دبلوماسية الهدايا

ونجم الشمال

دهاليز

في خريف ٢٠١٥م وصلت إلى مدينة نيويورك لمباشرة عملي لدى القنصلية العامة. وبعد أن أستقر بي النوى، دعاني الصديق حكمت السعيد الذي يعمل مديراً لمكتب المندوب الدائم للمملكة لدى منظمة الأمم المتحدة، لمرافقته إلى داخل المنظمة الأممية. كانت أشبه ماتكون بالجولة السياحية، لم أستطع إخفاء حماسي، فمنذ أن تراءى لي البرج الزجاجي الشامخ حتى قفز الطفل بداخلي كلحظة مشاهدته معالم مدينة ملاهي أحلامه! فمثل الكثيرين، منذ أن وعيت على العالم السياسي من حولي واسم منظمة الأمم المتحدة يرد في كل حين وكل مكان. كما هو الآن، لا ترى قضية دولية إلا ولها موقفاً عندها، ولكنها بالنسبة لي في ذلك الحين كانت ذلك البعيد جداً، تشبه فرصة لقاءك بالرئيس الامريكي، نعلم كيف يبدو، وأين يسكن. ولكن لا يرد في خاطرنا أن نلتقط معه صورة تذكارية !


لا أخفيكم كم طالت دهشتي وأنا أدلج المبنى الرئيسي، متمعناً في كل التفاصيل، الممرات والجدران وحتى وجوه الناس! هذه مندوبة الولايات المتحدة الشرسة تبادل التحية مع اثنين من الصحفيين، وذاك صاحب أسوء وظيفة في العالم، بشار الجعفري، مندوب سوريا الذي عليه أن يبرر لماذا نظامه يقتل شعبه! يقطع البهو بخطوات واسعة وسريعة نحو المصعد، لم أتصور أن قامته بهذا الطول!

لا للعنف

ولكن أشد ماكانت دهشتي هي لحظة تعرفي الى كنز دبلوماسي لم أعهده من قبل، ففي حرم المقر، امتاراً قليلة قبل الدخول لبهو المنظمة استوقفني مسدس ضخم من البرونز وقد ثُنيت فوهته في عمل تجريدي رائع، نظرت الى البطاقة التعريفية للمنحوتة فإذا هي مهداة من دوقية لوكسمبورج لمنظمة الأمم المتحدة  وهي من أعمال فنان سويدي أسماها “لا للعنف” على إثر اغتيال صديقه الفنان الإنجليزي الشهير جون لينون أمام مقر سكنه في منهاتن - نيويورك.  

منذ تلك اللحظة، أينما وليت وجهي، أشاهد عشرات الأعمال المذهلة، منها المجوهرات والمنسوجات والأواني والتحف والتماثيل والقطع الأثرية والأشغال الفنية، بل حتى المجالس الفاخرة، وحين تقترب من إحداها تجد تلك البطاقة المعدنية الصغيرة المعلقة تحمل اسم دولة ما، ليتبين أنها هدية “رمزية” تمثل تقدير تلك الدولة وشعبها لمنظمة الأمم المتحدة ودورها الحيوي. 


لا أنسى هيبة ستارة الكعبة، هدية الملك فهد -رحمه الله- وقد علقت على طول الحائط لإحدى أروقة المنظمة، وعندها جرت العادة لوفد المملكة أن يعقد الاجتماعات الهامشية أثناء انعقاد الجمعية العمومية السنوية. ومشاهدة لوحة بيكاسو الشهيرة ”جورنيكا“ الواقعة خلف منصة المؤتمرات الصحفية الخاصة بالمنظمة كانت مفاجئة مذهلة، لا يغلب ذلك الشعور سوى مصادفتي مسلة كبيرة أسطوانية تحمل نقوشاً مسمارية تبين لي أنها نسخة طبق الأصل لمسلة حمورابي الشهيرة، هدية العراق.


تكررت زيارتي للمنظمة لا لشيء إلا استمتاعاً بالتعرف عن قرب للمزيد من تلك الهدايا القومية التي حولت دهاليز وصالات منظمة الأمم المتحدة إلى متحف فريد من نوعه، متحف لن تجد به قطعة واحدة سرقها لصوص الآثار وتجار الحضارات كالتي في المتروبوليتان واللوفر، متحف يحكي عن فخر الأمم بثقافتها، وتاريخها، وسياساتها، وثرواتها.


ما شاهدته في تلك  الزيارات، أشعل شرارة الفضول بداخلي، لمعرفة المزيد حول ما تهديه الدول لبعضها البعض؛ من سيارة الفضة  التي قدمها ملك إنجلترا الملك جورج السادس، إلى بنادق الكلانشيكوف المطلية بالذهب من الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بل حتى الكلاب والقطط والسلاحف الضخمة.

كرات التنس وساعة الرشيد

تُعد دبلوماسية الهدايا مجملًا، من صميم البرتوكولات الدولية بين القادة والرؤساء والملوك، لا يمكن الإقلال منها أو تسطحيها، فهي تحمل رمزيات كثيرة قد تصل في بعضها إلى الحرب وهي في ظاهرها هدية!

ففي حفل تنصيب هنري الخامس ملكاً على العرش الإنجليزي وصلته هدية من ولي عهد فرنسا، عبارة عن صندوق مليئ بكرات التنس! فُسرت بأنها ازدراء الفرنسيين للملك الجديد وتذكيره بماضيه المشهور بالكسل والتسكع وحياة الدعة والبعد عن الساحة السياسية، فما كان من هنري إلا أن أبلغ السفير الفرنسي بأن الهدية مقبولة وأنه يراها قنابل لمدافعه الجديدة ويعلم أين سيوجهها. هذا الأمر الذي قاد إلى أشهر معركة بين الإنجليز والفرنسيين، معركة ”أجينكور"، تلك المعركة المذهلة التي خلدها شكسبير في أحد أعماله، ونتج عنها زواج الملك هنري الخامس بابنة ملك فرنسا وإنجابه منها هنري السادس الذي جمع العرشان الإنجليزي والفرنسي.

هذا الأمر من الاهتمام بالهدايا قديم كما أسلفت، ففي كتاب ”نزهة الظرفاء وتحفة الخلفاء“ ورد في فصل (واجبات الملك نحو من أهدى إليه) الطرق المتنوعة للرد على هدية الحاكم تبعا لقيمتها، وأن هنالك موظفاً خاصا في الديوان الملكي للاهتمام  بالهدايا والرد عليها، بعد إعلام الملك بها مهما كبرت أو صغرت قيمة الهدية التي وصلته. وقد ألف القاضي ابن الزبير في القرن الخامس الهجري كتاب“الذخائر والتحف“ الذي يعد من أهم وأشمل الكتب المتخصصة في اخبار الهدايا والتحف بين الملوك والرؤساء وغرائب المقتنيات.

أسهمت تلك الدبلوماسية في تبادل الهدايا بين القادة إلى تشجيع حسن الجوار ودعم السلام وتعميق التحالفات الثنائية، وهي بالطبع تعكس مدى قوة وفخر الدول بين بعضها البعض.

وفي التاريخ الوسيط، أشتهر هارون الرشيد بإهداء العجائب وخاصة هداياه لملك الفرنجة ”شارلمان العظيم” الذي يعد إلى اليوم أعظم ملوك أوروبا قاطبة، يقول المؤرخين بأن الرشيد أهدى إليه مما أهدى؛ ساعة ضخمة بارتفاع أربعة أمتار، تتحرك بطاقة مائية، وكان فيها ١٢ باباً ، وتقوم على رأس كل ساعة بإصدار ضربات بعدد ما يشير إليه الوقت، ويخرج من كل باب على رأس الساعة تماثيل على شكل فرسان تساوي في عددها الوقت المحدد، يقومون بدورة كاملة ثم يدخلون من الباب الآخر. تلك الهدية الأعجوبة أثارت دهشة الملك والحاضرين، ولكن قساوسة الملك أعلنوا بأن الساعة مسكونة بالشياطين وانهالوا عليها ضرباً وحطموها.

زرافة عابرة للقارات

منذ قرون والحيوانات تُهدى من: فيلة وذوات القرن الواحد وزرافات وطيور جارحة وبلال فريدة بل حتى التماسيح والسحالي، قد أهدى الإمبراطور الروماني فريدريك الثاني ثلاثة فهود لهنري الثالث ملك إنجلترا كنوع من الهدايا الدبلوماسية لدعم الوحدة والتحالف بينهم، وقد حصل الملك هنري أيضًا على فيل أفريقي من لويس التاسع ملك فرنسا ودب قطبي من هاكون الرابع ملك النرويج.

وفي وقتنا المعاصر، أشتهرت الصين بهدايا الباندا، كما اعتادت حكومة منغوليا على إهداء خيول مميزة لضيوفها الرسميين. وكذلك أهدت حكومة سيشيل أثنين من سلاحف ”الدابرا“ العملاقة والمعرضة للانقراض لحكومة شنغهاي خلال استضافتها معرض اكسبو، الذي يوافق الذكرى  الستين لتأسيس الجمهورية الصينية.

وأشتهر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين“ بهداياه المميزة للرؤساء والملوك، ففي عام ٢٠١٢م قدم لرئيس فنزويلا ”هوغو تشافيز ” جرو يبلغ ثلاثة أشهر من فصيلة الترير الأسود الروسي. وفي العام الذي يليه حصل محافظ ولاية أكيتا اليابانية من ”بوتين“ على قط سيبيري. جاءت هذه الهدية رداً على جرو من فصيلة أكيتا-إينو اليابانية الشهيرة، التي قدمها المحافظ الياباني للرئيس ”بوتين“ امتناناً على المساعدة التي قدمتها روسيا لضحايا الزلزال وتسونامي عام 2011م في اليابان.

ولم يقتصر الأمر على الحيوانات بطبيعة الحال، فالمجوهرات واللوحات الفنية والسجائر والاسلحة والأطعمة جزءًا من تلك الهدايا. 

أعتقد أن الدولة الوحيدة التي لديها نظام صارم في تلقي رؤساؤها الهدايا هي الولايات المتحدة، وأعني في التصرف بها، ففي حال تجاوزت قيمة الهدية 375 دولاراً فإنها تصبح ملكا للحكومة الأميركية، وتسلم في وقتٍ لاحق إلى إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية. وبالتالي فإنني أتصور أن الرئيس الأمريكي لا يتمتع بتلك المقدرة التي تمكنه من إهداء نظرائه بنفس مستوى ما يتلقاه، ففي عام ٢٠٠٩م  تهكم الإعلام على هدية أوباما لرئيس وزراء بريطانيا وهي عبارة عن ٢٥ قرصاً لأفلام أمريكية كلاسيكية، لا يمكن مشاهدتها بواسطة الأجهزة المستخدمة في بريطانيا. الأمريكيون عموماً متواضعون في هداياهم قيمةً ومعنى، فجون كيري وزير خارجية أمريكا أهدى إلى نظيره الروسي حبتين من البطاطا خلال اجتماعهم في باريس!

Join