة في التعبير عنها أو ننتظر الوعي الكافي لقراءة كتاب ما أو رؤية الأفكار من زاوية مختلفة، زاوية عميقة جدًا، تلمس كل الأشياء بلا خجل.
أحب فكرة الليتوست عند كونديرا، تنص على أنها الحالة التي نكتشف فيها بؤسنا الخالص فجأة. الاقتباس أو الاستدلال من المعجم إحدى الرغبات المؤجلة دائمًا، رغبة من نموذج فاتن. من معاني بؤس في المعجم: فقر، والفقر على ذمة لسان العرب: الحاجة، ومن لم يكن ناقصًا فلا حاجة له، ولنقل بلا فلسفة لغوية زائدة أن الرغبات غير المحققة مرادفة للبؤس. لندع هذا اللعب جانبًا ونعود إلى الحالة الثانية عند ولادة الرغبة: الافتتان الحاقد. يسعى الآخر هنا قدر الإمكان باللحاق، ولكن لا يصل إلى مرحلة إدراك أن النموذج بعيد لأسباب كثيرة، يقف عند هذه المسافة، ويرى في ابتعاد النموذج نوايا خبيثة تذكّره بنقصه الدائم، متناسيًا أن سيرورة الدنيا المضي قُدمًا. أتذكر قبل سنوات، وضمن دائرة الأصدقاء القديمة، أحدهم وظّف الآخر في نفس الشركة، الإثنين يحملان ذات التخصص، وفي نفس الفئة العمرية، ورصيد صداقة طويل حافل بالمغامرات الكثيرة، يصرّ الأول على الآخر الانضمام معهم، ستة أشهر بلا عمل ثقيلة. بعد المحاولات العديدة يوافق الآخر، وخلال أقل من شهر يتحوّل إلى كائن مختلف كليًا، يتحدث عنه بسوء، ويفتح باب الأسئلة على شرعية منصبه، وكأن الخدمة الإنسانية المقدمة وصمة تذكره دائمًا بالنقص. من ذلك الوقت إلى الأسبوع القليل الماضية، وأنا أتذكر الآخر أحيانًا وأحاول تفسير الأمور ووضعها مكانها الصحيح بعد عشرات الاحتمالات لفهم تلك التصرفات، واليوم أستطيع القول إن الموقف كان التجلّي الأمثل للافتتان الحاقد أو البؤس الخالص، ذلك البؤس الذي يختاره البعض، رغبة غير محققة تولّد الكراهية/الغيرة/الحسد ضد من أحسنوا إلينا، ومشينا معهم في أحياء فارهة في مدن قصية بسروال قطني مخطط وتيشيرت رياضي.
حاولت التفكير في الحالات التي يمكن أن تتضارب فيها الرغبات، التي تبدأ بتقديس النموذج وتتحول مع الوقت إلى كبرياء مجروح أو افتتان حاقد نتيجة رفض النموذج للاعتراف بالآخر، الرفض الذي وإن تعددت أشكاله أو تنوعت أسبابه لن تجعل الآخر يتوقف عن الرغبة في إلغاء/فناء النموذج، وتبدو لي هذه الحالة لا تحدث إلا في إطار العلاقات العاطفية، العلاقات التي تعيش في الاستعارة. سمعنا عشرات الحكايات عن أشخاص رغبوا في تحطيم/جرح الآخر بأي وسيلة من الوسائل، لأنه كما يُقال: "من ذاق عرف ومن عرف اغترف ومن اغترف اعترف ومن اعترف أدمن ما عرف"، من تجرأ وسحب منهم هذا النبع؟ من يعالج إدمانهم؟ من المتسبب في كل آلامهم؟ ويعلم الجميع أن الاستعارة لا تموت، بغض النظر عن النقص والنموذج وكل الرغبات. يعبّر صديق عن الفكرة: النموذج يُعّد نصف آلهة، عرض عليهم الفردوس وحرمهم منها!
بدأت أنظر إلى الأشياء، كل الأشياء من زاوية الرغبات ومآلاتها، وكأننا في عالم يراكم الرغبات، وينقسم الناس بين توزيع أدوار نصف الآلهة والآخر يفتش عن الانتصارات الصغيرة. ماكس شيلر يقول: "يملك الإنسان إمّا إلهًا أو صنمًا"، ومن يدري ربما كان حُب الكتابة لديّ نتيجة رغبة في إدهاش أحدهم، لن أتحدث عن الأمر هنا، لندع الثيربست يحلل مبلغ الرسوم!
لم يخجل دون كيخوت من الاعتراف بأماديس، ولكنه مجنون في نهاية المطاف، ويبدو لي أن كل واحد منّا لديه أماديس متخفٍ في مكانٍ ما، سواء أدركناه أم لم نفعل، جنوننا المختلف لن يجعلنا نعترف به حتّى وإن ماتت النجوم ونُفيت العوالم، نحن المولعون بالأصالة والمركزية الذاتية وأن الأشياء وليدة تأملاتنا الداخلية.
الوليد
Alwaleed@hey.com