غواية النقد
عند تأملي للوضع النقدي في عالم العمارة العربية لا أجد وصفاً قادراً على إعطائنا صورة حقيقة للوضع النقدي أكثر من مقوله الكتابة بالطباشير, هذا النقد أن وجد فهو غالباً- إلا من بعض الاستثناءات المحاربة – هش سطحي وسهل إزالته ككتابة الطباشير كما أن ليس له قابلية للبقاء وديمومة تساعد على انتشاره ومن ثم تأثيره في الوسط المنقود
هل توجد لدينا حركة نقدية في العمارة مشابهة للنهضة النقدية التي نشهدها في عوالم الأدب والفكر العربي ؟
العالم العربي يزخر بالعديد من النقاد الذين يغذون الحركة الإبداعية ويعملون على تنظيمها وتيسير نقلها للمتلقي من جميع الأطياف, بل أن في بعض الأحيان نتاجهم يطغى على مايقدمه المبدعون الذين هم معنيون بالنقد, هذه العلاقة المتوازنة فيما بين الناقد والمنقود والاحترام والأهمية التي يوليها كل منهما للأخر, ساهمت في علو كعب الأدب عن غيره من مشاط الثقافة الأخرى.
تكاد تكون هذه العلاقة شبه معدمة في عالم العمارة إلا من بعض الومضات هنا وهناك سواء في منابر أكاديمية صعب وصولها للقارئ العادي وأيضا المعماري الممارس, أو مجلات ذات صبغة تجارية, تنقد إذا كان هنالك مجال للنقد بمواربة ومراعاة للمعلن, لتسيير عملها وهذا ليس عيب فالدور الذي تضطلع به مهم ورافد أساسي في الثقافة المعمارية حتى ولو خلت من النقد .
لا أحد يستطيع إنكار أهمية النقد في مشارب العلوم المختلفة, فالنقد كما يقول الكسندر اليوت " فأن النقد يضفي على حديقة الفن شبة الوحشية, شيئاً من التنظيم
ونسمع كثير من المبدعين مما إذا سئلوا هل تتقبل النقد كان جوابهم نعم النقد البناء فقط , ولكن أعجبتني مقولة لناقد سوري يقول أنه لا يريد أن يكون نقده بناء بل هدام لكي قوم بهدم البنيات الفاسدة في الفكر أو خلافه ومن بعد ذلك يتم البناء.
النقد يقوم أيضاً بقراءة للمنتج الإبداعي مغايرة للذي أرادها المبدع, مما يفتح له أفاق جديدة ويعطيه فرص أكبر في المستقبل في تقويم منتجه, وبالتالي تستمر حلقه الإبداع.
ظهرت الكثير من الاتجاهات والحركات المعمارية والتي سرعان ما انطفئت, وأن كانت تعتمد في الأساس على روح العمارة الغربية وتتماهى مع التوجهات العالمية, إلا أن مجرد ظهورها من المعمار العربي وتمازجها مع بيئته, أعطاها خصوصية وتفرد توجب علينا نقدها والعمل على تقويمها والتأريخ لها ولإسهاماتها على حركة العمارة العربية , يعتبر حسن فتحي دليل دامغاً على مثل هذه التوجهات التي لم تلقى رواجاً نقدياً, فمجموع الكتب التي صدرت عن تجربته الفكرية لم تبلغ الخمسة كتب بالكثير,
وغيره الكثير من المعماريين الذين أثروا العمارة العربية فكرياً وتطبيقياً ولكن بقيت أعمالهم وغاب النقد و التنظير لها الذي هو ركن من أركان أي حركة فكرية يراد لها الاستمرارية والتوهج.
هذا العزوف المخيف من قبل النقاد- إن وجدوا –في سبر أغوار التأليف المكثف وبالتالي إعطاء كل تجربة فكرية حقها من النقد والضوء التي تستحقه, غير مبرر ولكن إلى ماذا سنعزو هذا الكسل الفكري وعدم المبالاة الثقافية ؟؟؟
عن نفسي أجدني عاجزاً عن الاجابه,بل يجدني الإحباط مأوى وملاذاً امناً يسكنني ولا أستطيع الفكاك منه, كثيراً ما أغبط الأدباء بوسطهم الفكري المتوهج وندواتهم ومعارضهم التي تحظى باهتمام منقطع النظير من جميع الأطياف.
لا أجد وصفاً قادراً على إعطائنا صورة حقيقة للوضع النقدي أكثر من مقوله الكتابة بالطباشير, هذا النقد أن وجد فهو غالباً- إلا من بعض الاستثناءات المحاربة – هش سطحي وسهل إزالته ككتابة الطباشير
ربما يقول البعض المقارنة بين النقد في الأدب والعمارة مقارنه غير عادلة, لاشك في ذلك ففي العالم أجمع لايزال النقد المعماري في بداياته, ويعتمد بشكل كبير على مناهج النقد الأدبي لما يتميز به الأخير من تراث كبير في نفس المجال, ولكن إتكاء النقد علي أي من فروع العلوم المختلفة لا يعطينا الحق في تجاهله وعدم الاكتراث به .
من المغالطات التي تتداول عن الناقد والتي تجعل الكثير منا يتجنب السقوط في غواية النقد هي مقوله الناقد " بياع كلام" أي أنه اتكأ على النقد لسد العجز الذي لديه في مجال الممارسة ويمكننا دحض هذه المغالطة بتذكيرنا بأهم النقاد العالميين ألا وهو المعماري الفرنسي لوكوربوزييه الذي يعتبر أهم من أسسوا لعمارة الحداثة نظرياً وتطبيقياً وكتابه " نحو عمارة جديدة " خير شاهد على ذلك, يقول الناقد المصري الكبير محمود أمين العالم " أن سبب نكسات العرب المتوالية هي مقوله بلاش فلسفة " وقد كتب بحثاً كاملاً عن مقولة بلاش فلسفة مبيناً الأسباب التي تجعل العرب يفضلون الإيجاز ولا يكترثون بالتفكير العميق للأمور.
مع كل هذه الضبابية التي تغطي أجواء هذه الورقة, لايمكننا إنكار اجتهادات نقدية في عالمنا المعاصر,في الأخير لابد من التذكير بأن الحركة والنهضة
.المعمارية, إذا لم يوازيها حركة نقدية موضوعية تحاول أن تبرز الأخطاء وتقومها, ستصاب مع الزمن بشيخوخة مبكرة وسيصعب علاجها بعد ذلك.