شرخ في جدار الحظ العاثر!
أتذكر من سنتين أو ثلاث لمّا دُعيت لمقابلة بودكاست كان الهدف منها لقاء أشخاص مهتمين بالأدب غير معروفين -وما راح ينعرفون-. كنت متحمس للتغلب على أكبر هاجس يصيبني من وقت إلى آخر، وهو هاجس الإجابة المباشرة وليدة اللحظة، أتصوّر أنها ليست مهمة شاقّة مع أشخاص قليلين جدًا، لكن الحديث مع شخص معرفتي به شبه سطحية، وفوق هذا يسأل أسئلة جديّة تتطلب إجابات مُرتبة، وخيار الاستطراد صعب، لأن تلك المساحات الشاسعة لا تصبح مُتاحة عند أي أحد، وحتى الاستعارات غير المحتشمة أمر غير ممكن. بدأت أُجيب على بعض الأسئلة بشكل جيّد إلى حدٍ ما، أسئلة مثل تجربة رهيبة، موقف محرج، كتاب أعجبك، هواياتك، طقوسك في القراءة -أتمنى أن أعرف من ابتكر فكرة الطقوس هذه-، والتي بالعادة نمتلك إجابات معلبة تليق بفضول الآخرين. في اللحظة التي انتصف فيها اللقاء، شعرت أنني على وشك أن أوضع في زاوية ضيّقة، وستكون الإجابات كليشيهات سخيفة ومتكررة، كالإجابة مثلًا على سؤال لماذا تقرأ؟ وتكون الإجابة لأن حياة واحدة لا تكفي! وبالفعل لحظات ووجدت نفسي محشورًا في الركن! يسألني عن مصطلحات/مفاهيم كلنا نعرفها ونعيشها ولكن لكونها شبه بديهية فإننا لا نحتاج إلى وضعها في تعاريف محددة، وعند السؤال عنها نحتار قليلًا.
بدأ يسأل عن معاني هذه الأشياء بالنسبة لي: الحب، السعادة، النجاح، والحقيقة. وأتصوّر أن هذا النوع من الأسئلة لا يمكن الإجابة عليه بدون تلك الاستطرادات، بشكل مبسط لو سُئلت عن الحُب، سأبدأ بتقسيم الحب، في محاولة لإطالة الإجابة الرهيبة، هناك حب للأشياء وللأماكن وللأشخاص، وهناك تقاطعات لا نهائية بينهم، ومن ثم هناك الظروف الزمانية والعمرية، ولن ننتهي. الأمر كذلك ينطبق على السعادة، هناك درجات مختلفة، ولكن تعود في نهاية المطاف إلى شعور معيّن يصعب وصفه، أتحدث عن وصف ذاتي يُعبّر عنه بشكل جيّد، وليس مجرد اقتباس يختصر علينا العناء -في يوم السعادة أرسلت الشركة عبارة لغاندي، لماذا غاندي تحديدًا؟ لا أعلم، ربما يتعلق الأمر بالإحرام الذي يرتديه!-. المهم أنني على ما أذكر أجبت عن السؤال الأول والثاني لمجرد الإجابة، وفي اللحظة التي سأل فيها عن النجاح، احترت في الإجابة لأنني كنت أفكر بأي كيس عابر للقارات. لاحظ أنني أطلت التفكير، فقرر مشكورًا تغشيشي إجابة خايسة لا أذكرها، لكن أتذكر أنني كررتها وبدا راضيًا. أما الحقيقة فضحكت بمجرد أن طرح السؤال، فقرر تجاوز السؤال لما يليه. لحسن الحظ أن تلك الحلقة لم تعرض ولم تنشر، وكانت تلك من اللحظات القليلة النادرة التي أشعر فيها بالرضا بغض النظر عن الجهد المبذول، ويجدر بالذكر أنني أجهل السبب إلى يومنا هذا.
تيقنت من عادة عدم الردود السريعة منذ وقت مبكر، كان السبب الرئيسي قلّة الحيلة، وليس نتيجة عدم وجود رد يليق، واستحالت العادة إلى لازمة تثقل عليّ أحيانًا، وأحيانًا أُخرى تنقذني من إكمال نقاش لا أشعر أنني فعلًا مهتم بالأفكار المطروحة -أو هكذا أبرر لنفسي لتجنّب وخزات أسفل الظهر عند ترتيب الأفكار العشوائية لأشخاص لا أعرفهم-. في ذلك الوقت وُضعت في أحد تلك المواقف التي لا يطيب للإجابة أو الرد أن يترتب إلا بعد الخروج من الموقف، ويظل يلازمنا الحوار المُتخيّل. كنت في المرحلة الابتدائية، وتحديدًا في اختبار مادة القواعد، السؤال يقول: "أعرب الكلمة التي تحتها خط". أتذكر أنني رفعت يدي للمُدرس/المُراقب، أتى وهو يسحّب قدميه، وكان بالإمكان سماع أنين المسواك العالق في الجحيم! نسيت ما الذي التبس علي في السؤال، رفع الورقة، نظر إليها، أعاد النظر إليّ، نظر مجددًا إلى الورقة، يضع الورقة على الطاولة البنية، وخلال لحظة واحدة لم تتطلب الكثير من التفكير، يُطلق العبارة التي ستصبح مؤرقة لليالٍ عديدة، ليست لأنها جارحة، بل لأنني كنت عاجز عن الرد، وأنا أنظر إلى ظهره، وصوت احتكاك الزبيريات على الأرض، لم أفعل أي شيء لحفظ ماء الوجه. أصبح الموقف في أحيان نادرة يُعاد بالمشهد المُتخيّل، عندما كانت الانتصارات الصغيرة من هذا النوع تمتلك معنى، ولاحقًا أصبحت تُحكى في الليالي المِلاح للضحك. حدث بالضبط كما غنّت نجاة الصغير: "أنت تقول وتمشي، وأنا أسهر ما أنامشي"، قال: "سبحان رب البقر والبعارين"، ومشى!
بعد الموقف بفترة طويلة، وقبل لقاء البودكاست، شيءٌ آخر حُكم عليه بأن يظل حبيسًا، كالرد المتخيّل وكاللقاء بأكمله. كرتون أبيض مُستطيل متوسط الحجم، مُغلّف بنيّة غير بريئة، وستة أنواع قهوة مُختلفة يعلو ترتيبها شبه المتساوي كتاب Outliers لمالكوم غلادويل. كان الغرض من هذا الصندوق إغراء أحد المثقفين الذي يمتلك شعبية كبيرة نسبيًا، وكان الهدف من المُهدي إعلان مجانًا لمحمصته -متيقن تمامًا أن المثقف هذا وصاحب المحمصة سابقًا لن يقرؤوا هذه التدوينة-، لم يُعلن المثقف، ولم يحتفظ بالصندوق، ألقى به إلى أحد الأصدقاء غير المهتمين بالقهوة، والذي بدوره ألقاه علي. كنت أشرب أيام الجامعة قهوة مجانيّة بعد شاورما الفوّار -بعده لا تشك ولا تحتار!- مع الصديق الذي سيصبح العمود الفقري لمقهى معروف على نطاق واسع. قمت بإلقاء الصندوق بما فيه على الرف العلوي داخل الدولاب بجانب كرتون الفحم، وعلى مدار عام تقريبًا ظلّ الأحمر المُشعّ يُستعمل بشكل دوري ويُستبدل بآخر، والكرتون الأبيض في مكانه لا يتزحزح. لسبب ما أخرجته، ووجدت أن أنواع القهوة كُلها تلفت، وكنت مشبّع بأفكار غلادويل من أحد عشّاقه، دكتور في الجامعة، الذي عرض علينا أكثر سيلفي بائس مع المؤلف، ألقيت بالكتاب على الرف دون أي رغبة في الاطلاع عليه. قبل أيام سألني أحدهم عن النجاح، وبعد طول انتظار لم أجد إجابة إلّا أن أقول: "أن أكمل هذه الحياة دون أن إيذاء شخص عن قصد"، كلانا يعرف أنها مجرد محاولة لإثارة الدهشة، ولاحقًا تذكرت الكتاب.
لدينا فائض من قصص الناجحين، الملهمين، والعظماء بلا مدارس وهؤلاء يمكن اعتبار قصصهم أو التأثر بهم مجرد مضيعة للوقت، لأن أي نموذج ناجح يُحتذى به، يتم تجاهل كل الفرص التي أوصلته إلى ما وصل إليه، ربما تسمع هنا وهناك عن عصامية الشخص، وخروجه من أسرة معدومة أو كان ينقل الخضار من منطقة إلى أخرى. غلادويل يرى أن الأمر لا يتعلق بالجدارة الذاتية بشكل خاص، بل بكمّ الفرص الهائلة التي أتيحت لهذا الشخص أو غيره، والتي وفرت له البيئة والعقلية المناسبة لممارسة العمل الذي سيجعل صوره أو شعار شركته تتداول في كل مكان على ظهر البسيطة، هذا في حال اعتبرنا النجاح المجتمعي أو العالمي أمر يعوّل عليه لاستنباط الدروس والحكم الملهمة من تجربة هذا الشخص. كل هذه القصص التي تبدو لنا من أول وهلة كافحت من أجل الوصول، ليست إلّا أحد مكونات الخلطة للقصة الناجحة، ستجد دائمًا تكرار لكلمات عبيطة مثل: الشغف، المهارة، وحتى علامات النباهة المُبكرة، يُؤتى بشخص كان قريب من العلامة الناجحة ويحكي عن البدايات بصورة شاعرية! الفرص التي تحدث عنها غلادويل دقيقة جدًا، ليست حصرًا على العيش في منطقة محددة أو أسرة ثرية توفر أسباب النجاح والوصول، بل أدق من ذلك بكثير، أن تلد في شهور معينة من أعوام محددة، الأدوات التي وفرتها المدرسة، المدرس الذي لم يقل يومًا سبحان رب البقر والبعارين، الأشياء المتداولة في ذلك الزمن، التقاطعات مع أشخاص نافذين، وغيرها الكثير. أحد الأمثلة كان بيل غيتس الذي مر بالعديد من الفرص تبدأ أولًا من الأسرة الثرية التي نشأ فيها، وانتقل إلى ثانوية في منطقة أخرى، تقرر الأمهات من أموالهن الخاصة توفير جهاز بنظام حديث في ذلك الوقت يتيح للطلاب تعلم البرمجة، وبمساعدة آخر يكتشف ثغرة تمكنه من استعمال الجهاز دون التزام بالوقت المحدد، وأحد آباء الطلاب يوفر له تجربة عمل، وسلسلة طويلة من الفرص/الصدف إلى أن وصل إلى قائمة أثرياء الأرض، هذه الفرص أتاحت له ممارسة القاعدة التي يضعها غلادويل للوصول إلى قمة الأشياء، وهي قاعدة العشر آلاف ساعة، والتي يُعاد تعريفها لاحقًا في قصص النجاح إلى العمل الدؤوب والشاق. أحيانًا أتساءل ماذا كان يفعل الأجداد؟ يؤرقني عدم وصولهم إلى الثراء. لدينا نموذج واضح ومعروف في كل مكان يُقال أنه كان حمّال أمتعة، وتنقل بين العديد من الأعمال الصغيرة إلى أن افتتح "بقالة"، وتحدث هنا فجوة هائلة في القصة، ونجد فجأة أنه أسس أحد أكبر المصارف الإسلامية -أيًّا ما كانت تعنيه هذه التسمية-. متأكد لو أننا نبشنا قليلًا في الحكاية، نعم سنجد شخص مكافح ومجتهد، ولكن سنرى أيضًا عشرات الفرص التي مهدت الطريق، تاريخ الميلاد، الأسرة، البقعة الجغرافية، المعارف... إلخ، لذلك يمكنني الآن عدم السخط على الأجداد لأنهم بكل بساطة كانوا أصحاب حظوظ أقل!
بعيدًا عن الأيقونات الناجحة، والتي يجدر بك الركض بعيدًا عندما يُتاح لك الفرصة لسماع قصصهم، لأنه في نهاية المطاف مسارات الحياة تختلف أكثر من أنفس الخلق، وأسباب النجاح ليست واحدة وليست دائمًا في متناول اليد. لا أتذكر تحديدًا متى سمعت عن قصة ذلك الرجل العادي، الذي عاش حياة عادية، وتزوج امرأة عادية، وخلّف أبناء عاديين، وانتهى نهاية عادية، يبدو لي أنها ذُكرت في سياق أن تصبح مختلفًا وأن تمخّر عباب الدنيا، وتأتي بما لم يأت به أحد من الزملاء، لأننا لو قلنا العالمين ستكون مقارنة كبيرة تُفسد الفكرة. أتساءل اليوم لماذا هذا الإصرار على تحقيق شيء يُعتد به؟ لماذا لا يحق للمرء أن يعيش حياة عادية ما دام راضيًا؟ لماذا نرتبك عند الإجابة على سؤال: "هل تعتبر نفسك شخص ناجح؟" ولا أعني الإجابة الجاهزة التي لا تجرح الكبرياء، بل الأفكار التي يطرحها السؤال قبل النوم مع هوس المقارنات اللانهائية. كنت وما زلت أرى النجاح لا يتعدى فكرة أن يتقن المرء عمله، وبعبارة أحد الأصدقاء: "عدم الإخفاق". فكرة عدم الإخفاق لذيذة، حتى وإن كانت ثقيلة إلا أنها تضبط إيقاع الرضا، وتضع معايير مرتفعة إلى حدٍ ما، وربما تحدث شرخ في جدار الحظ العاثر. النجاح هو أن تقترب قدر الإمكان من الرضا، وألا تضيّع وقتك بقصص أو حكم الناجحين، وأن تحتفي دائمًا بالانتصارات الشخصية الصغيرة، وطبعًا يحق لك أن تتمنى الوصول إلى الثراء، ولكن لا تسير الدنيا بالأمنيات، والآن أترقب الشخص القادم الذي سيسألني عن النجاح.