طريق الجنة المحفوف بالصفائح!


مشاهد من جنوب أفريقيا

يبدو لي أن الرغبة في العودة إلى المكان الذي سافرت إليه هي اللازمة التي أكررها في كل مرة، لكن الأمر مع جنوب أفريقيا مختلف، أشعر برغبة حقيقية هذه المرّة في العودة إلى التضاريس الجغرافية المتنوعة، وتجربة القيادة التي سُئلت عن مدى تعقيدها، والإجابة القصيرة هي أنك فعلًا ستعتاد الأمر بعد النصف إلى الساعة الأولى، ولكن ستظل الحيرة معك طوال الوقت، من سحب الهواء العشوائي تجاه اليسار بحثًا عن حزام الأمان، وقبلها التوجه إلى الجهة التي اعتدت عليها عند ركوب السيارة، وأخيرًا عند ركنها، والتي أعلنت استسلامي بعد تقبيل الرصيف في المحاولة الأولى لتصبح مهمة ركن السيارة من اختصاص أبوتركي!

 

عانت جنوب أفريقيا من نظام الفصل العنصري، وحتى لا يصبح هدف هذه التدوينة سردًا تاريخيًا مطعّم بالكيس، أستطيع الحديث بالعموميات فهي عانت من الاحتلال الهولندي قبل ما يقارب الـ250 سنة، وبعدها أتى البريطانيين لإكمال المهمة، لا أعرف السبب الذي جعل بريطانيا العظمى تعيد البلاد إلى الهولنديين لمدة ثلاث سنوات، ومن ثم السيطرة عليها مجددًا، ولكن في نهاية المطاف الأراضي السوداء هي الأقل حظًا على الإطلاق. كانت جنوب أفريقيا ومازالت تعتبر مركز استراتيجي لحركة السفن، لأنه قديمًا كانت خيرات الهند لا يمكن نقلها دون عبور من المنطقة التي تُشرف على المحيطين الأطلسي والهندي عند أقصى نقطة في القارة، والتي تسمى لاغولهاس، والتي تعني الإبرة حيث أن البوصلة تشير عندها إلى الشمال دون أي انحراف أو كما يطيب لي تسميتها حافة العالم القديم، والله وحده يعلم ماهي الرغبات التي تثيرها حواف الأشياء!

 

كانت ومازالت هناك قبيلة دافعت عن أراضيها تُسمى الزولو، وإلى اليوم لديها ملك شبه معترف به، لا يمتلك سلطة سياسية، ولكن يمكنه تحريك الجموع حتى بعد تقسييم البريطانيين أراضيهم إلى ثلاثة عشر ولاية يحكمها البيض، لكن هذا الأخير تدور حوله شائعات كونه ابن غير شرعي للملك السابق، وبالتالي هناك علامة استفهام كبيرة إن كان يستحق حمل الصولجان الخشبي المتواضع، وارتداء جلد الفهد، الذي يسهل اصطياده، لأنه عندما ينام، لا يمكن لقنبلة ذرية أن توقظه كما اكتشفنا لاحقًا في المحمية، والتي رأينا فيها كيف تميل أنثى وحيد القرن على الذكر النائم محاولةً الالتصاق به قدر الإمكان، والذي يعبر عن امتعاضه من هذا التعدي بالنفخ حينًا، وبالحركة البطيئة في أحيان أخرى، ولكن كان يعلم كما نعلم كلنا أن الأمر خارج عن السيطرة! تذكرت على الفور العرسان الجدد الذين جلسوا بجانبي في رحلة أديس أبابا إلى كيب تاون، والتي لسبب ما عُدل مقعد أبوتركي، ليستبدل المقعدين بجواري لهم، ما إن أقلعت الطائرة حتّى كوّرت اللحاف ووضعته في حجر زوجها، وما يقرب من الست ساعات، لم ترفع رأسها، ولم استطع تلبية نداء الطبيعة، وأكاد أجزم أن الوضعية غير مُريحة لها، ولكن دواعي الغنج تستلزم ذلك. عندما هبطنا عبرا من جانبينا، وللمرة الأولى بدى لنا أن أعمارهم صغيرة، ولم نصرح بأننا أصبحنا كبارًا!

 

واجه الزولو الأوروبيين بالسهام والرماح، وكانت المواجهة غير عادلة، وبعد ذلك بسنوات كثير فصّل الرجل الأبيض المجتمع إلى 4 تصنيفات: الأبيض، الهندي، الملوّن، وأخيرًا الأسود. تخيّل معي الاختبار التالي: تقف في طابور طويل، لحظات وتحدد جودة المدرسة، والمستشفيات، وأي الحدائق التي يمكن أن تستلقي فيها، وفجأة تتذكر إحداهن كل الأيام التي رفضت فيها زيت الخروع، اللحظات تسير عليك ببطء، لحظات لا تقل رعبًا عن خيالاتك الأولى للصراط المستقيم، ولكن هذا الاختبار المبكر لا توجد فيه أشياء تُعيد توازنك لأنك صاحب ضمير حيّ مثلًا، ولن يشفع لك قلبك الطيّب، ولا حتى عملك الصالح! اختبار القلم الذي سيمرر على شعرك، إذا عبر القلم لن تنتهي المعاناة لأن تعريف الأبيض في نظام الأبرتايد -نظام التفرقة بلغة الأفريكانز، وما يُعرف أيضًا بنظام الفصل العنصري- هو الأبيض بشكل واضح، وبالتالي أبوتركي السعيد ببشرته الفاتحة، وشعره الناعم لن ينجو، أما أنا فمتأكد تمامًا أن القلم لن يدخل من الأساس! سألَت آش، التي عندما رأيتها للمرة الأولى، وليسامحني الله، التفت على صاحبي، وقلت تبدو هذه الفتاة مادة دسمة للتنمر! آش ابنة سكوت وإيمي، وأخت الدافور المستفز! صادف وجود هذه العائلة الأمريكية معنا في جولة الدراجات، والتي لم نخرج منها بمعلومات تاريخية، والتفرقة بين أنواع عصارات العنب فقط، بل بالتهابات في مناطق يصعب ذكرها صراحةً. تسأل آش: "ماذا لو كان أصلعًا!"، يجيب قائد الدراجات الذي كان يفتتح كل معلومة بهذا الترتيب: "في عام 1867، وحتى أكون أكثر تحديدًا، في العشرين من يناير"، يقف عند كل فاصلة، وكأنه يستحضر التاريخ، التاريخ الذي أعاده عشرات المرات على مئات السيّاح، كان يفعلها بمتعة عارمة، وكنت استشعر هذه المتعة، يجيب على آش أن الاختيار سيكون بناءً على مزاج صاحب الأبيض، ومزاجه طبعًا أقل عبثًا من قلم يعبر في الشعر!

 

دائمًا عندي انطباع بأن معظم الأمريكان أغبياء، وفي واقع الأمر معظم من لا أعرفهم، وهذه إشكالية لا أعمل على حلها! المهم كان سكوت متجهّمًا معظم الجولة إلى أن بدأ العنب يطبطب على الأعصاب، وعندما سألناه عن تجربة الأبوة، أصبح يسيل سردًا إلى أن كرهنا السؤال، وفي ختام إجابته، قرر أن تكون قفلة للذكرى: "إذا كنت تعتقد أن الحصول على طفل واحد أمر مُتعب، انتظر إلى أن يأتيك الآخر!". المُلاحظ أن آش لم تكن تحظى بالقبول لا من الأب ولا الأم ولا حتى من الغبي، في كل مشاركة إما أن تسمع ششش أو "لا، الأمر ليس على هذا النحو!"، في كل لحظة حماس تُبديها آش تُقابل بالرفض، ولا أعرف السبب، كانت الأصغر سنًا أما الآخر كان كلما ذكر قائد الجولة تاريخًا معينًا، يربطه بحدث في التاريخ الأمريكي، وعلامات الرضا والابتسامة على الوالدين، في لحظة ما تحدّى الأحمق قائد الجولة أن يعرف ما الحدث الذي غيّر أمريكا عام 1861م، صمت القائد، ورميت رمية بغير رامي، وقلت الحرب الأهلية الأمريكية، وكأنه لم يسمع الطفل الأخرق، وأعاد سرد الإجابة على القائد، ويسأل آش هل تعرفين هذا التاريخ! أبدت المسكينة الامتعاض الذي يبديه أي طفل، وقالت فيما معناه: "واو تعرف كل شيء!". أصبحت آش عند المشاركة في أي أمر نعطيها الاهتمام الكامل بالإصغاء والتفاعل معها قدر المُستطاع، لأنه بعد سنين طويلة، ستكون جالسة أمام أحدهم يحمل دفترًا على كنبة عريضة، يومئ برأسه، وهي تحكي عن أدق التفاصيل، ومن يدري ربما تذكر لُطف عابرين في أقصى الأرض، وضحكهم على نكاتها السخيفة!

 

إيمي تُحب السفر من قبل الزواج، دارت حول العالم، وبعد الحصول على الأطفال تقول أن هذه الهواية لم تتأثر أبدًا، طبعًا لا يخلو الأمر من ما أحب تسميته "التماسك الكذاب"، وهو أن تدّعي أن كل الأمور على ما يُرام، وكل ما تحتاجه هو دفعة من أصبع القدم الصغير حتى تنهار! خرجوا من سان فرانسيسكو قبل 3 أسابيع، قضوا الأسبوع الأول في فلسطين، والمتبقي موزعة بين بوتسوانيا وزيمبابوي وجنوب أفريقيا. أثير فضولي في أن أعرف انطباعهم عن أصحاب الضمائر المختلفة بحكم أنهم من قبلة الملونين، ولكن مع الأسف لم أجد الفرصة، ولكن سألتها عن فلسطين، كانت إيمي اجتماعية، ومنفتحة على الآخرين، تمتلك الصفة الوحيدة التي يمكن أن أحسد عليها أي شخص يمتلكها، وهي التأقلم السريع مع الغرباء! في كل منطقة توقف، ويصادف فيها جموع آخرين، تتنفس مؤخراتنا الصعداء على خلفية ضحك إيمي مع أحدهم! سألتها عن الحياة اليومية في فلسطين، وعن سبب الزيارة في المُقام الأول، بدأت الإجابة بأن القضية معقدة وجدلية، قلت إيمي أعرف أنك تعرفين أنني عربي، والأمر حسّاس بالنسبة لي، لكن لست مهتمًا في إقناعك برأيي في القضية، ولست مهتمًا برأيك، أريد أن أعرف شكل الحياة هناك، وأسباب الزيارة ليس أكثر، قالت: "شكلان مختلفان تمامًا للحياة، مدن متكاملة تجاورها أسوار عالية تشبه الجيتوات، أحدهم يحصل على الرعاية الكاملة، والآخر قد يموت من أمراض بسيطة." هي تحكي وأنا لا تفارق مخيلتي صور الصفائح على أطراف كيب تاون، ومستقبل فلسطين. كان الهدف الأساسي من زيارتها هي أن تعرّف آش والخرتيت أن هناك نوع من الظلم لا يمكن استيعابه إلا بالنظر إليه، وأن يشكلوا آراءهم الخاصة عن القضية، وأن يتعلموا كذلك التعاطف مع الآخر، وتقدير الأشياء التي يمتلكونها. إيمي رائعة، رائعة للحد الذي سيجعل سكوت ينتظر عبورها أمامنا في جولة الدراجات ليحول بيننا وبينها، وفي تلك اللحظة تمامًا تأكدنا أن لحم الخنزير لا يقتل الغيرة!

 

خلّف الاستعمار آثار يصعب التخلص منها، نتحدث عن بلد لم يتخلص من نظام الفصل العنصري إلا قرابة 1991م، وأنت تتجول في منطقة أو قرية تجد طراز البنايات الذي يشعرك بأنك داخل فيلم رعاة بقر، الزخارف الخشبية بألوانها المختلفة، وأسماء المتاجر التي رُسمت باليد، الفارق الوحيد هو الطريق المعبد. بلدة ستيلينبوش، وهي المكان الذي يزخر بمزارع العنب، المحتمية بسلسة جبلية من جهة، ومن الجهة الأخرى بنهر، دُفن جزء منه ليصبح طريقًا لعبور الأبيض، كانت الملجأ الآمن للهولنديين الهاربين من الجنود البريطانيين، فخار يحطم بعضه بعضًا من أجل الألماس والذهب واستعباد خلق الله. دخلنا أقدم متجر في البلدة، البلدة التي تمنحك الرغبة الحقيقية في الهرب إليها، منطقة للتقاعد من الحياة، البلدة التي دخلت المعجم لاحقًا كمصطلح يعني إبعاد غير الأكفاء إلى مكان خالي من المسؤولية. دخلنا متجر سامي العتيق، الذي يعرض لك ويشتري منك كل شيء، عملات زمبابوي المليونية، ومعدات طبخ من عصور قديمة، وكذلك وجدنا ورقة من مجلة تعود إلى عام 1955م عن تعامل الزوجة الراقية، أذكر منها عدم استقباله بالشكاوي والمشاكل، ومساج الأقدام كل ليلة قبل النوم، والاستقبال بالأحضان والعطور الفواحة مع ما يليق من المكياج الناعم عند عودته من العمل! تعترض طريقنا العجوز البيضاء عند أطراف قسم النبيذ، وتقول صاحب المتجر الحالي لديه مزرعة عنب، وصنع نبيذًا أبيضًا على اسم معشوقته آمبر، حاول فيه تجسيد هذه العشيقة، على العلبة الخارجية بورتريه لآمبر، تجعلك تدرك أن أمور القلب يصعب فهمها! وفي الأدنى بخط عريض: "Amber Forever" من الخلف يحكي بشكل مختصر عن آمبر، والتي كما يصف لا يسعك إلى الشعور بالسعادة عند التحدث إليها، وفي نفس الوقت ليس بالإمكان تملكها، كانت لاذعة وخفيفة، حلوة جدًا ومرة، بيضاء ليس كالجليد بل كانعكاس الشمس على الغيوم! وهذا النبيذ خير تجسيد لها! بعدها بيومين تذوقناه، كان بالفعل حلو، مزيج غريب من المرارة والحرقة، مختلف عن أي شيء آخر، وفي اليوم التالي شعرنا بغثيان طوال الوقت، كانت بالفعل تشبه العشيقات، تعطيك حلاوة اللحظة، وتخلف فيك دُوار لا ينتهي!

 

في خليج المحار، مسل باي، كانت السيارات تقف في مواجهة المحيط عند الغروب، ويمكن رؤية القبل المجنونة، تخيّل المشهد التالي أمواج مرتفعة تضرب الرصيف، وغيوم متناثرة كأنها قطن رُمي عشوائيًا في السماء، وفي المدى المُقابل سلسلة جبال يحتضنها الشفق من الأسفل، وبوادر قوس قزح في عرض المحيط، وكل الناس تعلم أن الغروب ملائم جدًا لارتكاب الخطايا! كان نظام الفصل العنصري يرفض العلاقات بين الأجناس المختلطة، ليس الأمر متوقفًا على مؤسسات ومرافق الدولة، بل وصل الأمر إلى شؤون القلب كذلك! يحكي أحدهم هناك عن كتاب تريفور نوا "جريمة الولادة"، كنت ومازلت أرى صور تريفور في كل مكان، ولم أعلم أنه جنوب أفريقي إلا مؤخرًا. شاهدت لقاءه مع جدته في القرية القريبة من جوهانسبرغ، تحدثت عن منعها تريفور من اللعب في الشارع كونه سيتعرض للتنمر من الأطفال السود، باعتباره أبيضًا! وكذلك احتمالية أن يُصادر من أصحاب المعاطف السوداء، يُصادر ويودع في ميتم لأنه نتيجة تزاوج عرقي، أمه سوداء وأبوه سويسري، يُصادر كما صودر شطافنا في مطار الرياض، وأصبحنا نبحث عن البدائل في علب المياة ذات الدفع الجيّد، إلا أنه في حين يصادر طفل بجريمة الولادة، سيصبح الامر أكثر تعقيدًا في البحث عن مكانه، وحتى معرفة أخباره! حكت عن "ماديبا" بشد الباء، ونطق الألف الأخيرة بالهاء، باللهجة الأفريقية اللذيذة، وأنه كان آلهتهم التي تسير على الأرض! خرج من السجن بعد 27 عام، بعد المقاطعات الدولية للنظام العنصري، ليصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا! وحكت عن أنهم كانوا في مزارع البطاطس، يستخرجونها بأيديهم، ولو صادف أن ارتاحت روح أحدهم في لحظتها، فعليهم توسيع الحفرة لدفنه، وإكمال عملية الحصاد! حاول تريفور معرفة إذا ما كانت الجدة تُتابع برنامجه، وأكدت لو كانت الكهرباء مُتاحة لفعلت، وبالكاد صدقت أنه بالفعل مدير لأشخاص بيض، وكانت تكرر بأن هذا الأمر مُكتسب من باتريشا، أمه العنيدة! بدى على الجدة -91 عام وتسعة أشهر- أنها لا تعرف حجم شهرة حفيدها، ولكن لم تنساه ولم تنسى متاعبه، بالرغم من المسافة الشاسعة التي تفصل بينهم، واستحالت أن تركب طائرة تعبر فوق البحر، كانت تصبّح على صورة حفيدها الصغير، وتستغرب كيف لم يُجب ولو لمرة واحدة على الأقل!

 

كانت الكهرباء تُفصل على فترتين في معظم المناطق التي زرناها لأن الطاقة الاستيعابية لشبكة الكهرباء لا يمكنها تغطية كل المناطق في كل الأوقات، فترة صباحية وأخرى مسائية، وكل فترة ساعتين تقريبًا، تستوحش المدن في المساء، وتختفي معالم الطبيعة، ويصيب الدنيا سكون المقابر، وحتّى النجوم تصبح أعين تتلصص عليك من مكان بعيد، ولكن هذا السكون لا يعادل السكون الذي أصابنا عند ركوب طائرة السقوط الحُر، تخترق السماء لمدة 25 دقيقة، وخلال هذه المدة، تتأمل الأشياء تبتعد، تصبح الأرض رقعة صغيرة، والبحر يختفي في الأفق، أما الجهة المقابلة لا أذكر بالتحديد، على الأرجح كانت جبال تستريح فوقها غيوم كثيفة! السكون الذي سيصيب عقلك لن تستوعبه إلا عندما تصل إلى الأرض، وتحديدًا عندما تعود إلى السيارة، بعد أن تتأكد مرتين من الاتجاه، لأنك لن تدرك حجم الفاجعة إلى بعد انقضائها! 25 دقيقة لم تعبر أي فكرة، تتأمل الدنيا الصغيرة، وتتفاعل مع الكاميرا بحركات وكلمات تخرج كيفما اتفق لها، تبتسم وتؤشر بيديك إلى أن تبلغ نقطة الـ10 آلاف قدم، تُخرج أولًا قدميك، في أجزاء من الثانية تلمح طيف فكرة عن جمال الأرض، وتعرف يقينًا أنه هذه القفزة هي وسيلتك الوحيدة إلى الأرض التي تُحب، تشعر بالحركة من خلفك، تعلم أن حبل المقصلة سيُقطع في أي لحظة، وفي اللحظة التي تحاول وصل هذه الفكرة بأخرى، تجد نفسك في الهواء الطلق، تسقط بسرعة مجنونة، وتفقد السيطرة على أفكارك، لا تعرف إن كنت معلقًا والأرض تركض تجاهك بأقصى ما تستطيع أم أنك شيء صغير يسقط من الأعلى، صغير لدرجة أنك لن تُلحظ من الأسفل، تشعر بأنك ضئيل جدًا، وأحلام الطفولة في أن تكون طائرًا محلقًا ستُحطم تمامًا، عند الوصول صرخ أرنولد: "هاه كيف التجربة؟"، وأنا أرجف لم أستطع إلا قول: "الله يلعنك، أول مرة وآخر مرة!".

 

من حُسن الحظ أن زيارتنا كانت في فصل الشتاء لأن رحلة السيارة إلى مساحات خضراء شاسعة، أحد أكثر الأمنيات التي تؤجل باستمرار، تمر على مزارع من الورود الصفراء، وتصاحبك الغيوم مع الأمطار على امتداد الطريق، كانت تجربة فاتنة! قطعنا بالسيارة الصغيرة ما يُقارب الـ1880كم، رأينا الجبال، والأشجار، والمحيط، والنعام، والحيتان، والبطاريق، والكهوف التي خشي أصحابها التعمّق فيه لأن أرواح الأجداد كان تسير هناك في الأعماق، ولأنه أيضًا لا يليق أن يُربك الأحياء سلام الأموات، ولا الخروج منه خوفًا من المتوحش الأبيض! كانت الرحلة إلى كيب تاون والمناطق المجاورة لطريق الجنة، جاردن روت، وبدى لنا أن الوسيلة الوحيدة للحصول على توصيلة هناك، كانت بمد الأيادي بمبلغ بسيط من المال، من كان يتصوّر أن طريق الجنة محفوف بالصفائح والأيدي المتوسلة!


ما تزال تشعر بأن الرجل الأبيض متفوق، وتشعر بأن السود خلف الكواليس، أكثر المُشردين والأيادي الممدودة ومن يتحدثون إلى أنفسهم على الطُرقات من السود، لكن كما يُقال طرقَ فقير أعمى باب بيت في غرناطة فقال صاحب البيت لزوجته أعطه صدقة يا إمرأة فليس هناك أشد حسرة وألمًا في هذه الدنيا من أن تكون أعمى في غرناطة، ليست هناك أشد حسرة وألمًا في الدنيا من أن تكون عبدًا في أرضك، محاصرًا في فضاء الله الواسع، محشورًا داخل جدران ضيقة من الغريب! جنوب أفريقيا حكاية تشبه إلى حدٍ ما كل حكايات القارة المستنزفة، وعلى الرغم من بقايا آثار تلك الحقبة إلا أنها تمنحك الأمل، قطّع الاستعمار والأنظمة المسعورة البلد على مدى سنوات طويلة جدًا، ولكن في نهاية المطاف يستطيع الأسود اليوم انتقاء الآلهة التي تُلائمه -في رواية أناتيتوبا كانت الجدة تؤمن بالآلهة الأفريقية، وآلهة الرجل الأبيض، لأنها على ما أذكر كانت تقول لا بد أن يُصيب أحدهما في نهاية المطاف!-، ويمكنه كذلك زيارة الحدائق التي يريدها، ويدرس في الجامعات التي يرغب بها، ويلبي نداء الطبيعة في أي مكان، ويعمل في أي وظيفة ممكنة، ويختار المقعد الذي يُريحه في المواصلات العامة، وأخيرًا أن يُحب من يشاء!

الوليد

Alwaleed@hey.com

Join