أنت ريموتك!
والله هذا الكلام مو بس كلام!
مدربة حياة
مؤخرًا نرى الميل إلى فكرة التصالح المفرط مع الأشياء، وتقبّل الجميع بغض النظر عن أفكارهم، لأنها اختيارات شخصية، أو رؤيتها من خلال اللطف الفائض عن الحاجة في عدم الاطلاع على النوايا أو الأعمال الصالحة الخفية، وأيًّا تكن الأسباب فالنتيجة واحدة: لا تحكم على الآخرين. يعلن الزميل هدفه عن هذا العام: "I choose peace"، لماذا بالإنجليزي؟ لشيء ما في داخله، ولن أحكم على أي شيء، ولكن ما هي الإشكالية مع كلمات مثال: الطمأنينة، السلام، الهدنة أو غيرها من عشرات الكلمات التي يمكن أن تعبّر عن الفكرة، لا، بيس. المهم قررت هذا العام اختبار هذه الفكرة، وجعلها الهدف الذي أسعى إلى تحقيقه، لأنني في جلسة مصارحة مع الذات، توصلت إلى أنه توجد متعة في الكتابة عن المواقف البشرية المجنونة، وأخشى أن تصبح جميع تدويناتي المستقبلية عنهم، لذا شعار العام: "!Accept them as they are".
مشاركة الأهداف مع الآخرين والحصول على الاستحسان من قبلهم يمنحنا شعورًا بالإنجاز، تتويج الصياغة الرهيبة وجاذب السياق الذي أوصلنا إليها يشبه تحقيق الهدف بدون أي مشقة. على سبيل المثال، أحد أهدافي في العام الماضي تعلم اللغة الإسبانية، ويمكنني مخاطبة الآخر بلا أخطاء: "لا شكرًا، أود الانتظار هنا لو سمحت"، في حال اضطريت إلى إقناع العصابة أنه لا حاجة إلى الخطف! أتصوّر وجود أهداف تنتقل من عام إلى آخر، وأصبحت نكتة مكررة في بداية كل عام، كلنا نعرف ذلك الظريف الذي يترقب آخر يوم في العام ليقول: "نشوفك السنة الجاية"، أتخيّله يبتسم وهو يضع رأسه على الوسادة في الليلة السابقة، ويحدد العبارة التي سيفتتح بها صباح اليوم الأول من العام: "يوه لنا سنة عنك!"، ولكن تقبّل الآخرين هذه خفّة دم ولطافة مضحكة. يجب رؤية الأشياء بالنصف الممتلئ، بمعنى ما الداعي للكتابة عن شخص يرغب في إقناعي أن الذكاء الاصطناعي مذهل جدًا من خلال رفعه للهاتف أمام أنفي، وضغطه على تسجيل الصوت: "السلام عليكم"، ويرد البرنامج على التحية بصوت أنثوي شبه محكم، ويصرخ: "شفت! قايلك رهيب."، عادي تمامًا، هذه محاولة حقيقية للإقناع مغلفة بنيّة طيبة. وبالتأكيد لا يوجد أي سبب للكتابة عن عميل يمثّل شركة أدوات بيت الراحة، سباك لابس كرافته، رغب في حملة إعلانية ضخمة، ولديه فكرة فيديو إبداعي. يرى رب الأسرة يدخل المنزل، وفجأة ومن حيث لا يعلم تهب رياح قوية، تقتحم المنزل، وتنتزع الأشياء، ويلجأ لسبب لا يوجد إلا في مخيلة العميل إلى دورة المياه، يتمسك بالصنبور لينجو بحياته، الصنبور صاحب الجودة العالية والمثبّت في مكانه بإحكام. انتهت الصفقة قبل أن تبدأ عندما علقت: "أوك عنوان الحملة: بزبوزنا بينقذ حياتك". ماذا لو تقبلت الأمر على أنّه مجرّد نقص حاد في المخيلة، لا توجد نوايا سيئة هنا، عميل في نهاية المطاف، والعملاء نهر لا ينضب.
كانت الأمور تسير على ما يُرام، كل ما يتطلبه الأمر البحث في مستودع اللطف الفائض عن الحاجة عن أي عنوان يصنف أفعال الآخرين لتقبلهم دون الشعور بالتهاب القولون، إلى أن وصلت إلى أول اختبار حقيقي، مدربة حياة تقول إنه يمكن التعامل مع الحياة كـ"ريموت"، لكنك غبي قليلًا لأنك لم تكتشف بعد هذا السر!
أتذكر الدهشة التي أصابتني وأنا أشاهد فيلم Click لآدم ساندلر عندما نزلت نسخة البلوراي على التورنت. يتحدث الفيلم عن وجود جهاز تحكم يقدّم، يؤخّر، يكتم، ويوقف اللحظات لتصحيح الأمور، سواء بسحب الكلمات أو لكم الآخرين إذا تطلب الأمر، ومثل معظم الأفلام الأمريكية التي تريد تعليمنا دروسًا حياتية عن عيش كل لحظة بلحظة، وتثمين الأشياء التي نمتلكها، والالتفات إلى الأسرة قبل فوات الأوان، وبالمختصر بعد سلسلة أحداث يخبرك الفيلم أنه لا حاجة إلى جهاز تحكم لضبط إيقاع الحياة. لا أريد أن أقول لا أمتلك الوقت لمشاهدة فيلم لآدم ساندلر كما يطيب للمهنيين المحترفين، ولكن متأكد أن الفيلم سخيف جدًا، لأنهم لو أعادوا لك الفيلم فمن يعيد لك التورنت، ولحظات انتظار التحميل نصف يوم، ومتعة احتضان اللابتوب بعد منتصف الليل على السرير. المهم، تمضي السنين وأجد الريموت ماثلًا أمامي في شريحة عرض، لم يبذل فيها أي جهد، إلا الظهور البطيء في الانتقال من الشريحة السابقة كحركة تدل على الإثارة والترقب.
تُقدّم الأستاذة بعد ديباجة طويلة في سياق مقتحم للحدث، وبعد دقائق أمكن إلى حدٍ ما تخمين المصدر الذي منحها هذه الفكرة العبقرية، فكرة: "أنت ريموتك". البعض يشاهد الفيلم ويضحك، والبعض الآخر يراها منهجية حياة، لكن من أنا لأحكم على الآخرين. كتبت قبل أسابيع استعارة الدجاجة للحياة، وأعترف أنني ترددت في إكمال هذه التدوينة، ولكن الأمر الأساسي أو المريح بالنسبة لي أن الدجاجة فكرة أدبية، ولا أتوقع أنها كانت بصيغة تبشيرية وعظية، ولا أذكر أني كتبت على سبيل المثال: "والله العظيم محد يتحكم فيك يالدجاجة!" المعذرة، نسيت لوهلة شعاري الجديد: تقبّل الجميع بلا استثناء. كانت تردد المدربة: "تحسون هذا الكلام سخيف، والله هذا الكلام موب سخيف.. والله هذا الكلام مو بس كلام!"، ولأنني قررت عدم التنمر على الآخرين، لن أحكي عن توقعاتي لأسباب الحلفان المتكرر، ولا عن الكشف العظيم بنهاية الجلسة أن هذه هي المرة الأولى التي تقف وتحكي عن المادة التي تنوي تطويرها مستقبلًا، ولن أحكي عن رغبتي بأن تكون الأخيرة، ولا عن الإحساس بالصداع وليس التفاهة فقط، ولا عن تسطيح الحياة ليتم التعامل معها كريموت ووضع منهجيات وأزرار للتحكم، وأقول لماذا لا أطبق شعار التصالح مع الأشياء، من يدري، ربما يتوقف قليلًا غزو الشعر الأبيض. إذًا أنت ريموتك!
على الأغلب تفكر الآن في البطاريات، لم يسألها الحضور عنها، وأدّعي أنني فكرت في جميع الاحتمالات الممكنة، ولكن لا يهم الآن، كل ما يهم هو وجود خمسة أزرار رئيسية في الجهاز المتخيّل: البداية، الكتم، التغيير، الإعادة، والطوارئ. اقترب منها البعض نهاية العرض، وهذا يصرّح: "أنا أحب أكرر الشيء حتى أصل إلى الكمال."، وترد: "واو، شكرًا لك، تدري ليش؟ لأنك قلت اللي في بالي." ولو حاولت الآن اختبار المنهجية على الموقف السابق، فيمكن القول إن زر البداية يعني حسم الأمور، الخروج من المكان بلا تردد. زر الكتم يشير إلى اعتزال ما يؤذيك، رفع الجوال ومشاهدة بريد العمل. زر الإعادة أن أكرر نفس العبارة للمدربة لمنحها التأكيد على صلابة أفكارها، وهذا ادعاء لا أقوى عليه، أو أحاول جمع زرّين على بعضهما في حركة غير متوقعة من باب التغيير والإعادة، أن أقول مثلًا: "صحيح والتكرار يعلّم…"، ولكن الزر المنطقي في هذه الحالة هو الطوارئ، التواصل مع أبو تركي للخروج في كشتة نعيد فيها كل الأحاديث بطرق مختلفة!
تحدثت المدربة عن أمور كثيرة مضافة إلى الريموت، مثل جلسات المصارحة مع الذات، ومن ثم تحديد الأهداف، وبعدها اختيار الأزرار المناسبة لكل هدف. كانت الفكرة من هذه التدوينة محاولة تطبيق المنهجية على مواقف متعددة في الحياة، واختبارها بشكل جيّد، لتوضيح أن تقبل الآخرين كما هم فكرة هشّة، ولكن شعرت بالملل وباتت التدوينة حبيسة الملف ومُلحة بشكل رهيب، ولم أتمكن من البدء في الأفكار التالية. الإلحاح الذي أصابني هو فكرة جلسة المصارحة مع الذات، لأني تذكرت قرار تغيير التخصص أيام الجامعة.
توجهت إلى أحد المقاهي على سطح فندق قريب من البحر، ومعي أوراق A4 وقلم أزرق، طلبت مشروبًا ساخنًا كبيرًا، وجلست بمحاذاة المطل حتى يكتمل طقس المصارحة. أخرجت الأوراق، ورصفتها أمامي في محاولة للإجابة على سؤال: "وش قاعد تزيّن بحياتك؟"، السؤال الذي وُلد من معاناة ترم دراسي ثقيل، وحياة مقلوبة رأسًا على عقب، وتفاصيل أخرى غير مهمة. كان الهدف الأساسي من هذه الجلسة رسم خارطة الطريق للمستقبل الدراسي وسيناريوهات متوقعة للمستقبل المهني، وكنت آمل بالحصول على إجابة وإن كانت غير واضحة المعالم تجعل الأشياء أخف وقعًا على النفس. أتذكرها ليلة شتوية، البرد قارس، والمشروب لا يُستساغ، ولكن 30 ريالًا، التي تعادل تقريبًا ميزانية يوم كامل بحسابات الإكسل للمكافأة الجامعية. إذًا أوراق وقلم وبرد وبحر من بعيد، تبدو تلك اللحظة الآن وكأنها مقتبسة من مشهد درامي من مسلسل خليجي سخيف مصحوب بالسؤال الذي سيحدد المصير. بعد ربع ساعة تقريبًا رسمت خطين متقاطعين، وكتبت التخصص الحالي، والتخصص الجديد، ووضع السلبيات والإيجابيات، ومع كل إضافة إلى الورقة أتغصب المشروب الذي أصبح باردًا. كتبت خطوطًا عامة مثل مدينة العمل، الراتب، المعدل، وفكرت في عوامل أخرى تليق بورشة عمل لبودكاست طلاب الجامعات أو لحديثي التخرج يُعلن عنها في لينكدإن، مع صورة رسمية مضمومة الأيدي ويسبق اسمي "الأستاذ"... المهم، انتهى المشروب، التفت إلى البحر في محاولة للبحث عن الإلهام، لا شيء. أعدت النظر إلى الورقة الممتلئة بتفاصيل عشوائية، وتوقعات عامة عن مآلات الأشياء، وفي اللحظة التي كتبت فيها تصنيف "رأي الناس" تداعت تمامًا الفكرة، وتبدّى بشكل مزعج سخف الموقف، رفعت الهاتف وأرسلت لنارين: "جهّز عدني محفور، مسافة الطريق وأنا عندك"، قضيت تلك الليلة في قهوة الصحراء، وورقة تحديد المصير طويتها في جيبي، وما زالت على حالها إلى اليوم من ضمن الأوراق المكدسة في المستودع، وخانة "رأي الناس" للتخصصين تجمعهما شتيمة لا يليق ذكرها هنا.
اليوم أكمل قرابة عشر سنوات من تلك الليلة، وعندما أعيد النظر إليها باستحياء للمشهد الدرامي، تظهر لي البديهية التي تنص على أن الحياة لا تسير بالمسطرة والقلم، وقطعًا ليست بأزرار تحكم. صحيح أنني قررت تغيير التخصص، لكنه لم يكن من جلسة التأمل، بل بجلسة الطرب ودوزنة نارين، والقليل منه سار على المتوقع، وفي كل الأحوال يقتنع المرء بما منحته له الحياة في جميع انعطافاتها، مسببات الدهشة والقلق، في المسرّات الغامرة، والإحباطات الثقيلة، وعشرات القصص منها. هل بلغ الهدف من التدوينة؟ لا أعرف، ولكن المفاجأة أسمع صوت يأتي من بعيد جدًا يقول: "واو، شكرًا لك، استخدمت زر التغيير بنجاح!".
الوليد
Alwaleed@hey.com