الحاجة للبكاء
أحمد باصرة
أخصائي نفسي
مراجعة
فريق إمعان
لحظات فقدان الشَّجاعة هي اساس الحياة الشُجاعة إن لم نسمح لأنفسنا بالإنحناء احيانا في عدة مواقف فسنتعرض يومًا ما لخطر الانهيار والانكسار
من حكمة الأطفال وفطرتهم أنهم لا يشعرون بالخجل أو العار على الإطلاق من جراء التعبير عن مشاعرهم. فالطفل لا يتردد بالانفجار باكيًا إذا لزِم الأمر، ربما لأن لديهم إحساسًا أكثر دقة وأقل كبرياءً بمكانهم في العالم فهم يعرفون أنهم كائنات صغيرة جدًا في عالمٍ عدائي لا يمكن التنبؤ به، وأنهم لا يستطيعون السيطرة على الكثير مما يحدث حولهم، فقدرتهم على الفهم محدودة أمام الكم الهائل من الاسى والحزن في العالم. فـ لماذا قد يكون الانهيار أمراً غريباً عند البعض؟ ربما لبضع لحظات على شكل استياء متوقع في وجه مآسي الحياة.
لسوء الحظ مع تقدمنا في العمر تتلاشى هذه الحكمة بشكل تدريجي. فنتعلم كيف نتجنب حاجتنا للتعبير عن مشاعرنا مهما كلفنا الأمر، رغبة منا في ألا نبدو ككائنات بغيضة (وبشكل فلسفي أكثر) ألا نبدو كالطفل الباكي.
وهذا يدفعنا لأن نربط النضج بالحصانة والكفاءة امام أي أمر قد يعرض هذه الهشاشة الداخلية للانكشاف والظهور أمام الأخرين. ظناً منا أن عدم ظهورها هو الدليل الوحيد على صلابة المرء وقدرته العالية على التحكم.
لكن هذا بطبيعة الحال انما هو اشارة على ذروة الشجاعة المزيفة وخطورتها على النفس. فالتعايش مع مصاعب الحياة وعراقيل التكيف يتطلب الاقرار بهذه الفكرة أنه لم يعد بوسع المرء أن يتأقلم. وهذا يعد جزءًا لا يتجزأ من التحمل الحقيقي وهو ما يميز جوهرنا، فالانسان عليه أن يسعى لأن يتقمص ماهية الطفل الباكي. والذين يتذكرون عن كثب هشاشتهم وقابليتهم للاذى والحزن هم الذين يعلمون أن لحظات فقدان الشَّجاعة هي اساس الحياة الشُجاعة.
أحيانا عندما لا نسمح لأنفسنا بالإنحناء نتعرض لخطر الانهيار والانكسار، تماماً كالغصن ينحني مع الرياح حتى لا ينكسر عند العاصفة.
أن نتحلى بالنضج الكافي يعني أن نتنازل ونخضع عندما تنتابنا رغبة شديدة في البكاء. كما عهدنا في صغرنا عندما كنا نقوم ببعض الطقوس الخاصة مثل الخلود الى سرير دافئ في غرفة هادئة وإخفاء ما يمكننا من اجسادنا الصغيرة تحت الغطاء كي نفسح المجال أمام مشاعرنا المقيدة في التعبير عن فضاعة ما يحدث. قد ننسى بسهولة مقدار العناء الذي نتكبده لتفادي الاستياء وتجنب المشاعر المزعجة، ولكن عندما نعي ذلك جيداً نسمح لهذه المشاعر بالعبور، والأفكار السوداوية تأخذ مجراها دون مقاومة..لأننا لا نتميز بالكمال وكل شخص منا يمتلك نقص وألم يؤرقه.
قد يبدو احيانا إن ما يحدث حولنا كثير جداً يفوق قدرتنا على التحمل، ولكن ما يخبرنا به هو الأتي؛ أننا بحاجة لان نلمس جذور الألم ونعالجه ونشعر بالراحة والأمان في تقبل مشاعرنا وكأننا نسكن إليها؛ علينا أن نعطي إحساسنا الكارثي بالخوف حقه في الاهتمام والانتباه مثل ما يفعل المعالج النفسي في الجلسات العلاجية، الوصول الى لب المشكلة.
ثم إذا قمنا بعملنا هذا بشكل صحيح فإنه في النهاية وبكل بساطة ستدخل فكرة ما في أذهاننا وتثير تساؤل مبدئي للجانب الآخر من القصة. سنتذكر ما نمتلكه من نِعم وسنتمكن من استشعار الامتنان لكل ما هو روتيني وبسيط في حياتنا مثل الاسترخاء في حمامٍ ساخن، امتلاك شخص حنون يمسح على رأسك بلطف، وأن يحيطك اصدقاء جيدون وأوفياء في هذا العالم او أن يكون على رف مكتبتك كتاب ملهم لم تنتهي من قرائته بعد، وعندها سنعلم كيف نواسي أنفسنا وأن الجزء السيء في العاصفة قد شارف على الانتهاء.
مجتمعاتنا تظلمنا بشكل متكرر في ترويج إما البهجة المفرطة أو الذعر الشديد. بينما ما تتطلبه الحياة في الواقع هو مزيج حكيم من الرزانة والصبر وروح الدعابة والكثير من النحيب وعلى الرغم مما تفرضه علينا قوى النضج فإن احتياجات الطفولة تُعزف باستمرار في أعماق ذواتنا. نحن لسنا بعيدين كل البعد عن الرغبة في الاطمئنان فهو ما نشتاق اليه باستمرار، مثلما كان يفعل والدينا معنا في الصغر عندما كانوا يشعروننا بالحماية الجسدية الدافئة بقبلة جبين أو بنظرة حانية وربما ترنمت على مسامعنا عبارات بسيطة من التأكيد والتشجيع كأن يقول بهدوء شديد "بالطبع".
فهم وقبول الرغبات الطفولية ينتمي في الواقع إلى جوهر الرشد الحقيقي فلا يوجد نضج بلا تفاوض كافٍ مع الطفل الداخلي، ولا يوجد أناسٌ كبار ناضجون لا يتوقون للشعور بالراحة والاستلطاف كالطفل الصغير. لكن عند البعض قد تكون هذه الحاجة الى الام والقرب منها، مخاطرة تعرضه للسخرية وقد تخدش برأيه الصورة المثالية للشخص القوي والمسؤول.
علينا أن نعلن لحظاتنا الإنسانية الفريدة يجب أن يصبح لدينا في منازلنا جميعًا لوحات مثل التي في الفنادق، نعلقها على أبوابنا ونعلن للمارة أننا نقضي بضع دقائق في الداخل نفعل شيئًا أساسيًا لإنسانيتنا ومتصلًا بقدرتنا على أن نحيا كالكبار حتى لو اضطرنا ذلك لان نبكي احيانا كالطفلٍ الضائع.