دبلوماسية الباندا
هذه المقالة بعد إعادة تحريرها على ضوء توصيات الأصدقاء
1
شاهدت مؤخراً الجزء الأخير من سلسلة فيلم الرسوم المتحركة (Kung Fu Panda) الذي يتحدث عن باندا يتيم خفيف الظل وأحمق يبذل جهده لأن يصبح واحداً من أبطال مقاتلين فن الكونغ فو في بلدته، وفي النهاية يستطيع أن يهزم الاشرار الواحد تلو الاخر ويحمي الضعفاء حوله ويصبح الأكثر شعبية على الإطلاق. بالنسبة لي، ففي المرة الاولى التي شاهدتها فيه كنت أتعجب حول كيف لهوليود التي تعتبر أحدى قلاع الولايات المتحدة الدبلوماسية الناعمة أن تروج أعمالاً سينمائية تخدم به دولة كالصين، والتي لطالما الامريكيون أعتبروا ثقافتها وايدلوجيتها نقيض للقيم الغربية بل حتى للمبادئ الإنسانية كحق الانجاب والتعبير عن الرأي وحرية البحث عن المعرفة.
عندما أنظر مجملاً الى أيقونات سينمائية تحمل في ذاتها رمزية لبدان أو ثقافات فأننا بطريقة أو بأخرى نشاهدها تعكس انماطاً صور ايجابية كما تحب أن تقدمها تلك البلدان، فالكابوي الامريكي يمثل قيم الغرب الرجولية في أبان استكشاف العالم الجديد. ومحارب الفايكنغ الشجاع والمتجبر والذي يساوي بين المرأة والرجال حتى في القتال يحمل أرث حضارة الشعوب الاسكندنافية التي غزت أقاليم أوروبا، كما أيضاً أن النينجا والساموراي يروجان لليابان القوية ذات المبادئ الاخلاقية العالية، حتى غابات السافانا بقطعان حيوانتاها البرية ترسخ صورة نمطية عن اخر متنفسات الطبيعة الحيوانية المدهشة في جنوب افريقيا.
إن استحضار الباندا كشخصية رئيسية تمثل البطل في فيلم (Kung Fu Panda) يتضمن اعترافاً ضمنياً بشعبية هذا الحيوان الجارفه والتي يشهد لها ارتفاع اعداد المشاهدات لمجرد وجوده. فهل نجحت الصين في أن تقدم الباندا امام العالم كمنتج صيني جذاب للغاية !
2
الباندا كبقية أبناء عمومته من فصيلة الدببة يمتلك جهازاً هضمياً مهيئ لتناول اللحوم، إلا أنه يعتمد على نظام نباتي بنسبة ٩٩٪ يقتات في أغلبها على الخيزران. وهو يعد حيواناً صينياً بامتياز، لا يوجد خارجها بشكل طبيعي. ولولا لطف الله ثم وعي الحكومة الصينية لكان هذا الكائن ”الكيوت“ في طي الأمثال بصحبة الدودو والعنقاء وربما الخل الوفي. ولكن الصين لم تبرع فحسب في الحفاظ على هذا النوع بل عززت حضورها السياسي في العالم بإعادة استخدام الباندا كأيقونة دبلوماسية بإمتياز.
أقدم استخدام سياسي مسجل لحيوان الباندا يعود إلى عام ٦٨٥ من الميلاد، حينما أهدت إمبراطورة الصين -وهي المرأة الوحيدة التي حكمت الصين- زوجين من دب الباندا إلى إمبراطور اليابان تتويجاً لأول إتصال رسمي بينهما.
بعد مرور ثلاثة عشر قرناً من ذلك اليوم أعادت الصين إحياء تلك التجربة والاعتزاز بها كتقليد سياسي صيني من خلال استخدام الدببة العملاقة اللطيفة من الباندا كهدايا دبلوماسية في علاقاتها الدولية.
أستخدم هذا المصطلح من قبل المراقبين السياسيين لوصف الفترة النشطة التي قامت فيها الصين بين الفترة ١٩٥٧م و ١٩٨٣م بإهداء ٢٤ دب باندا إلى تسع دول في إشارة إلى تنشيط الصداقة بينهما. وكان أبرزها هي هدية الصين لزوجين من الباندا للولايات المتحدة على اثر الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التي كسرت عقدين من العداء السياسي والقطيعة الدبلوماسية. تلك الهدية أذهلت الشعب الأمريكي التي توافد منه أكثر من مليون شخص خلال السنة الأولى لمشاهدتها وانشغلت بها وسائل الإعلام وأحاديث الساسة بل وألهمت تلك الهدية الصناعة التسويقية والسينمائية للاستفادة من الإقبال الأمريكي عليهما.
بالتالي، يمكن القول بأن الصين نجحت في تحسين صورتها داخل المجتمع الأمريكي المؤدلج ضده منذ فترة طويلة بطريقة لافتة للغاية بفضل ذلك الحيوان المسالم.
وعلى الرغم من ارتفاع كلفة العناية بحيوانات الباندا التي تبلغ ملايين الدولارات لتهيئة الأماكن المناسبة وتوفير أطعمتها والعناية الطبية لها، إلا أن الإقبال على استضافتها من دول العالم ومغازلة الصين لأجل ذلك تزداد يوماً عن يوم.
3
في عام ١٩٨٤م قامت الصين بتقديم زوج من الباندا إلى مدينة لوس انجلوس الأمريكية خلال دورة الألعاب الأولمبية مقابل ١٠٠ الف دولار شهريا! نعم ، بدأت الصين بتأجير الباندا، شكل هذا منعطفاً جديدًا.
أستمر هذا الحال إلى عام ١٩٩١م حيث أقرت بكين سياسة جديدة، وهي الباندا مقابل القروض المالية.
بدأت الصين في تقديم الباندا للدول الأخرى التي تمنحها قرضاً طويل الأجل لا يقل عن عشر سنوات، بالإضافة إلى ايجار سنوي يبلغ مليون دولار لكل زوج من الباندا، مع تعهد بأن في حال ولادة الباندا أثناء فترة القرض فإن صغارها من الدياسم يعدون مُلك لدولة الصين. وليس كذلك فحسب، ففي حالة وفاة احداها لأي سبب كان، فأن هنالك غرامة قدرها ٥٠٠ الف دولار.
في عام ٢٠٠٨م عززت الصين السياسة السابقة واضافت لها بُعد اخر. ففي ذلك العام تعرضت الصين لزلزال عنيف أثر على العديد من مؤسسات رعاية الباندا، فقامت الصين بتوزيع حيوانات الباندا من تلك المؤسسات على الدول التي ترتبط بينها اتفاقيات تجارية مهمة أو من وقفت بجانبها في تزويدها بالموارد اللازمة لمواجهة آثار الزلزال.
بعض السياسيين من محللين وناشطين يعتقدون أن إستخدام الصين لحيوان الباندا هو بمثابة سلاح سياسي، أكثر من كونه مجرد هدية بريئة، فهو لا يتعدى أن يكون أداة ضغط لتسجيل مواقف سياسية لبكين.
مؤخراً، أعلنت فنلندا انها ستستضيف زوج من الباندا، بعد أقرت بأنها تلتزم بسياسة الصين الواحدة، وهذا مصطلح صيني ينزع أي اعتراف دولي لدعم استقلال تايوان.
العام الماضي، قامت الدنمارك بتهيئة مرفق لإستضافة حيوان الباندا كلفها ٢٤ مليونا دولار بالإضافة إلى مليون دولار أمريكي يدفع سنويا لحكومة الصين لمدة ١٥ سنة، بعد أن وقعت البلدين ٤٠ اتفاقية جديدة. هذا الأمر اضطر الدنمارك وبحسب عضوة البرلمان الدنماركي ”ايفا فلايفهولم“ بالإذعان للصين وتجاهل انتهاكها لحقوق الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بالخلاف حول التبت.
في عام ٢٠١٠م قامت الصين بإصدار بيان تطلب فيه من الرئيس الأمريكي السابق "باراك اوباما" بأن لا يقابل الديلي لاما، الزعيم الروحي للتبت. والذي تعده الصين خارج عن القانون. ولكن أوباما لم يعير ذلك من إهتمام. فقامت الصين على الفور بإستدعاء السفير الامريكي لديها للاحتجاج، كما قامت بسحب أثنين من الباندا حديثي الولادة في الولايات المتحدة وإرسالهما إلى الصين.
في نفس العام، وبعد منح معارض صيني جائزة نوبل للسلام قامت الصين على الفور بإيقاف استيراد سمك السالمون من النرويج البلد المضيف للجائزة، وتوقيع عقود استيراد سمك السالمون من اسكوتلندا بقيمة تجاوزت ٤ مليارات يورو، لاحقاً وصل زوج من الباندا إلى حديقة حيوانات أدنبره.
الصين تأخذ دبلوماسية الباندا على محمل الجد كأداة مهمة في سياستها الخارجية، فتجد جميع عقود تأجير الباندا موقع عليها من قبل الرئيس الصيني بنفسه، بعد أن تستوفي الشروط الصينية ومنها طلب رسمي من حكومة البلد المضيف.
الباندا بالنسبة للصينيين أكثر من منصب مبعوث فوق العادة.
4
دبلوماسية الباندا فريدة من نوعها في القوى الناعمة، ولكنها بالنسبة لبقية دول العالم تشكل جزء من ممارسة قديمة بقدم نشأة الدول أنفسها واتصالها بنظرائها، فالملوك تبادلوا الهدايا الثمينة والحيوانات الفريدة للدلالة على جاه ووجاهة ممالكهم ومدى حظوتهم في الدنيا. وقد سجل لنا المؤرخين عشرات الامثلة على ذلك. ولكن ما ميز الصين هي نقلها لتلك الممارسة القديمة الى مستوى مختلف من حيث تمييز من تُهدى إليه، وأضحى الباندا أقرب الى مكافأة تصرفها الصين للدول التي تتبنى مصلحتها الاقتصادية والسياسية.
وفي الختام، أتسائل، ماذا يا ترى لو قررت الولايات المتحدة أو استراليا وأسبانيا الاحتفاظ بالباندا ورفض إعادته، هل ستطرق الصين أبواب المحاكم الدولية؟ أم ستكتفي بقطع العلاقات الدبلوماسية بينها وبين تلك الدولة! لا أعلم الاجابة على هذه الفرضية، ولكن ما يمكن قوله هو بأنه ليس هنالك دولة في وقتنا الحاضر غامرت بالإضرار بالصينيين بشكل مباشر. و أن أكثر الدول عدوانية للصين هي من تقف موقف على الحياد فحسب.