لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان!
مناوشات في الأقصى، اعتداءٌ صهيوني، قصفٌ من غزّة، عدوانٌ شاملٌ من إسرائيل.. هذه الدّائرة التي تشتكي أنت من لا نهائيّتها.. نرى فيها نحن كلّ الأمل... إن لم يتقدّم الزّمنُ إلى الأمام، فلتبقَ الدّائرةُ على الأقلّ أبديّةً... فلتبقَ النّارُ متّقدة
محمد آيت حنّا
في كل مرة أحاول التحدث فيها عن فلسطين، لا أستطيع إكمال الجملة الأولى أو السطر الأول إلا وتُقحم نفسها شتيمةٌ ما. منذ أن وعيت على الدنيا وأنا أشاهد هذا الاحتلال. أتذكر جيدًا أبي الذي كان في عالم آخر أمام شاشة التلفزيون، تلفزيون إطاره الأسود أعرض من الشاشة ويعلوه "أنتل" شبيه بطوق فضي رديء، سألته: "ليش الشرطي يسحبه من البيت؟"، وكانت إجابة أبي الدبلوماسية بعد شتيمة غير معتادة: "تكبر وتعرف". الشتائم المعتادة والمتكررة في ذلك السن لا تحدث إلا في مباريات النصر بعد إضاعة هجمة محققة أو تلقي هدف سخيف أو بالأصح كل الأهداف على النصر كانت تعتبر خطأ من المدافع أو الحارس، كرهت النصر بعد النظرة المرعبة، نظرة خيبة الأمل بعد احتفال مُدّعى لإحدى الفرق المنافسة، رغبة مبكرة بالاستقلال، ولكن نكبر ونكتشف أننا نشبههم في مواضع أخرى. المهم، لا أذكر تحديدًا متى عرفت القضية الفلسطينية، كل ما أعرفه أنني أحملها معي دائمًا، ويطيب لي أن البداية منذ تلك الليلة، يجرجر اللعين رجلًا يلبس معطفًا أبيض وأطرافه زرقاء، وأمامهم الدركتر يحاول حمل المنزل.. كبرت وعرفت أنه ليس شرطيًا بل محتل لعين.
من الذكريات المبكرة، حاولت المشاركة في حفل ختامي لإحدى المراحل الابتدائية، أُعلن عن فتح التسجيل للمرشحين لفقرة الأنشودة. لا أذكر تحديدًا كيف كانت عملية التصفية والاختيار، كل ما أذكره وقوفي بجانب آخر -لأننا لا ننسى منافسينا أتذكر اسمه الثنائي- أمام وكيل المدرسة، وذلك الوقوف يعني الوصول إلى المراحل النهائية، الأنشودة المُختارة: "أمي فلسطين". كنت أشكك في حبالي الصوتية والبحّة اللازمة، ولكن من يدري ربما إيماني بالقضية أوصلني إلى هذه المرحلة، لا أعرف كيف، ولكن أفهم جيدًا معنى: "في زهرة العمر إلّا أن دهرك لا يرعى الشيوخ ولا يرثي لصبيانِ". لم يقع الاختيار عليّ، ولكن كنت أعزي النفس بأنهم لا يفهمون صدق المشاعر. اتضح لاحقًا أن الوصول إلى تلك المرحلة نتيجة أن نصف المدرسة متمنع لأن الصوت الحسن لا يليق بالرجال، والنصف الآخر لديهم إمكانيات متواضعة، والآن بعد كل تلك السنين يبدو لي أن الترشح للمرحلة الأخيرة محاولة إثبات بائسة من المعلم صاحب المبادرة أن مدرستنا لديها الكثير من المواهب الخفية، وعلى كل الأحوال لم أُجهد الحنجرة الذهبية من يومها. بالقرب من تلك المرحلة العمرية أتذكر تبرعي بثلث الثروة، ريالين من أجل القضية الفلسطينية، ما زلت أحتفظ بورقة الشُكر، ورقة من ضمن آثار التكديس القهري.
تمضي الأيام، تمر عشرات الصور والمقاطع والأحداث الكثيرة، واكتشفت الطريقة التي يحذّر بها الاحتلال أصحاب البيوت من القصف، والعالم الأول يناقش إن كانت طريقة مقبولة أم لا، شيء شبيه بالنقاش حول الحليب أولًا أم الشاي، تسمى "الطرق على السطح"، وتحدث من خلال إرسال صاروخ تحذيري على سطح المنزل، وبعد فترة زمنية قصيرة ينزل الآخر الذي يهدم المنزل بالكامل، وأتذكر إلى أي حد أرعبتني هذه الفكرة، دقائق معدودة تفصلك عن القصف، عن أشيائك التي تحب، عن صوت المروحة المعتاد عليها، عن رائحة السرير، عن الصور المعلقة، عن خزانة الملابس، وعلب الهدايا القديمة، والرسائل المختبئة.. ومن يدري لربما كان هذا الشعب الأقل تعلقًا بالبنايات الإسمنيتة، يحملون ذكرياتهم معهم أينما ارتحلوا، ويغنيهم مفتاح الباب عن كل الأشياء.
الإنسان يرتدي هويات مُتراكمة، ويشعر الإنسان بالاعتداء عن الهجوم على أحدها، وفلسطين مهما ارتدت أو كيفما قلبتها تجد أنها تعنيك شئت أم أبيت، عربية أم إسلامية أم إنسانية، وآيت حنّا يقول: "بمجرّد أن تقول إنّ "فلسطين ليست قضيّتي"، فأنت تُقحم نفسك داخل اللعبة، تجعل نفسك ناقص واحد، تختارُ أن تُميلَ كفّةً على أُخرى... القضايا التي "ليست قضايانا"، لا نتحدّث عنها، وربّما لا نعرفها، ولم نسمع بها من أصل". تتبدل أسباب الاهتمام بفلسطين، ويبقى الهدف الأخير نصرة لقوم مظلومين، أتذكر القصة التي كنت أحكيها، لا أتذكر من السائل ولا الزمان ولا المكان، ولكن أتذكر أنني تحدثت عن فلسطين أكثر من مرة بالسردية التالية: يهجم لصوص على منزلك، يقررون السكن في الملحق غصبًا عنك، وفجأة يقتحمون الدور الأول وبعده الثاني، وتجد أنك وأهلك محشورون في الخزّان، وكل الدنيا تُطالبك بضبط النفس في مساحتك الصغيرة ولا يُسمح لك بممارسة دور الضحية، لأنه كما يقول محمود درويش: "ليس من حق أية ضحية أن تكون ضحية إلا إذا كانت ضحية يهودية، وليس من حق أي جلّاد، في التاريخ الآدمي أن يستدر دموع المتفرجين، إلا إذا كان جلّادا يهوديّا، لأن هذا الجلّاد ليس أكثر من ضحية ظروف حولته إلى جلّاد طاهر!".
الخزّان.. ظل سؤال غسان كنفاني المفتوح يطاردني في نهاية رواية رجال من الشمس: "لماذا لم يدقوا جدران الخزّان؟"، العمل يتحدث عن ثلاثة رجال فلسطينيين يقررون الهجرة بطريقة غير شرعية، كل واحد منهم محمّل بالآمال والبدايات الجديدة، يختبؤون داخل خزّان الشاحنة في عز الظهيرة لأن التفتيش يكون في أضعف حالاته نتيجة القيظ الشديد، والوقت المتوقع لتجاوز نقطة التفتيش سبع دقائق، تجاوزوا النقطة الأولى، والتوقف بين النقطتين أعطاهم مساحة للتنفس خارج هذا الفرن، ويؤكد لهم أبا الخيزران أن الأخرى لن تتجاوز تلك المدة، يعودون بعد نزع الملابس، نزع رمزي للحرارة. يتذكر رجل الحدود عند النقطة الثانية قصّة مختلقة عن فحولة السائق، السائق الذي ألقى الأمر كنكتة في وقت مضى، يُطالب الرجل بالمزيد من التفاصيل، وطُرقه السريّة لتفكيك جسد الأنثى، وأخذ منه وعد بعد القسم بالشرَف أن يعرّفهم على كوكب، تمضي خمس عشرة دقيقة عند هذا العبث، بعد التجاوز يفتح باب الخزان، ويجد أن النكتة قتلت الثلاثة، أن الموت يعرف من يختار. بعد وضعهم على قارعة الطريق، وأخذ ممتلكاتهم القليلة، ساعة وخمسة وعشرون دينارًا، يتوقف أبو الخيزران للحظات قبل صعود الشاحنة، ويسأل: "لماذا لم يدقوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا؟". إحدى الإجابات على قودريد: "كابوس الموت أهون من موت الحلم". اليوم تُصطاد الأحلام بالآلاف، ويختلط الاثنان ببعضها، كوابيس الموت وموت الأحلام. رحيل فرد واحد أمر مُهيب، فرد واحد يعني قبيلة كاملة، يعني أحلامًا عظيمة تختفي في لمح البصر. حكاية كوكب قتلت أصحاب الخزّان، ومن ينتظرونهم في الخزّان الكبير يواجهون البندقية، "والبندقيةُ مومٍسٌ منحلّة".
من الذكريات المتأخرة، أرى تبدّل الأشياء وولادة سرديات جديدة، بغض النظر عن التاريخ وسياقات الأشياء، تبدأ من فكرة بيع المنازل إلى المشاهد التمثيلية...إلخ، لا داعي لإضاعة الوقت في تفنيد أو إثبات أي شيء، ما يهم. محمد آيت حنّا مجددًا يقول: "أنتَ فردٌ مفرد، لستَ دولةً لتراعيَ المصالح، ولا أنت شركة لتراعي الأرباح". هل تزعجك كلماتهم على منصات التواصل؟ هل تشعر بنكران الجميل عند بعض المواقف؟ لتدعو الله ألّا يختبر منطقك القويم وتحكيم عقلك الباهر في ظروف حالكة، في ظروف لا خبز فيها ولا ماء، ولا ضوء إلى انعكاسات الحرائق في رماد السماء.
اكتشفت أن حياتي تتوازن أكثر عندما ابتعد عن الأخبار، وفي الأحداث الأخيرة مبتعد عن الأحداث اليومية ولكن ما زلت مُسلحًا بالابتهالات والشتائم طوال الوقت، وصديق كتب أسطر عن فلسطين، وسببه: "على الأقل وظّفت إمكان من إمكاناتي للنصرة، حتى لو ما تغيّر شيء" ادّعيت تجاهل العبارة وما زال صداها يرن في داخلي، وتمضي الأيام القليلة ويقول آخر تبرّع للإغاثة: "على الأقل يخف شعور العجز وقلّة الحيلة"، وآخر يؤجل مشاركة تفاصيل رحلته، ويقول: "على الأقل تهدأ الأمور شوي، اللي صاير موب طبيعي". على الأقل.. على الأقل أجدد هذا الإيمان، على الأقل الحرقة تخف.. على الأقل أن تقف في صف الضعيف.. على الأقل أن تدرك أن ضميرك ما زال حيًّا.. على الأقل أن تتجاوز الأسماء والشعارات وترى الأشياء مجرّدة.. على الأقل أن تحمل قضية نبيلة في زمن سايح.. على الأقل أن تشتم الاحتلال أمام الصغار.. على الأقل أن تساهم بما أنك جزء من اللعبة.. على الأقل أن تُميل كفّة على أخرى.. على الأقل ألّا تفقد الأمل.. على الأقل أن تحركك الأغنيات البعيدة.. على الأقل ألّا يموت الحلم.. على الأقل ألّا تشتكي من الدائرة الأبديّة.. على الأقل أن تبقى النار متّقدة!