تاريخ الإقتصاد الغريب
لا شيء يطفو على السطح بشكل مفاجئ
جميع العلوم التي بين أيدينا تطورت نتيجة عقود طويلة من الدراسة و الأبحاث و حتى علم الإقتصاد لم يكن علماً مستقلاً بحد ذاته كما نعرفه اليوم . فكيف بدأت رحلة تكوين علم الإقتصاد ؟
بدأ الإنسان حياته في الغابات , يشرب الماء ليرتوي و يأكل الفاكهة حتى يشعر بالشبع , واجه مصيره من خلال غريزة البقاء إلا ان التجربه , جعلته يتعرف على المخاطر المحيطة به و يتجنبها , فبدأ يفكر في تخزين الحبوب و حفظ الماء في أماكن مغلقة حتى يعود اليها لاحقاً . أي انه نجى دون الحاجة لوجود نظام اقتصادي.
لكن السؤال الذي كان يراودني دائما , لماذا الفكر الإقتصادي لم يذكر سوى في الحضارات الإغريقية و الرومانية ؟! لماذا دائما ينسب و يمجد كل شيء غربي !!
هل سحابة الجهل كانت تهيمن على معظم الكرة الأرضية و انقشعت مع بزوغ الحضارة الغربية و تحديداً الإغريقية و الرومانية ؟
للأسف فلا أدري هل هي متلازمة الإنسان الأبيض حيث ينسب الإنجاز دائما الى الإنسان الغربي راسماً في اذهاننا انه الوحيد المخول بالتفكير , ام انه خطأ الحضارات القديمة بأنها لم تدون علومها بشكل جيد . علماً ان الحضارات القديمة كالفينيقية و المصرية و البابلية على سبيل المثال لا الحصر , دونت على كهوفها وآثارها لغة خاصة تعبر عن علومها و افكارها من خلال الرسومات و النقوش التي اكتشفت مؤخراً .
و كُتب التاريخ تذكر بأن الفينيقيين كانوا أسياد البحار و اكتشفوا طريق الرجاء الصالح قبل فاسكو دا غاما - المستكشف البرتغالي - بألفي عام ! . و اشتهروا بصناعة بالبرونز و العاج و الزجاج . فهل يعقل ان حضارات كالفينيقية و المصرية لم يكن لديها نظام اقتصادي ناجح ؟هذا يحتاج الى دراسة مستقلة حول هذا الموضوع .
لكن السؤال الجوهري هل كان الإقتصاد علماً مستقلاً كما هو اليوم ؟
الإجابة لا . فعلم الإقتصاد ينحدر من علم الإجتماع الذي يهتم بتنظيم شؤون الناس فيما بينهم بحدود المدينة أو الدولة و حتى الإمبراطورية , و علم الإجتماع يستمد تعاليمه من الأخلاق الذي يحدد أصول المعاملة و العلاقة بين الناس و يصف كل الأمور الحميدة و ينبذ التصرفات المشينة . و الأخلاق تكتسب من الدين و الفلسفة . فأساس كل شيء يأتي من الدين الذي يوحي به الله لأنبياءه و رسله ليعلِّمَ الناس و يهديهم الى الطريق الصحيح .
إذن فعلم الإقتصاد مرجعيته دينية بحته و لذلك عندما نقرأ في الحديث الشريف المروي على لسان أنس ابن مالك رضي الله عنه { إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق }.
ومن التعاليم الدينية يمكننا أن نستمد الأخلاق في تعاملنا مع بعضنا البعض و نضع رؤوس أقلام بالخطوط العريضة لتنظيم امورنا حتى لو تطور الزمان و المكان فتحريم الربا على سبيل المثال امرٌ صريح و واضح على حرمته مهما اختلفت الأشكال و المسميات سواءً سمي بالفوائد أو الارباح ثابتة .. الخ
مصر القديمة
تشير جميع الأدلَّة على ان مصر كانت تمتلك نظاماً إقتصاديا قوياً و على عكس مايذكر في كتب التاريخ أن افلاطون اول من تحدث في الإقتصاد . و ذلك نقرأه في سورة يوسف عندما قام السيارة بالعثور على نبي الله يوسف في البئر في الآية 20 من سورة يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.
و عندما نقرأ في الآية الوصف دراهم أي ان في ذلك الزمان كانت العُملة مصكوكة و يذكر المفسرين أن الدرهم هو العملة المصنوعة من الفضة , أما الدينار فكان من الذهب . و هذا يعني أن الدولة المصرية كانت تستعمل نظاماً نقدياً متطوراً مبني على المعادن النفيسة من الذهب و الفضة , و هذه الحقيقة تطعن في صحة أكثر من 70% من الكتب الإقتصادية التي تشير إلى ان اول من صك العملة الملك الياتيس (Alyattes of Lydia ) في منطقة ليديا و كانت من معدن الكروم (خليط من الذهب و الفضة)
كان النظام الإقتصادي يخضع لسلطة الفرعون (الملك) الذي يحكم البلاد و كان يبسط سيطرته على كافة السلطات المختلفة الدينية و الدنيوية , و مصر في ذلك الزمان كانت مقسمة الى اقطاعيات صغيرة منفصلة تخضع تحت سلطة الأمير , و تتدخل الدولة في كل شؤون الدولة و الأفراد في كافة الأنشطة , فالفرعون يحتكر كل شيء بشكل مطلق.
و بني الإقتصاد على الأنشطة الزراعية و ما تنتجه من محاصيل و يمكن للفلاحين ان يحصدوا الأراضي على مقابل اعطاء نسبة من المحصول الى الدولة , و تميزت مصر القديمة بالذهب و الفضة تحديداً و كانت المحاجر و مناجم النحاس حكراً على الفرعون حيث تعتبر سلطته كالإله.
اما على صعيد التجارة فكانت تنقسم الى داخلية و خارجية تمارس بشكل دوري في خلال يوم محدد في الأسبوع من خلال أسواق المدينة يتبادل الأفراد فيما بينهم المنتجات الزراعية و الحيوانية و الصناعات اليدوية الخفيفة و تعتمد الثروة الزراعية ورواجها على مستوى مياه الفيضان حيث بدأ النظام في أول صورته بإستخدام المقايضة .
و يتم تحصيل الأرباح الخاصة بالدولة عن طريق فرض الضرائب على المحاصيل الزراعية و السفن التجارية .و كان النظام الأخلاقي الذي اشرنا اليه ان معظم التعاليم الإقتصادية تعود مرجعيتها اليه يفرض عقوبات صارمة على التلاعب و الغش و كان يجدع الأنف كل من يتعرض لقوافل او سفن الدولة .
و كانت عمليات الإبتزاز و الرشاوي ممنوعة في تحصيل الضرائب و إنزال أشد العقاب على مفتش الضرائب ان كان مرتشياً .
كانت هذه مقدمة تاريخية بسيطة و موجزة عن تاريخ الإقتصاد , و الهدف من سرد هذا الموضوع ان ننوه الى ان الحضارات القديمة امتلكت انظمة اقتصادية لإدارة الدولة و لكن اجحاف التاريخ ينكرها و ينسب فضلها الى الآخرين .