التجربة السعودية

الدبلوماسية الثقافية من خلال الفنون (٣)


التجربة السعودية

لطالما تحدث السفير د. سعود كاتب الوكيل السابق لوزارة الخارجية لشؤون الدبلوماسية العامة بأن إطلاق رؤية ٢٠٣٠م تمثل عيد ميلاد الدبلوماسية العامة السعودية، وبأنها رد الإعتبار للقوى الناعمة السعودية بعد غياب أو تقزييم لمدة طويلة جداً. ويجادل في ذلك بأن جوانب كثيرة نمتكلها كأن بالإمكان استخدامها دبلوماسياً قد أهُملت وقُزمت طوال سنين، كالآثار التاريخية التي تم اغلاقها أو حتى تدمير بعضها، كما كان الحال مع الفنون والموسيقى والمسرح، مؤكداً بأن رؤية ٢٠٣٠م قد حررت مصادر القوة الناعمة السعودية من القيود التي كبلتها لمدة طويلة.


ولكن أعتقد بأننا سواءً بوعي أو نابعاً من أصالة الشخصية السعودية فقد مارسنا الدبلوماسية العامة منذ اللحظة الأولى، لدينا عشرات إذ لم يكن مئات من أدوات القوى الناعمة التي أن نخاطب بها العالم من حولنا، فمسابقة تحفيظ القران التي ترعاها السفارة السعودية في جيبوتي هي قوة ناعمة، الطالب الغاني والجزائري والاوزبكستاني الذي يتلقى تعليمه الجامعي في جامعة طيبة بالمدينة المنورة هو تحت تأثير القوة الناعمة تلك، مهندس الطاقة الامريكي الذي مضى ٣٠ عاماً يعمل لدى شركة ارامكو هو ناقل للقوة الناعمة أيضاً، الشيخ صالح آل طالب حينما تقدم بصلاة عيد الفطر المبارك بتيرانا في ألبانيا وخلفه الاف من المصلين أيضاً مارس القوة الناعمة. فريق الكرة الأول الذي سحق خصمه في ربع نهائي العالم وكسب اعجاب الملايين، قد مارسوا القوة الناعمة، تبني المملكة لمشروع تقني متطور للغاية في الولايات المتحدة هي قوة ناعمة. منح "صوفيا" روبوت آلي ذكي للغاية الجنسية السعودية، قوة ناعمة.

ولكن إذا ماسمحتوا لي، دعوني أحدثكم عن تجارب مدروسة قامت بها المملكة العربية السعودية لتعزيز مكانتها في المجتمع الدولي بشكل أو بآخر نحو نهج ممارسة الدبلوماسية الثقافية، تجارب قابلة للقياس والتطوير وإطلاقها بصورة أكثر تقنيناً وأكثر فعالية بالطبع.

معرض المملكة بين الأمس واليوم (١٩٥٨-١٩٩١م) 

من البدايات المبكرة للدبلوماسية العامة هي المبادرة التي تبناها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - عندما كان أميراً للرياض خلال عقدَي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي؛ حيث جال في العالمين العربي والدولي حاملا تاريخ المملكة ومنجزاتها في عواصم تلك الدول، شارحا لشعوب وقيادات تلك الدول حضارة المملكة في الماضي والحاضر، وفي معرض متنقل أطلق عليه "معرض المملكة بين الأمس واليوم"، وكان المعرض صورة ناطقة عن التاريخ السعودي الذي عُرف بالصحراء، وكيف تطورت المملكة وقامت على أرضها المشاريع الإنمائية والصناعات الثقيلة لتأمين حاجات الوطن السعودي، وكيف كانت أرض الجزيرة رمالا وانتقلت إلى مشاريع عملاقة في سنوات قليلة تخدم متطلبات الشعب السعودي، ثم أصبحت المملكة دولة مصدّرة للعالم الخارجي بمنجزاتها الكبيرة لخدمة شعوب الدول الأخرى. شمل المعرض اكثر من عشرة أجنحة متنوعة في الفن والصناعة والثقافة والتراث والكثير غيرها.

في عام ١٩٨٥م كانت انطلاقة معرض الرياض بين الأمس واليوم في محطته الأولى في جمهورية ألمانيا الاتحادية وفي مدنها الـ3 شتوتغارت وكولون وهامبورغ، وبعد نجاح التجربة أنتقل إلى لندن وباريس والقاهرة والجزائر وتونس والمغرب وكندا والولايات المتحدة الأمريكية ليحط رحاله أخيراً في أسبانيا. 

كان النجاح لهذا المعرض حافلاً للغاية، على الرغم من البداية كانت بدعوة من إذاعة صوت ألمانيا في كولون عام ١٩٨٥م حينما طلبت مجموعة من الصور لمدينة الرياض لعرضها في مقر الإذاعة بألمانيا لتعريف الزائرين للإذاعة بالنهضة الحضارية التي شهدتها الرياض، وذلك في صالة تُقدر مساحتها بـ ١٠٠ متر مربع، وحينما عُرضت الفكرة على الملك سلمان بن عبدالعزيز حينما كان أميراً على الرياض أيدها بشكل كامل وشكل لجنة مختصة لتحويل تلك المبادرة البسيطة إلى برنامج متكامل ضخم أدى إلى كل ذلك النجاح في الثامنينات والتسعينات الميلادية للدبلوماسية العامة السعودية.

الامر الاخر الذي وجدته مثيراً للأهتمام هو أن هذا المعرض كان سر نجاح عودة العلاقات السعودية - المصرية والتي قادت إلى إعادة العلاقات بين مصر والعالم العربي بأجمعه بعد القطيعة جراء توقيع الرئيس المصري محمد أنور السادات معاهدة كامب ديفيد. 

فبحسب مقال عضو مجلس الشورى الاستاذ عساف أبو أثنين الذي نشر في صحيفة الشرق الأوسط، فأن وبعد الاجماع العربي على القطيعة السياسية مع مصر منذ عام ١٩٧٩م وعلى الرغم من رحيل الرئيس السادات بعد اغتياله وتولي الرئيس حسني مبارك مقاليد الرئاسة  فأن الحال أستمر على ماهي عليه، وصولاً إلى ديسمبر من عام ١٩٨٦م حيث كان أمير الرياض انذاك خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في زيارة رسمية لفرنسا لإفتتاح معرض المملكة بين الامس واليوم، وتصادف أن الرئيس المصري كان في زيارة رسمية لفرنسا و الذي أبدى للسفير السعودي جميل الحجيلان رحمه الله رغبته في لقاء الملك سلمان، فتم اللقاء في مقر الرئيس المصري بحضور الاعلام لكلا البلدين، وتم الاتفاق على إقامة معرض المملكة بين الامس واليوم في القاهرة، ولكون العلاقة الدبلوماسية بين البلدين مقطوعة رسمياً وكانت السفارة الباكستانية هي من ترعى المصالح السعودية مما يقيد الإعداد لمشروع المعرض الضخم، وجه الملك فهد بن عبدالعزيز بتعيين القائم بأعمال السفارة السعودية انذاك الاستاذ أسعد ابو النصر سفيراً لمملكة العربية السعودية في مصر والعمل بصفة رسمية دبلوماسية صريحة. وفعلاً كان المعرض الذي أقيم في مدينة نصر في مارس من عام ١٩٨٧م هي بداية العودة الحقيقية للعلاقات الثنائية. 


مسابقة السفير التشكيلية

وزارة الخارجية السعودية تقوم بجهود عظيمة في رعاية مصالح المملكة في الخارج وتعزيزها، فهذا كان ديدن القائمين عليها منذ أن تولى جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز مقاليد رئاسة دائرة الشؤون الخارجية في ثلاثينات القرن الماضي، قد يعلم البعض معظم تلك الجهود، وتخفى على آخرين بعضها، ولكن يبقى دورها من الأهمية المصيرية التي توليها الحكومة الرشيدة الاهتمام الكبير وتسعى لتطويرها وصقلها لتقوم  بأداء بوظائفها وفق متطلبات العصر الحديث. ولكون الحديث هنا يتقصر على برامج الدبلوماسية الثقافية القابلة للقياس فسوف أتحدث عن تجربة لطالما أنجذبت لها حتى قبل إنضمامي لكادر وزارة الخارجية، وهي مسابقة "السفير" التشكيلية. فمنذ عام ٢٠٠٥م دأبت وزارة الخارجية على تنظيم عدة نسخة من ”مسابقة السفير التشكيلية“  وهي تظاهرة فنية على مستوى الفنانين السعوديين من خلال استقطاب المهارات الفنية العالية والاحترافية التي يتمتع بها الفنان التشكيلي السعودي من خلال اقامة منافسة فنية رفيعة المستوى تتضمن لجان فرز وتحكيم دولية. ومن ثم يتم فرز اللوحات الفائزة من ضمن ١٢٠ عمل فني تقتنيها الوزارة من الأعمال المشاركة وتقوم بتوزيعها إلى بعثات المملكة في الخارج وانتقاء مجموعة تضم إلى مشاريع وزارة الخارجية في إقامة المعارض الفنية المتنقلة كالذي نظمته السفارة السعودية  السفارة في قصر "مرسيل داسو" في باريس . ومن هذه المسابقة الرئيسية تنبثق عدة مسابقات فرعية وهي مسابقة السفير للتصوير الفوتوغرافي، ومسابقة السفير للخط العربي.

أن هذه المسابقة كانت من البدايات المبكرة للاحتفاء رسمياً بالفنان والفن السعودي، فعلى مدار سنوات كان الفائز بهذه الجائز أشبه مايكون بالفائز بأعلى درجة رسمية من التكريم في مجال الفن.

هذه المسابقة تحمل في طياتها تجارب عديدة تستوجب الوقوف عليها والخروج منها بنسخ أكثر حداثة وأكثر عطاءاً لنقل تجربة الفن السعودي إلى كافة أصقاع العالم، ومنها بالطبع، أن يكون الفن في سفارتنا في الخارج، هو سعودي.


أرامكو تغازل العالم ثقافياً 

كان أنشاء مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) في مدينة الظهران في عام ٢٠٠٨م حدثاً وطنياً بإمتياز، فهي الانطلاقة الرسمية لتوحيد جهود شركة أرامكو السعودية في دورها الاجتماعي منذ نشأتها في القرن الماضي. 

فهو يعد مركزًا ثقافيًا متعدد المواهب، يهدف إلى تمكين التنمية البشرية وتقديم الموهبة والاحتفاء بها، من خلال استضافة فعاليات خاصة وعروض أفلام ومعارض وورش عمل ومؤتمرات ومبادرات وبرامج وغيرها الكثير، مما يعزز لشركة أرامكو ريادة الإلهام والمعرفة في المنطقة وفق رؤية عالمية.

من أبرز جهوده في ممارسة الدبلوماسية العامة هي "مبادرة جسور" التي من خلالها تم إعداد برنامج مدهش للتواصل الفعّال بين الشعبين السعودي والأمريكي وذلك عبر خمسة برامج وهي ; المعارض الفنية السعودية، وجسور الحوار، وأيام الفيلم السعودي، والجولة الكوميدية وبرنامج الفنون السعودية، وحتى الشعر والرواية السعودية أن صح التعبير تم التعريف بها، نُظمت تلك  البرامج في (٦٤) مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، وشهدت زيارة أكثر من نصف مليون زائر.  


وزارة الثقافة

نفذت وزارة الثقافة منذ نشأتها الحديثة عدة مبادرات لدعم الفن السعودي في الخارج، منها المشاركة في بينالي "بينالسور" للفن المعاصر في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس والبندقية في أيطاليا. ومعرض "الذكاء الاصطناعي والحوار بين الثقافات" في متحف "هيرميتاج" في جمهورية روسيا الاتحادية، ومن خلال انشاء (١١) هيئة ثقافية متخصصة هي هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهيئة الفنون البصرية، وهيئة الموسيقى، وغيرها. فأنني أستطيع أن أجزم بأن هنالك الكثير والكثير من الخطط الطموحة التي توشك أن تنطلق نحو العالم لتعزيز مكانة المملكة.

وقد نرى يوماً مراكز ثقافية سعودية في مدن حيوية في العالم تجعل الثقافة السعودية والعالم أكثر قرباً مما مضى. 


مؤسسة مسك الخيرية

قد تكون مؤسسة مسك هي الوحيدة من ضمن مؤسسات القطاع الثالث التي تجرأت بأن ترمي بثقلها نحو العالم لإبراز دور ومكانة المملكة في الخارج، فكانت باكورة تلك المبادرات الطموحة طريق البخور في باريس عام ٢٠١٧م الذي شارك فيها ١١ فناناً سعودياً والتي هدفت للتعريف بالتجربة الفنية السعودية عالمياً. وبناء جسور ثقافية فنية بين المملكة و منظمات الثقافة والفنون في مختلف دول العالم. وربط الفنانين السعوديين بنظرائهم الدوليين لإتاحة فرص تبادل المعارف و الثقافات والخبرات. وأقامة في العام الذي يليه في نفس المدينة برنامج “إكسبو مسك للثقافة”  للاحتفاء بالمشهد الثقافي السعودي الزاخر بالأدب والفنون والموسيقى، في نسيج جمالي يجمع بين الأصالة والتحديث، ويُعبّر عن انتقال الحركة الإبداعية في المملكة إلى مرحلة نمو وتغير ملحوظ في مسيرتها الطويلة.

وأقامة معرض "الفن السعودي المعاصر" في واشنطن ولوس انجلوس و نيويورك التي شارك فيها (٢٧) فناناً سعودياً، والاخيرة التي شهدت "حديث مسك" الحدث الأهم في نيويورك ذلك الحين، 

كما شاركت في "مهرجان نيويورك للفنون والأفلام العربية" وعقدت الشراكات الفنية مع أبرز المتاحف الأمريكية وأبتعثت الفنانين السعوديين في برامج مثيرة للاهتمام في كاليفورنيا ونيويورك.

في الحقيقة، وخلال سنتين فقط (٢٠١٧-٢٠١٨م) حققت مؤسسة مسك الخيرية انجازات رائعة تستوجب الوقوف عليها لتقييمها والاستفادة منها في المشاريع المستقبلية للجهات الحكومية والأهلية السعودية.


ختاماً، أعتقد أنني نسير في الطريق الصحيح نحو تفعيل القوى السعودية في مختلف المجالات، ومن ضمنها الدبلوماسية العامة التي تمتلك القدرة وحذاقة الأسلوب التي تستطيع من خلاله وزارة الخارجية وشركائها من القطاعات العامة والخاصة بأن تستثمر مقومات بلادنا المباركة ومقدراتها لتعزيز مصالح الوطن ومواطنيه.

 


مصادر :

عن السياسة والفن - جون مولينو

هل يملك الفن ألا يكون سياسيًّا؟  - مي أشرف

سلسلة الفن القديم (الجزء السادس) 

الدبلوماسية العامة، القوة الناعمة السعودية في عصر ثورة المعلومات - سعود كاتب

معرض الرياض بين الأمس واليوم - بدر الخريف

Join