أحضان غير مرئية

كنت ومازلت إلى حدٍ ما أرتاب من الأشخاص الذين يفرضون أنفسهم علينا، وكأنهم قريبين وعلى تواصل دائم.


يتصل علي رقم غريب، يعرّف بنفسه بعد السؤال عن الحال والأحوال، شخص بعيد من العائلة، نعيد طرح الأسئلة بشكل شبه صادق، ويختم بـ: "وليد ضروري ما نقطع بعض، ترى حنّا من دم ولحم واحد". لم أستطع منع نفسي من التساؤل داخليًا: "وش فيك يا فيسيريس تارغريان!".


 تثير اهتمامي العبارات التي تحل محل الحميمية المتعلقة باللمس بين الأصدقاء وغيرهم، أعرف بعض الأصدقاء الذين لا يتمنعون بأخذك في الأحضان بعد فترة انقطاع طويلة، ولكن في كل مرة أشعر بأن هناك جدار جليدي يحول بيني وبينهم، لأننا لو أخذ بعضنا البعض بالأحضان، من يدري مالذي يمكن حدوثه مستقبلًا! أو من باب أولى أن نصرخ فرحًا عند رؤيتهم يقتربون من طاولة المقهى، بغض النظر عن أنني من يصل متأخرًا في كل مرة!


في العرض الأخير لريكي جيرفيز يطرح فكرة أننا نتعانق ولكن بطريقة مختلفة، يحكي أنه في جنازة أبيه، وقف بجانب عمه المُسن، والكل صامت في حضرة المشهد المُهيب، بعد انتهاء مراسم الدفن، ألقى عليه التحية، والمقابر مرصوفة أمامهم، وسأله: "هل من الضروري عودتك إلى المنزل؟"، ويذكر موقف آخر عن صديقه الذي شهد حرق جثة الجدة، ولسبب ما تطاير الرماد في الأرجاء باتجاههم، يسأله جيرفيز هل شعرت بمرارة على لسانك؟ لأنه لو حدث هذا الأمر فقد تذوقت طعم .... في كِلا الموقفين، حلّ الضحك محل العناق الحقيقي، وأتصوّر أن هناك في محادثاتنا مع الأصدقاء أو غيرهم تحلّ محل العناق والتربيت ومشاركة الدموع، ومهما كنا قريبين منهم، سنشعر بوخزة في الظهر عند حدوثه أو على الأقل بالنسبة لي.


أحاول في الأيام السابقة، بدون عناء حقيقي، البحث عن العبارات والمواقف التي تعكس هذه الحميمية المتوارية، وبدا لي أن حجر الأساس في التعبير عن العاطفة هو السؤال عن الحال. إعادة تكرار السؤال عشرات المرات عند بداية اللقاء ما هي إلا تربيتات على الكتف، نُظهر للآخر أننا مشرعين يدينا على اتساعها، وأننا فعلًا مهتمين بسماع أخبار الدنيا، ولو حدث لنا ذلك، وتكرر علينا السؤال، سنبدأ نشعر بالحرج، ونحاول أن ننهي هذا العناق الطويل/المُريب بعبارة تُقال بشكل سريع وعلى استحياء: "لك فقدة والله!".


يجدر بالذكر أن ليس كل عناق ينطوي على نوايا حسنة. لنفترض أن الشخص التالي يُدعى أبوسعيد، أبوسعيد رجل في منتصف الأربعينيات، بشرة سمراء كانت يمكن لها أن تلمع لولا عوامل التعرية، وجسد متكوّر يحرض أسوأ الخيالات الممكنة، بعوارض تشعر من المرة الأولى أنها موضوعة على مانيكان! توقف أبوسعيد عن عدّ سنوات عمله كحارس أمن للجامعة، ونحن لا نعرف على وجه الدقة سنين الخبرة، لأنه يلحق إجابته التي تختلف من وقت إلى آخر بـ"تقريبًا". تقاطعت طُرقنا ثلاث مرّات فقط، بينما يعرفه الأصدقاء جيدًا، كان يُحب مساعدة الشباب في تجاوز الأخطاء النظامية، إلغاء مخالفة الوقوف الخاطئ في الجامعة، غض الطرف عن التجاوزات التي تحدث في السكن، وإصدار التصريحات بالكلمة الحلوة، في المقابل كل يوم قرابة الفجر يرسل لهم مقاطع تثقيفية عن الجنس، ما عدا أيام الجمعة، قبل الصلاة، يُرسل تذكير بقراءة سورة الكهف وأذكار تتضاعف منفعتها في ذلك اليوم. لا ننسى أن الإنسان يُخطئ أحيانًا، أرسل في أحد المرات مقطع عملية جراحية لتحوّل جنسي، وكان التفسير الوحيد أنه من الضروري معرفة مخاطر هذا النوع من العمليات، أي نبلٍ بلغه ذلك الرجل!


رجال الأمن في الجامعة يقومون بجولات تفتيشية مُفاجئة، يُنشر الخبر سريعًا بين سكان العمائر، والرسالة قصيرة وواضحة، الداخل يبقى في الداخل، والخارج يتجول في الخارج، على الأقل للنصف ساعة القادمة، ولكن هناك طلاب لا يدركون الأمر إلا بعد فوات الأوان، غالبًا ما يكونوا أول الضحايا. يُطرق الباب، ويصرخ الطالب كريم النفس: "ارحب، حيّاك الله"، يفتح الباب، ويجده رجل الأمن، والأرقيلة المرتكزة في منتصف تنظر إليهم، يأخذ المخالفة، تُصادر أحد المسرات الصغيرة. آخر يطيل التفكّر تحت المروش، المراوش وبيوت الراحة/التيك توك منفصلة عن الغرف، يخرج المسكين، ويرى الرجل يقف عند باب الغرفة، وفي المسافة القصيرة يدرك الأول أنه وقع في الفخ، لأنه لا مهرب ولا سماء تُظله وهو مبلل ونصف عاري، ويبتسم الآخر على حظه في اختيار التوقيت، ولكن هذه القصص الحزينة ومثيلاتها لا تحدث لو كنت من ضمن دائرة أبوسعيد، الدائرة التي ضمّت الروميت!


يُرفع بلاغ على أن غرفتنا عليها تجاوزات صريحة، وهي طلاء الغرفة وإعادة ترتيبها، وحتى أكون أكثر صدقًا كانت هناك تجاوزات مخبأة جيدًا في دولاب الملابس، جيّدة إلى الحد الذي ما إن تفتح الدرج العلوي سيستقبلك "اللّي" كصديق قديم متجدد، يتعتّق مع الأيام، ولا يستبدل بسهولة. يرفع الصديق الهاتف، وما هي إلا دقائق وأبوسعيد يقف في منتصف الغرفة، نسيت أن أذكر أنه يمتاز بالسرعة، ولولا المُبالغة لقلت شيء ما يشبه غمضة العين وارتدادها، أو بداية تنهيدة وانفراجتها، مدفوعًا بحُب مساعدة الشباب، وخيالات لا نعرف عنها شيئًا. يقف في منتصف الغرفة، وأسمع الآن كلماته التي كررها، وبلا مبالغة هذه المرّة، عشرات المرات، بتضخيم الحاء: "وكيف الحال؟"، يتبعها بمدح مقتضب عن ترتيب الغرفة، وتذكير بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه بعد التخرج، أُلغي البلاغ وخرج أبوسعيد. بعد هذه السنين الطويلة أدركت شيئين من هذا الموقف: الأول أنني أنقذت الروميت، والثاني أن أبوسعيد كان يبحث عن العناق، يسير ملوحًا بيديه ورجليه، يُستغل من الجميع، وفي كل مرة يقترب، يخرج خالي الوفاض!


يسألني أبوتركي عن لين، وأبوتركي يُصر على أهمية إزالة الشعر بالليزر لأن الأشياء ستختلف رائحتها، ويقل الوزن في بعض الأحيان، يسألني وأجيب كما أشعر بلا مواربة ولا تنميق للكلام، ويصرح فجأة: "جتني قشعريرة وأنا ما عندي شعر!". تختلف أشكال العناق، ولا تظهر دائمًا كسؤالٍ عن الحال. يسأل أحدهم عن اللَبس الذي يحدث بين أبومحمد وأبولين، وتشابهه مع اللَبس القديم الذي لا أكترث له بين وليد والوليد، وأخبرته أنها فكرة جيدة كمقدمة لتدوينة، وحرّص ضاحكًا على أهمية ذكر الحقوق. أتمنى أن يكون راضيًا عن نفسه الآن، كان عناقه مصحوب بيدٍ لعوبة، تمامًا مثل إحضار الموقف هنا! هناك أيضًا حضن اليدين في افتتاحيات العتاب أو المصارحة: "بأكون معك صادق/صديقك من صدقك"، التي يبدأ بعدها الجلد العلني والمباشر، ولكن كما في أول المطاف إلى آخره، نظل متعانقين!


لا ننسى أيضًا العناقات الإلكترونية، اعتاد عليها الكثير، لاعتبارات متعددة، وبعضهم تجاوزها إلى مناطق أخرى ليس هذا مكان ذكرها. كان ذلك القريب البعيد الذي يحرّص على رابطة الدم واللحم، يحاول منح عناقٍ ما، عناق افتراضي، ولكن لا يُجيد الجميع منح الأحضان!

الوليد

Alwaleed@hey.com

Join