نتفلكس في زمن الكورونا ٣
أحاديث لا تمت للخيال بصلة
إستكمالاً لما بدأناه في التدوينات السابقة، كان علي أن أحدث نفسي بأنني بالطبع لست بمحور الكون وفريد زمانه، ولست ممن ينام ملء جفونه عن شواردها ويسهر الناس جرّاها و يختصمُ، فإن هذه الحالة التي أعيشها جراء العزل الوقائي هي قاسم يشترك فيها الملايين في ظل أزمة كورونا الجديد، لذلك حينما أعلنت نتفلكس أمس الثلاثاء عن نتائجها المالية للربع الأول لعام ٢٠٢٠م لم يكن مفاجئاً أن عدد مشتركيها قد قفز بإنضمام ١٥،٧ مليون مشترك جديد! مما يمثل زيادة تقدر ب ٢٣٪ عن نفس الفترة من العام الماضي. فهؤلاء مثلي ومثلك، يبحثون عن ماتسكن به عقولهم وتسلو به أرواحهم في رحلة من التخدير الممتع والانغماس في عجائب الإنتاج التلفازي. ولكن هل هذا الامر كافياً لتغييب العقل فعلاً عن ماكان يعتريه قبل نتفلكس من أفكار وتفكر وهموم وسلوان! ما نعرفه أن العقل البشري أيما كانت درجة انشغاله أو إدمانه، فأن النبضات الكهربائية بين فجوات خلايا الدماغ لن تهدأ، فقد أثبتت احد الدراسات - التي أرجو أن لا تكون بريطانية - أن الإنسان الطبيعي يمتلك نحو 48.6 فكرة في الدقيقة، وبذلك سيفكر في 2.916 فكرة في الساعة، و69.984 فكرة في اليوم، و25.544.160 فكرة في السنة! سوف أسامحك إذا ما تجاوزت عن قراءة تلك الأرقام، فأنا فعلت ذلك قبلك، ولكن قرابة 69.984 فكرة في اليوم! سوف تسبب لي جلطة دماغية عاجلا ام اجلاً ! لذلك سألت صديق الجميع جوجل عما أنا فاعل!! كيف النجاة من تلك الخلايا العصبية التي تضخ عدداً مهولاً من الأفكار لم أطلبها من البداية! حتى وأنا واقع تحت تأثير نتفلكس المخدر! ولحسن حظي وقعت على نصيحة لأحد المستشارين البارزين في العلاقات الأسرية، الذي ألقى وصفته السحرية التي أسماها ”الاستفراغ العقلي“ - للأسف يبدو أن بعض الأطباء ليس أقل ابتذلاً في تسمية نتاجهم من بعض الكُتاب- ويقصد بها -وأنا هنا أقتبس مع تصرف- أن لخبطة الدماغ أن حدثت فهي نتيجة لتكدس الأفكار المعطلة والمهام العاجلة وتشاجر الأماني الغير محققة وهجرة الذكريات القديمة إلى الحاضر. وأن للتخلص من تلك الفوضى الدماغية فعليك القيام بعدة مهام، منها الكتابة بطريقة الاستفراغ العقلي. ماهي تلك الطريقة ! لا أعلم! لم أجهد نفسي للبحث عنها أكثر، ولكن يبدو أنها تعني أن تجبر عقلك بأن يخرج تلك الكلمات طرقاً على لوحة المفاتيح أو أن تخط بها على الورق - أكان احداً مازال يكتب على الورق ! - ويبدو أن تلك النصيحة الاستفراغية ليست بجديدة، فقد سبق ونبهنا السلف الصالح بأن الكتابة هي السلاح الأهم في رحلة العظماء، فقال الإمام الشافعي في أبيات حكمه الشهيرة: (العلم صيد و الكتابة قيده ،،، قيد صيودك بالحبال الواثقة.) والفقيه الأديب الأريب ابن الجوزي الذي من مؤلفاته الجميلة كتابه ”صيد الخاطر“ الذي شرح سبب تأليفه قائلاً (لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها فتذهب كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى).
وفي ذلك أومن بأن فكرة الإلهام في الكتابة وتلقي الوحي الكوني الذي يسكب الكلمات في وعي الكاتب ماهي إلا ضلالة ساذجة ليست بأفضل من إيمان قبائل الاسكندنافية أجداد الفايكنج بأن الرعد والبرق ماهي الا ضربات مطرقة الإله ثور . لهذا ولأسباب كثيرة أحب جوزيه ساراماغو الذي يقول في لقاءه مع جمانة حداد بأن الإلهام ليس ما يدفعه إلى التأليف، بل قراره هو، فشرط الكتابة الأول عند ساراماغو هي الجلوس، ثم تأتي الكتابة.
يبدو أني أطلت الحديث مرة اخرى!! حسناً، لتكن خاتمة تبدأ من العنوان.
يجمع فقهاء التأليف الإبداعي بأن اثنتين عليك بأن تدعها للأخير، وهي عنوان الكتاب والمقدمة! ولأنني أميل الى تصديق بول أوستر، صاحب ثلاثية نيويورك العظيمة الذي لم يغير يوماً عنوان كتاب حدده سلفاً، وأن ما يتغير ويتحول قد يكون فكرة الكتاب ومفهومه في طور الكتابة وليس العنوان. فالعنوان بالنسبة لبول أوستر هو العنصر الذي يتردد صداه في كل صفحة من صفحات الكتاب. وربما من المعيب الاستدلال بروائي قدير على تدوينة تحمل عنواناً مثل هذا! إلا انني وصلت إلى هذا السطر وأنا مازلت أظن أنني أقدم استهلالاً لمشروع كتابي الجديد !
شكراَ على وقتك الذي بذلته في مطالعة التدوينات السابقة، أعدك بأن التدوينة القادمة سوف تدهشك