العمران الرأسي المستدام.. حقيقة أم خيال؟
المراقب لخط السماء لمدينة الرياض يلحظ تغييرا كبيرا بالنسبة للتوجه للعمران الرأسي خصوصاً على منطقة العصب التجاري ما بين طريقي العليا والملك فهد، ومدينة الملك عبد الله المالية الذي وضع مخططها الرئيسي المعمار الدنماركي هيننج لارسن على الرغم من كم التغير لا يمكننا مقارنة ما يحدث هنا بالمدن الخليجية التي تزداد طولاً بشكل يومي متخطية الحدود العالمية، ولا أدل على ذلك من مدينة دبي التي أصبحت حقلا للتجارب في هذا المجال. والهدف هنا ليس التنافس في العمران نحو السماء لمجرد التباهي، بل يجب أن يكون لدينا وعي كمصممين ومنفذي ومتخذي قرار لمثل هذه النوعية من المباني، على مدى 130 عاما، وهو زمن تطور المباني العالية بدءاً من نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر في شيكاغو إلى وقتنا الحالي، كانت ثنائية الصورة والاقتصاد هي المحرك الرئيس لتصميم هذه النوعية من المباني، وربما نستثني الفترة التي لحقت بالأزمة الاقتصادية في بداية السبعينيات، وكيف أن الاهتمام بكفاءة تصميم هذه المباني من ناحية ملاءمتها للنسيج العمراني المحيط، والاهتمام بتقليل اعتمادها على وسائل التحكم الصناعي، أدى إلى خفض الطاقة في المباني التي صممت بعد هذا التاريخ، وهذا ما تؤكده دراسة مهمة لأنطوني وود أستاذ المباني العالية في معهد شيكاغو التقني، وهو الذي قام بدراسة المباني العالية في أمريكا على مدى خمسة عقود زمنية تغطي القرن الماضي بالكامل.
السؤال الآن الذي يتبادر للذهن: هل بالفعل يمكننا أن نصمم مباني عالية ذات كفاءة في استخدام الطاقة، ويمكننا أن نوسمها بالمستدامة، لفترة طويلة من الزمن كان ينظر للمباني العالية على أنها مستهلك ضخم للطاقة أثناء البناء أو فيما بعد، وتحمل طاقة وضغطا كبيرا للبنية التحتية للمنطقة التي ستبني عليها إذا لم يأخذ المخططون في حسبانهم مناطق مخصصة للمباني العالية، وهذا ما حدث بالفعل في التجربة الأوربية للبناء العالي، أستشهد هنا بالتجربة الأوربية في بناء ناطحات السحاب؛ لأن التجربة الأوربية كانت مختلفة بشكل كبير عن التجربة الأمريكية، من حيث إن النهج الأوربي قائم على تصميم مبان كفؤة تجاه البيئة وتقليل الاعتماد بشكل كبير على التحكم الصناعي في المباني، أمثلة عديدة من المباني في لندن وفرانكفورت وروتردام قائمة على هذا النهج الفعال من البناء المستدام، وهذا ما تؤكده جوانا كارلا سوايز أستاذ العمارة والمباني العالية في جامعة ساو باولو في كتابها الأداء البيئي للمباني العالية (The Environmental Performance of Tall Building).
تاريخياً ظهور هذا النوع من المباني ظهر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الماضي، أتاح التقدم التكنولوجي في عدد من العناصر الرئيسة في إنشاء المباني، كنظام الهيكل الإنشائي الذي خفف الأحمال من عاتق الحوائط، وجعل الفرصة أكبر لاستخدام مساحة الواجهة كاملة كغلاف زجاجي، وظهور مواد إنشائية خفيفة نسبياً كالفولاذ، جعل من فرصة البروز بالبناء أمرا ليس بذات التعقيد، خصوصاً مع بدء استخدام المصاعد بشكل تجاري من قبل شركة أوتيس في الثلاثينيات من القرن الماضي. ربما كان الهدف الاقتصادي هو المحرك الرئيس في هذا التوجه الجديد في حينه، أي رغبة الملاك في استثمار أكبر قدر ممكن من مساحة الأرض البنائية، إلا أن الغاية الرمزية ظلت مطلبا رئيسا، فتنافس كبار التجار في وضع موطئ قدم لهم في السحاب، وهذا ما ظهر بشكل كبير في نيويورك في بداية القرن العشرين في مبان هي الأولى من هذا النوع، مثل مبنى كرايسلر الذي بني عام 1929م بارتفاع 305 أمتار، وبمبنى الأمباير ستيت عام 1931م، خصوصاً إذا عرفنا أن كلا المالكين كانا مرشحين لرئاسة الولايات المتحدة آنذاك، ولكنهم بعد أن فشلوا في الوصول لكرسي الرئاسة، نقلوا تنافسهم إلى فضاء المدينة الذي كان في طور التشكل آنذاك. ظل هذا النمط من البناء (ناطحات السحاب) يحمل قيما من البنيان التقليدي نوعاً ما، مثل التكوين الثلاثي الذي يرمز له بالقاعدة والبدن والتاج، وهو تقسيم البرج إلى ثلاث مكونات رئيسة، مستقاة أصلاً من مفاهيم العمارة الكلاسيكية، وهذا ما بدا جلياً في مسابقة شيكاغو تريبون، هذا من الناحية الشكلية الصرفة، أما من ناحية الوظيفة البيئية اعتمدت المباني بشكل رئيس على التهوية والإضاءة الطبيعية، حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين، عندما بدأ النازح الألماني ميس فان دوره في بناء البرج الذي عرف لاحقاً بأيقونة الطراز العالمي (مبنى سيجرام) 1958م، الذي اعتمد بشكل رئيس على وسائل الطاقة الميكانيكية، والانفصال عن المحيط العمراني بصنع نموذج من الممكن أن تراه في أي بلد في العالم، يمكننا اعتباره أول منتج للعولمة الحديثة. ظل هذا النموذج الأمريكي هو المسيطر على المشهد المعماري، حتى برز النموذج الأوروبي الذي يعيد للبيئة والمحيط العمراني الاهتمام، مقللاً بشكل كبير من الاعتماد على الوسائل الميكانية، ومتيحاً للأبراج أن تتنفس الطبيعة، وأبرز مثال على ذلك هو برج بنك كوميرز الألماني الذي صمم من قبل المعمار نورمان فوستر في عام 1997م، محققاً رقما لم يسبق تحقيقه من قبل في الاعتماد على الطاقة الطبيعية من قبل في الأبراج، بنسبة 80 في المائة تهوية وإضاءة طبيعة، ومقللاً من استهلاك الطاقة بما يقارب 40 في المائة سنوياً. معماري متخصص في عمارة الاستدامة والمباني العالية.
صحيفة الإقتصادية- 10 ديسمبر 2012