جسور رقيقة فوق الهاوية

من منّا لم يحلم يومًا بجزيرةٍ نائية، واقعة في أطراف الدنيا، نائمة بين زرقة السماء ولازورد البحر!

أحمد الصمعي من مقدمة جزيرة اليوم السابق لأمبرتو إيكو

 أجمل الجُزر على ظهر الأرض توجد في المناطق الاستوائية مما يعني أنها مرتعًا لشمسٍ حارقة وبعوض لا يستحي من امتصاصك أمام ناظريك، ناهيك عن المأكولات البحرية التي لا تتوقف. أن تأكلها من ضمن خيارات عديدة أمرٌ طيّب، أن تأكلها لأنها الخيار الوحيد لا أتمنى ذلك لألد الأعداء! ماذا عن التفاصيل اليومية الأخرى، الغسيل مثلًا؟ مياه البحر مالح بما يكفي لأن يترك شعورًا عكرًا على جسدك، أما الملابس حتى طرزان لم يفتّش عن أردية الأقوام السابقة، بل اكتفى بأوراق العنب لأنه أدرك أن هذا العناء أمرٌ مبالغٌ فيه. بالعموم فكرة الجزيرة النائية، لأنها نائية ولأنك وحيدًا عليها أمرٌ مُتطرّف وبمجرد التفكير قليلًا ستجد أنه لا يمكنك النجاة إلّا بشق الأنفس، أنت المعتاد على الوسادة واللحاف وعلب المناديل. عند المقارنة ستدرك كذلك أن الوضع الحالي المألوف أخف من النائي المجهول، ولكن لماذا لا نحلم!

 

لطالما كانت أصوات الأمواج مع النوارس تُعتبر الثيمة الأساسية في معظم خلفيات الموسيقى التي تدّعي أنها تساعدك على الاسترخاء أو التركيز! قرر صديق أن يحضر عدة لقاءات من خلال تطبيق "ميت أب"، وأقنعني معه أنها تجربة جديدة لسماع أحاديث مختلفة. جرّب العديد منها، بعضها ممتع وبعضها مضيعة للوقت وآخرها كُنت معه في أمسية بعنوان: "أمواج القلق، وجزيرة الاكتئاب". لم يكن لدي سقف توقعات، يجب أن يظل المرء مُتقبلًا لأي تجربة/لقاء سخيف، وحتّى يقنع نفسه كذلك أنه غير منعزل عن الآخرين. لم أُدرك أن منظمي اللقاء من أتباع الطاقة العقلية أو البرمجة الثلاثية إلا متأخرًا.

 

في بداية اللقاء قررت المحاوِرة عمل تجربة تُتيح لنا مواجهة القلق، التجربة كالتالي إن رغبت في تطبيقها. ابحث عن موسيقى تحتوي على صوت أمواج البحر، غالبًا سيشاركك النورس هذه التجربة. اغمض عينيك وتخيّل أنك على جزيرة صغيرة لا يوجد عليها أحد، حاول أن تجسّد قلقك ومخاوفك في شخصية كهل، المهم ألا يكون صورة مشابهة لك، لا أعرف تحديدًا لماذا قررت أن تجعلنا نتخيله كهل بلحية بيضاء. الآن اذهب لمواجهته، أخبره بأنك شجاع وتستطيع التغلب عليه. لا توجد قوانين لما يمكن أن يحدث، تريد ضربه افعل، تتفاهم معه على قلة الذوق افعل، أيًّا ما تفعله يجب عليك في نهاية المطاف أن تتخلص منه. عندما بدأت الموسيقى تعمل: "والآن غمضوا عيونكم لدقيقة". لم أغمض على الفور، جلست أضحك هل ما يحدث حقيقي؟ وجدت أن الجميع فعلوا ذلك، والمحاوِرة تنظر إليّ، وتشير برأسها مع ابتسامة بلهاء تعني أغمض عينيك، واجه مخاوفك. بعد أن أعلنت انتهاء الدقيقة، بدأ كلٌ يحكي قصته العظيمة في التغلب على كهل القلق، أحدهم ضربه وركض إلى البحر دون أن يلتفت، والآخر ضربه وذهب إلى البحر ثم عاد وضربه مجددًا، أتوقع أن هذا كان يريدنا أن نضحك على الظرافة منقطعة النظير، ويبدو أن محاولته نجحت معهم، وإحداهن شعرت بالرحمة تجاهه لم تفعل شيئًا وجلست بجانبه، وهناك من لم يستطع التخيل أبدًا لأنه صرح بأنه يعاني من قبل بداية الحفلة أن لديه مشاكل في الخيال، كل ما تخيله لون أزرق فقط، وصوت الموسيقى تقتحم اللوحة الصماء. قالت له المحاورة: "تسمح لي أقول تحليل شخصيتك".. "أكيد".. "أنت عانيت كثير في الطفولة عشان كذا ما قدرت تتخيل!". أعصابي بدأت تشتعل، والدم للحظات توقف عن الجريان، تبسّم الأخ وعبّر عن تفهمه بشكل ما، وأوضحت أنها هناك تحليل لكل شخصية، يمكنها أن تفعل ذلك على هامش اللقاء لاحقًا. بالنسبة لي لم أشارك ما تخيلته، ولا أريد معرفة شخصيتي، لأنني وجدت نفسي مربوط على شجرة جوز الهند الوحيدة في منتصف الجزيرة، ودمبلدور يفعل ما لا يليق كتابته.

 

اتضح لاحقًا أن البرمجة الثلاثية تشير إلى العقل والجسد والروح، لدينا المحاوِرة الأساسية وتتنقل من العقل إلى الجسد إلى الروح، وآخر سيشارك فجأة، ويعتلي المنبر، وقبل الهراء يعلن: "بالمناسبة ترى ***** زوجتي"، ويبدو أن يتلذذ بالاحتفاء العبيط من الحضور الذي يبدو فعلًا غير مدرك لهذه الحركة المسرحية الرديئة. ديف شابيل في أحد العروض وجد أمامه مكسيكي وزوجته الصينية، أخبرهم أن ابنهم سيكون أكثر عامل كادح على وجه الأرض، أما نتاج هؤلاء، لا أعرف، نسخة حديثة من صلاح الراشد، من يدري! عمومًا الثالثة صديقتهم التي ستأتي في آخر خمس دقائق، وتشاركنا حكمتها العظيمة عن برمجة العقل.

 

يبدأ الزوج عن أهمية تقليل هرمون التوتر، ورفع هرمون السعادة. يعيد ويكرر في أسماء الهرمونات، وكأن تكرارها يضيف المصداقية على حديثه، وعندما تعب صرّح أنه كوتش حياة معتمد، ولديه شهادة في الطب الرياضي. ماذا يعني الطب الرياضي؟ لا أعرف، كنت أتصور أنه المختص بمعالجة الرياضيين أو شيء من هذا القبيل. كان الزوج يتحدث بكل جديّة، ويحرك يديه وكأنه يلقي خطبة عظيمة أمام الألوف، خطبة يتصوّر أنها تشعل المشاعر، تسلب الأفئدة، تحرك المياة الراكدة، ويبدو لي أنه يتخيل كذلك أننا سنصاب بتلك الرعشة الجسدية التي تنطلق من أسفل الظهر إلى أن تبلغ جميع الأطراف. لن أستطيع في أي يوم من الأيام أن أفهم كيف يمتلك الأغبياء هذه الثقة المُفرطة، كانت عينا الرجل تلمعان وهو يتحدث عن أسخف شيء يمكن أن تسمعه أذن بشريّة، وفي اللحظة التي أوشكت فيها على فقدان السيطرة من الضحك المُتراكم، التفتُ على الحضور لأجد أعينهم تلتمع أيضًا! متأثرين فعلًا بهذا الهراء! متأثرين بصرخات: "ارحم جسمك ياخي، خليه يتنفس، لا تسمح لهرمون التوتر يزيد. ركز لي على هرمون السعادة، الركض أول الصبح، أنت تحتاج دوبامين...".. "طيّب وصلاة الفجر وين راحت؟".. "ياخي أقصد بعد صلاة الفجر، هذي ما يبي لها شرح، لازم تسمح لجسمك يتنفس، بيعطيك إنذار بعدين إذا تعبت، ويكون الوقت متأخر، يسألك وين هرمون السعادة؟ وين الدوبامين؟ وين التستستورون؟...". يستمر على هذا المنوال إلى أن كرهت المشي وهرمون السعادة، وكل الأطباء الرياضيين.

 

تأتي الصديقة التي تشاركنا المحاوِرة معرفتها من فترة الابتدائي، ولا أعرف كيف آثار هذا الدهشة عند البعض، من يرغب أصلًا في لقاء زميل من الابتدائية؟ توضّح أن التفاصيل الصغيرة اليومية تحدث فارقًا كبيرًا، على سبيل المثال ذكرت أنها ذهبت يومًا ما إلى العمل دون أن تضع المناكير. أخبرتنا أن لديها لازمة يومية وعادة صباحية، تجديد المناكير إن صحت التسمية. في ذلك اليوم المشؤوم استيقظت متأخرة، وذهبت مسرعة إلى العمل، لكن خلال اليوم بأكمله تشعر بأن هناك شيء مفقود، وتشعر كذلك بضيقة غير مفهومة أثرت على ثقتها في الاجتماع الصباحي، وبعد أن جلست مع نفسها لاحقًا، ومارست التأمل، وجدت أن السبب كما سيتوقع أي كائن بشري.. المناكير. عقلي في تلك الأثناء عمل توقف عن العمل، لا أذكر ما الذي تبع ذلك أو ما هي الحكمة المستخلصة من الحدث. إلا أنني تساءلت هل صداع الصباح كان بسبب نسيان لبس الساعة التي لا تعمل، ولكنني معتاد عليها!

 

تختتم المحاوِرة بقصة أختها المصابة بفشل كلوي، كنت أظن كما يظن الأغلب أن عصر المعجزات انتهى، ولكن ما تزال أختها من المنتقين بعناية، والذين تحيط بهم بركة الوجود. تعاني من فشل كلّي في أحد الكلى، والأخرى بنصف الفعالية. يقرر الأطباء أنه تبقى لها ثلاثة أيام على قيد الحياة. هذا القرار أتى بعد عدة أشهر من التمدد في المستشفى. هل استقبلت المريضة الخبر بحزن؟ لا طبعًا، قررت أنه في هذه الأيام الثلاث أن تضحك وتشارك أجمل المواقف والذكريات مع من حولها في محاولة لأخذ الحياة إلى أقصاها. تقول كنا نبكي وهي تضحك، وتتساءل كم تبقى؟ ثلاثة أيام وأرحل من الوجود؟ لا يهم. فجأة طلبت كل ما كانت تتلذذ به سابقًا. ستيك، حليب الشوكولاته، ولا أعرف إن طلبت شاورما كذلك، لكن من المؤكد أنها طلبت ورق العنب. كان الحضور على شفير الانهيار العاطفي، كم من الشجاعة والطاقة الإيجابية التي يحتاجها المرء لأكل ورق العنب في آخر الساعات الأرضية! أن يقال آخر ما أكلته ورق العنب، وتمضي الحكاية في الأجيال اللاحقة، الخالة التي واجهت الموت بورق العنب، الجدة التي ذهبت إلى العالم الآخر وبيدها ورق عنب، وتمضي الأسطورة إلى أن يُقال يخشى الموت من ورق العنب. بعد ثلاثة أيام حدثت المعجزة، وجدوا كلية ثالثة نبتت من العدم! لا بد لي من الاعتراف أنني لا أفقه شيئًا في الطب، حدود معرفتي لا تتجاوز استعمال الفوار لأي طارئ في الجسد، وحبوب سولبادين للصداع، وميليتونين للنوم، لكن أن تنبت كلية ثالثة هذا أمر جديد كليًّا. الأكثر جنونًا من كل هذا، أن الحضور بعد إعلانها أن الأخت تشافت فجأة، بات بعضهم يسبّحون في خشوع وآخرين يمسحون الدموع على عجل!

 

"الإنسان يعيش على جسور رقيقة فوق الهاوية". قرأت هذه العبارة قبل عدة أيام، وما تزال تتكرر علي من ذلك الحين. فعلًا الإنسان يعيش على هذه الجسور الرقيقة، بل يخلق هذه الجسور بأيٍ من الأدوات المُتاحة، ويتشبث بها بكل ما استطاع من قوة، ربما كنت قاسيًا بعض الشيء لو قلت من تأثر فعلًا بأصحاب اللقاء المجانين بأنهم مجرد أغبياء، فإنني سأفترض ضمنًا أنني أفكر بصورة أفضل أو أمتلك أدوات أفضل، وبالتالي هناك شيءٌ ما يلوح بالأفق يعكس الاستعلاء قليلًا أو كثيرًا. لذلك الخطة ب في التعامل مع أمورٍ كهذه دون الإصابة بوجع في الضمير، هي أن يُرى الإنسان مجرد كائن مسكين. ما الذي يجعله يصدق خزعبلات متعلقة بأمواج ألفا وبيتا وجاما تؤثر على العقل، وتتبرمج هذه الأمواج/الطاقة بمناكير أو رياضة أو خيال على جزيرة نائية! الجدير بالذكر أن القلق والاكتئاب أشياء حقيقية، وعندما تشعر بأن غيمة ما حلّت عليك، ولا تريد الانفكاك، اذهب للمختصين حتى تتمكن من فهم نفسك، وانسى لأجل خاطرك الصورة النمطية المتعلقة بهم. ما لاحظته من ضمن الهراء في تلك الليلة، أنهم كانوا يحاولون تسطيح أعمال المختصين، وكأن أساليبهم وطرقهم مجرد أشياء روتينية قديمة معروفة، ومضيعة للوقت والمال. مجددًا إن كنت تعاني ابحث عن المختص، أعرف سيسمعك بلا شك الصديق والأخ والقريب، ولكن أذن تفهم ملوخية الإنسان فهذا أمر مختلف، وتذكر الحياة ليست مزرعة كلى، وأن الجسور الرقيقة يمكن بناؤها بيديك، ولا حاجة إلى جزيرة استوائية لمعرفة نفسك!

الوليد

Alwaleed@hey.com

Join