!مردها تزين


كولاج 2022

تختلف استعارة الحياة من وقت إلى آخر، وتبدو لي الآن أنها تشبه طريقًا تتفرع منه عدة طُرق، عند كل منعطف توجد اتجاهات مختلفة، وما إن نسلك إحداها حتى تختفي الأخرى، وهكذا يمضي العُمر في الحسرة على الطرق الممكنة، والتبرير للطرق المُختارة، وتظل هناك رغبة مستحيلة في اختراع طريق ترابي يربط المسلوك بالممكن، ولكن في كل الأحوال، السعيد من يصل إلى منعطف ما، ويجد أن الأمور سارت بشكل طيّب، أما التعساء فهم الواقفون على الأطراف، لم يمضوا، ولم يختاروا، ويقتلهم العجز عن العودة، لذلك يمكن القول أن الأفراد التعيسين في هذه الاستعارة يتشابهون، أما السعيدين فيمضون كُلٌ على طريقته الخاصة، وليتقلب تولستوي في قبره كيفما شاء.

 

لسبب لا يعرفه أحد لم أتمكن من لملمة الإنجازات الثقيلة أو المهترئة للعام السابق، ولكن هذا العام يصعب نسيانه بسهولة لأن فيه أمورًا كثيرة فارقة، وحدث أن أصبحت فكرة النجاة من العام مثيرة للضحك، ولكن قلتها لنفسي أكثر من مرة لو نجوت من الأشهر الأولى لعام 2022 سوف أكون قادرًا على تحمل أي نوع من الضغوط، وهذه طبعًا نزوة نرجسية لأننا نعلم إلى أي حد يمكن للأقدار أن تتلاعب بنا، وأننا في نهاية المطاف كائنات هشّة، الهشاشة التي أعيدها وأكررها في معظم التدوينات، ودائمًا تفتنني فكرة أنه بإمكاننا الوقوف أمام أعتى الأحداث، وفي ذات الوقت تكسرنا كلمة!

 

في هذا العام، نشأت بيني وبين الموسيقى علاقة مضطربة، اكتشفت أنها تمتلك علي سطوة رهيبة، ولا يمكن التيقن إن كانت أحداثًا حقيقية أو مُتخيّلة، ولكنها تحيي الأرض اليباب، والقلب/العنقاء، ويا لهول ما يغريه التراخي، لا يزدهر إلا بالرماد. كنت أعتقد أن القلب يتّسع لكل الأشياء، ولكن نختبر عدة أمور نؤمن من خلالها أنه كي تعيش الأشياء يجب أن يموت بعضها، والموسيقى في الطرف الآخر ترفض الموت. القلب توابيت متراصفة، والموسيقى أمطار غزيرة، لن ينهض أصحاب التوابيت مهما صبّت السماء. تظل كل الأشياء على ما هي عليه، سيظل القمر الرمزية الأجمل في الوجود، والشتاء الفصل الذي لا يُحب إلا في الصيف، ولن نتخلص من شعور الرسائل/الكلمات التي يجب إيصالها بالرغم من كل ما قيل. الموسيقى أصبحت مهيبة كالذين أحببناهم يومًا ما، ورحلوا! أولئك الذين باتوا يتجولون في سماءات مجهولة، الذين مات بيننا وبينهم السيل السردي، ولأن الأشياء تنتهي في هذا العالم بغض النظر عن القمر والشتاء، ولكن بإمكانها دائما أن تحرّك عاطفة عابرة، تظلل تابوتًا ما، حتى الأموات لا تريد أن يصيبهم الشمس/النسيان، تغلف ذكرى أو تصنع إطارًا لفجرية فاتنة، ولكن بالقُرب من نهاية العام، يتجدد الصُلح، ونعيش على الوهم اللذيذ مجددًا.

 

وقبل الحديث عن أبرز أحداث هذا العام، ولا أريد لهذه التدوينة أن تكون نشرة أخبار أو عمليات إحصائية للقراءات، والتي يُلاحظ أن البعض يضع كل الكتب والأفلام والمقالات ويضعها تحت مسمى: "التفضيلات"، لكن يجدر بالذكر أن السعودية فازت على الأرجنتين، ويطيب لي أن أقول بركات لين، وميسي يرفع كأس العالم، وبيليه يموت، بيليه الذي لا أعرفه إلا من كتابات غاليانو الذي قال مرّة إن لم أكن مخطئًا، فيما معناه، أن الكاتب الجيّد هو الذي لا يصف المطر، ولكن يجعلك تتبلل وأنت في مكانك، ومن حسن الحظ أن من قراءات هذا العام، في نهاياته، الكتاب الأول لكونت مونت كريستو الذي جعل السقف ينهمر من دموع مرسيدس، وتستحيل الجدران الأربعة إلى زنزانة دانتس، وكوب الشاي إلى المادة اللزجة الخضراء، والتي سمّاها طعام الآلهة، الرواية تجعلك تنفعل بشكل مُريب، الانفعال الذي سيصيب تحديدًا كل من يقول أنه أصبح لا يشعر بالدهشة بسهولة، هذا العمل يلمس مناطق خفيّة، ويحرك المياه الساكنة، وفي كل فصل تتغيّر الأشياء من حولك لتتوافق مع الأحداث، في إحدى المرات شعرت أن المكيّف موجة عاتية قادمة من جهة قلعة إيف، وعلى النيل في المركب الصاخب بحثت في الأرجاء عن جزيرة مونت كريستو، ولكن لنترك الحديث عن هذا العمل لمناسبة أخرى. 

 

على ذكر النيل، أتسلى أحيانًا بتعداد الأماكن أو المُدن التي قمت بزيارتها لأنها تدغدغ الحُلم القديم في التنقل حول العالم، الحُلم المُتصل بأحلام الطفولة، البعض يرغب في أن يكون طبيبًا والآخر طيّارًا، وبما أنه لا أحد يمكنه إثبات أو إنكار المعلومة التالية، فيمكنني القول إنني كنت أرغب في رؤية كل العالم، والتعرف على كل الشعوب، أكلهم ورقصهم وآلهتهم. المهم هذا العام رأيت مدينة الفالصو/الفقاعة، التي اتخذت عهدًا على نفسي بألّا أزورها لأنها بلا طعم ولا رائحة، ولكن كلنا نعرف أنه لا يمكن المُراهنة على القرارات وليدة اللحظة. مدينة أخرى توقف عنها الزمن، وغيرها المدينة القديمة المتجددة، بالإضافة إلى مدن بقايا الاستعمار، وللمرة الأولى اعترف بأنني أحب الطبيعة. كنت مقتنعًا، دون سبب وجيه، أن الأماكن الطبيعية يكفيها يومًا أو اثنين ويعتاد المرء على المساحات الخضراء الشاسعة، ولكن بدا لي أن الروح تتسع مع الأيام، هل هذه علامات مبكرة للتقدم في السن؟ لا أعرف. صديق يعلّق على أمر آخر: "القفلة تنحل، والروح تتسع"، وهذا بالضبط ما يحدث عند الطبيعة، ويبدو لي أنه شعار ملائم أسير به في العام القادم، يشبه كثيرًا: "مردها تزين"، ولكن لابس كارفيته!

 

في مطلع العام كنت على أعتاب الفصل الدراسي الأخير من الماجستير، العمل الجديد، وترقب الضيف القادم، وكان سلاحي الأهم في مواجهة كل تلك الضغوطات فكرة أن كل الأشياء مردها تزين، أتصوّر أنه كان شعاري الوحيد الذي ما انفك أذكر نفسي فيه. لا وقت للبكاء/الانهيارات من الضغوطات الخارجية أو الداخلية، وكما قيل وسيقال لاحقًا إن قوانين الحياة، قوانين لعبتنا الكبيرة، لا توجد فيها منطقة رمادية يمكن من خلالها التقاط الأنفاس، كل ما عليك المضي قدمًا بقلب جسور. بدأ العام مُحملًا بالقلق والترقب، وانتهى بالقلق وبالأفراح التي تقبض الصدر قبض الألم، ويمكن القول إنه مضى معظمه بين غرف الجامعة، وغرف السونار!

 

لا أحب الحديث عن العمل بشكل مباشر في التدوينات، لأنني لا أرغب في أن يقتحم العمل منطقتي الأكثر خصوصية، ولكني على أعتاب منصب جديد، وقد أتحدث عنه لاحقًا، أما الدراسة بحكم أن انقضت، الآن على الأقل، لو سألني أحدهم لماذا درست الماجستير، ستكون افتتاحية أي إجابة أنني أريد أن أبرز العضلات، في سوق العمل عمومًا تُريد إبرازها قدر الإمكان، وهذا الأمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بهز الخصر على المنصات الاحترافية، إن صحّت التسمية، ولم أتمكن من الشعور بالمنجز إلا بعد استلام وثيقة التخرج، ولكن كما هو معلوم لذة الانتصار ساعة، ولأن المُرتقب على الضفة الأخرى من الحياة أكثر مدعاة للقلق.

 

تفاصيل الضفة الأخرى كتبت عنها كثيرًا، ولكن لدواعي الخصوصية سأحاول قدر الإمكان إبراز الأمور الرئيسية، بدون الإخلال بالمساحة الخاصة، ولنبدأ بالخط الأحمر الوحيد المستفز، كنا نقول لندع الأمر أكثر من يوم لعل الوفود المليونية لم تصل بعد، وبعد ثلاثة أيام أو خمسة أيام نجرب مرة أخرى، وما يزال الخط الأحمر الوحيد، نقرّبه من أعيننا، نتأكد إن كان هناك شيء خفّي، نضعه تحت الإنارة، نقلبه إلى الجهة الأخرى، نصوّره بالهاتف بالألوان السلبية، وكأن الأمر متعلق ببحث مضنٍ وليست نتيجة أحماض معينة، ويبدأ الشهر التالي محمّلين بالآمال والأمنيات. 

 

يظهر الخط الآخر الفاتن.

 

تمضي الأيام، والتغيرات التي تحدث لا يمكن التنبؤ بها، وصوت النبض للمرة الأولى يجعل الحُلم حقيقة، تمضي الأيام العباية تصغر، والقلوب تتسع، تمضي الأيام ونرى الجنين في السونار نائمًا يضع يديه على جبهته كعلامة وراثية، تمضي الأيام نقترب أكثر فأكثر من معرفة جنس الجنين، كلنا نرغب في بنت، لماذا بنت تحديدًا؟ سألتقي لاحقًا بمصري يريدني أن أتذكره لمئة سنة قادمة، أتذكر تحديدًا عبارته أن البنات يفتحون أبواب الرزق، وأن الهموم تذوب عند رؤيتهن، يرققن الروح، ويلطّفن القلب، وحتى نتمكن من التماسك أمام هذه الرغبة الجارفة، كنا نقول قبل أن نعرف، كلهم خير. تمضي الأيام ونعرف أنها بنت، والفرحة لا تُقدّر بثمن. تمضي الأيام، وأسمع لين تبكي بصوت فاتن، أراها توضع تحت جهاز يشبه المايكروويف، بإضاءة حمراء ساخنة، ويعمل الممرضون الفحوصات، وأشياء لم أتمكن من النظر إليها، وفي الجهة المحاذية السترونج اندبينت مذر، وصوت قياس النبض يرتج في مؤخرة الرأس من ساعات الانتظار الطويلة، لتفت على لين، سلمت عليها، وتأكدت مرتين أن كل مؤشراتها طيّبة، تطمئنني الممرضة أنها بخير، لدرجة أنها حملتها ووضعتها على الميزان أمامي، لا أعرف كيف يُعد ذلك طمأنةً، ولكن لسبب ما شعرت بالطمأنينة!

 

تمضي الأيام، وتكتشف لين أنها تمتلك يدين، وتتأمل فيهما كمن يتأمل جوهرة ثمينة، الخوف والتساؤل عن ماهية هذا الشيء الذي يمتلك خمسة نتوآت بارزة، وبحركة لا إرادية تظهر الأخرى مُطابقة لها في الشكل ومخالفة بالاتجاه، ولأنها لا تعرف تركيبة الأشياء ولا تشعر بالألفة معها إلا بالتذوق، أصبح بالإمكان توجيه اليدين أو أحدهما مباشرة إلى الفم الخالي تمامًا من الأسنان، والتي على غير العادة تمتلك أجمل ابتسامة رأتها عيناي، والمفارقة أن أسوأ ابتسامة رأيتها كانت لأحد الأقارب على طاولة العشاء في عرسٍ ما، تغيرت ملامح وجهه عند الأكل، وبدأت أخشى أنه دُوار أصابني غيّر ملامح الأشياء، بعد رفع البصر مجددًا، اكتشفت أنه انتزع طقم الأسنان، ولسبب لا أعرفه طاب له الحديث والضحك بشكل مُبالغ فيه، وكأنه يريد أن يؤكد لنا أنه لا وجود لأمرٍ يسبب الحرج، هل مات أحدهم لأنه وجهه شُفط للداخل؟ لا طبعًا!

 

لين تنتفض عندما تقترب من النوم عند أدنى الحركات، حركة الباب، همساتنا في آخر الليل، تنبيهات الجوال، وطبعًا صرخات المباريات، لأننا في تلك الأيام نعيش كأس العالم في قطر. عندما تنام، تتحول الشقة إلى حقل ألغام، لا تدري من أي يباغتك الشيء الذي سيسبب بانهيار عضلات اليدين أو الرجلين، والتي كانت تتحرك لمدة نصف ساعة حتى تقرر أختنا في الله النوم. نتناوب أحيانًا على تبديل الحفاضات، وإن كنت أفعلها بشكل أقل بكثير، ولكن في تلك المرات القليلة شهدت العديد من المفاجآت الغادرة، وكأن لين تحاول أخذ حقها من تلك النفضات التي نسببها لها من وقت إلى آخر، لا تأخذ حقها بيديها بعد، ولكن بحدود الممكن في هذه المرحلة!

 

لذة مُراقبة الكائن الصغير وهو يتلمس طريقه نحو الحياة لا تُعادله أي لذة أخرى.

 

الحكمة المستفادة بعد النظرة المقتضبة على العام المنصرم: السعادة فكرة أولًا، وقرار شخصي ثانيًا. بالنسبة إلى الأصدقاء لا تنتهي حكاياتهم، وفي كل عام تكون مُتخمة بالأفراح والمسرات والأحزان والإحباطات، التي تكاد تكون متطابقة أحيانًا، وهذا ليس لأنهم غير محظوظين، ولكنها الحياة، ودأبنا كما هو دأبهم، تجسير أحدنا الآخر على الدوام. أما الطُرق فيمكن القول إنني ما زلت أبرر للطُرق المختارة، والقليل من الحسرة على الطرق الممكنة، أقل من أي وقتٍ مضى، والرغبة الدائمة في اختراع الطُرق الترابية، وختامًا كل الأشياء مردها تزين!

الوليد
Alwaleed@hey.com

Join