العمارة ..توثيق التاريخ الحديث
يُحار الدارس للأثر المعماري في العالم العربي في تتبع تطور العمارة على جميع المستويات وخصوصاً التفاصيل الصغيرة والأحداث المهملة وأخص بالذكر العمارة الحديثة أو فترة التأسيس للواقع المهني الحديث ابتداءاً من بداية القرن المنصرم، فالمعلومات المتوفرة عند بدء استخدام المواد الحديثة وظهور أنواع جديدة من المباني غائبة ومحاطة بضبابية كبيرة يستعصى على الدارس جلاءها ومن ثم العمل على إثرها.
لذا أرى أن المسؤولية ملقاة على عاتق الجميع ممن يعملون في هذا الحقل، للبحث في هذا الموضوع المهم " توثيق العمارة الحديثة" ولا أعني بمفهوم التوثيق دراسة الأبنية فقط، فمثل هذه الجزئية قد أشبعث بحثاً من قبل الكثير وفي الوسط الأكاديمي خصوصاً بدراسات منفصلة، حديثي منصب على جميع تجليات العمارة مثل أوائل المعماريين في كل بلد، فترة تأسيس المكاتب الاستشارية الأولى، وأيضا جانب التأليف وظهور المجلات المهنية والخطاب الفكري والتحولات التي عصفت به حتى يومنا هذا.
في هذا الجانب تحضرني دراسة مهمة لـ د- توفيق عبدالجواد بعنوان "مصر العمارة في القرن العشرين" تتناول بدايات العمل المعماري في مصر بدءاً من تأسيس مدارس العمارة وأوائل المعماريين الذين وفدوا إلى البلاد بالشهادات العليا من البلدان الأوربية والمكاتب الاستشارية وأهم المسابقات التي عملت آنذاك، وإن كانت الدراسة تكاد تخلو من الرؤية التحليلية العميقة وتكتفي برصد مجمل النتاج المعماري المصري بشكل مباشر، إلا إنها ساهمت في الحفاظ على العديد من المعلومات المهمة والتي كان سيطالها النسيان والضياع إن لم تجد من يهتم بها ويسعى للحفاظ عليها، لكي يؤسس عليها الدارسين من بعده دراسات متصلة تبقي القارئ على رؤية صورة كاملة للمشهد المعماري.
وفي هذا المقام لا يمكننا نسيان كتابات م- رفعة الجادرجي الرائدة في مجال تنظير ونقد العمارة في العالم العربي، ومع أنها ظهرت في شكل أسلوب سردي متناولة سيرة المعماري رفعة المهنية خصوصاً كتابيه " شارع طه وهامرسمث " وكتاب " الأخيضر والقصر البلوري "، إلا أنها أضاءت للكثيرين رؤية الممارسة المهنية في العراق من بدايتها وحملت تراجم للمعماريين الرواد وتوضح الاثر لكل معماري من خلال معرفة المدارس المعمارية التي تعلم فيها، ومع ذلك أصبحت مرجعاً لمن أراد التعرف على عمارة العراق الحديثة في بداياتها الفعلية .
الفوائد التي ستجنى من هذا العمل عديدة وستسهل على الباحثين العمل بالإتكاء على تركة بالغة الأهمية من الوثائق التي تؤرخ للعمارة في كل بلد, وستصبح هذه الوثائق مراجع لا يستغني عنها وسيؤسس عليها دراسات تقيم الوضع انذاك وتبدأ في المرحلة التي تم التوقف عندها بالدراسة والرصد والتحليل، وبمراجعة هذه الدراسات يتم الحصول على التراكم المعرفي المطلوب ولا يحدث بون شاسع في المعرفة كما هو حاصل في عصرنا الحالي في الدراسات المعمارية خاصة النظرية منها ..
أرى أن المسؤولية ملقاة على عاتق الجميع ممن يعملون في هذا الحقل، للبحث في هذا الموضوع المهم " توثيق العمارة الحديثة" ولا أعني بمفهوم التوثيق دراسة الأبنية فقط، فمثل هذه الجزئية قد أشبعث بحثاً من قبل الكثير وفي الوسط الأكاديمي خصوصاً بدراسات منفصلة، حديثي منصب على جميع تجليات العمارة
سأضرب مثلاً بالتراث النقدي في الأدب، فالأدباء في بداية القرن الماضي بدؤا في عملية إحياء للتراث بشقية النقدي والإبداعي فرأينا مدرسة الأحياء الشعرية وايضاَ وجدنا قراءات معاصرة للنقد الأدبي القديم، كما هو عند عبدالقاهر الجرجاني وغيره، هذه العملية تمت على أيدي رواد مثل طه حسين ومحمد مندور والعقاد والمازني وغيرهم الكثير، هذه الأعمال المهمة أثرت الجنس الأدبي كثيراً ووضعت الأدب في منزلة عالية مقارنة مع باقي صنوف المعرفة .
أذكر أني واجهت أحد المعماريين الرواد في المملكة بمثل هذه الحقيقة وسألته إننا المعماريين الشباب نتوق إلى معرفة تجارب هؤلاء الرواد لنستنير بها في طريقنا القادم، ولكنه واجهني بإجابة اختزالية عندما قال المعماري لا يكتب ...!!
ربما يمكننا الأخذ بهذا القول في العصور القروسطية لأن المعماري آنذاك حرفي، لم يرتقي لأن يكون من الطبقات المهمة في تلك العصور وهم أهل السيف ( الملوك والزعماء ومن هم في حاشيتهم ) وأهل القلم ( الكتاب والأدباء والمؤرخون ومن هم على شاكلتهم ) ولذا لم يكنونا ذو شأن، حتى الكتابات المعمارية التي وجدت آنذاك لم ترتقي لوصف العمارة بشكل جمالي، كما كانت عند الحديث عن الأدب، وكان غالبية الكتاب الذين أرخوا لتلك التجارب يصفون العمارة بكلمات محددة مثل عجيب- غريب، لأنهم لم يستطيعوا أن يدركوا جماليات تلك المباني بسب بعدهم وعدم احتكاكهم مع بناء تلك الأوابد الخالدة، وقد تحدث د-ناصر الرباط أستاذ العمارة الإسلامية في معهد ماسوشستس عن هذه النقطة بشكل مسهب في بحثه الموسوم " مفهوم العمارة في الكتابات الإسلامية في القرون الوسطى"،ولكن إذا كان هذا الحديث عن العصور القديمة، فماذا نقول عن التجارب المهمة التي حدثت في العصر الحديث خصوصاً كتابات لوكوربوزييه " نحو عمارة جديدة" وعربياً لا يمكننا تجاهل كتابات حسن فتحي في الترويج لمشروعه الفكري والمعماري آنذاك..
ربما هذا الأمر يقودنا إلى إشكالية تعليمية، عانينا منها طويلاً ولا زلنا نعاني وهي ترى أن الفكر المعماري كما يدرس في تاريخ ونظريات العمارة، عبارة عن ترف فكري يقدم للطالب كمتتالية نماذجية يجب أن تتم بشكل تلقيني، الهدف مننها تقديم أكبر قدر من المعلومات لحشو عقل الطالب لكي يقوم من خلالها بالانتقاء بين طراز وآخر وأن يفرق بين أسلوب معماري وغيره من أقرانه، وليست مناهج تقود إلى بناء نماذج إدراكية تحليلية تساعد على تهيئة و تكوين عقل توليدي يصوغ عدد من الأفكار ويحاول تفكيكها ليساهم في نقد وبناء نموذج معرفي خاص منطلق من بيئة وهوية أصيلة .
لذا نجد أننا نعاني من شح في نقاد العمارة في العالم العربي وخطابنا المعماري يراوح بين تيارات وافدة لا يمكننا التحكم فيها أو صنع مسار نقدي خاص بنا، فتوجهاتنا النقدية متذبذبة بين مواضيع عدة يتم التركيز على أحداها فترة معينة ومن ثم يهمل ويتم تناول موضوع جديد يناقش في بلدان متقدمة، لذا نرى مواضيع مثل الهوية والأصالة والمعاصرة وجدل التراث والحداثة فقدت الكثير من بريقها في الآونة الأخيرة وأصبحت أقل توهجاً في مقاربات النقاد الفكرية، والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا، هل على الناقد ان يعمل على مواضيع شائعة وموضة فكرية يتأثر بها ومن ثم يستوردها أم يجب أن ينطلق في مقارباته الفكرية من مشاكل ظاهرة على أرض الواقع يحاول أن يوجد لها حلول قبل أن تتفاقم ومن ثم يصعب حلها.
ربما قادنا الحديث عن توثيق العمارة إلى معضلة العمارة العربية وهي النقد، واسترسلنا قليلاً في ذكر بعض الهموم النقدية، ولكن التوثيق هو من صميم النقد المعماري واحد مراحل النقد ( العرض- التفسير – الحكم ) والذي يدخل في صلب العرض المعماري، يمكنني ان أخلص إلى أن الشروع في وضع مركز أبحاث للعمارة العربية هو مطلب بالغ الأهمية في هذه المرحلة لكي يتم من خلالها العمل على توثيق لكل بلد ويتم تحقيق العديد من المطالب والأفكار التي تم ذكرها .
جولاي-2009م.
كامبردج – المملكة المتحدة