سير المعماريين
البناء من الذاكرة
" من الصعوبة عدم تذكره هنا ... اتمنى أنه لا زال على قيد الحياة ليرى ما أتممت بنائه هاهنا في المدينة التي عاش فيها"
فرانك قيري متحدثاً عن والده اثناء افتتاحه لبرجه الاخير في مانهاتن. (بناء الفن – بول قولدبيرقر)
سير المعماريين تحمل في طياتها قصص من نوع آخر، ربما هي حكاية عبقرية توارت خلف مبنى وتجسدت بشكل مادي، أو هو تنازع الأفكار الذي يقع فالنفس محدثاً صخباً ينسجه لنا المبدع فيما بعد حوائط وأمكنة. اجدني بشكل دائم شغوف لفهم عبقرية المعماريين ليس من خلال أعمالهم الكاملة وانما البحث في الصندوق الاسود* القصص التي شكلت شخصيات هولاء المعماريين كيف شكلتهم الامكنة الاولى، العلاقات الإجتماعية و قبل كل شيء العائلة الاولى. ربما هذا الصنف من الأدب ليس شائعاً لدينا في العالم العربي، وإن كان رفعة الجادرجي أسس قواعده بشكل رصين في كتبه التي تناولت سيرته، ولكن ماينتجه الكاتب والناقد الغربي عن المعماريين والمصممين بشكل سنوي مبهر...، ومع ذلك هذا النوع من الأدب سير المبدعين مجهد ومكلف أغلب المؤلفين لهذه السير لازموا المبدعين الذين كتبهم طويلاً ومنهم قولد بيرقر الذي كتب سيرة فرانك قيري الذي ذكر انه لازمه طويلاً وطويلاً جداً لمدة تقارب الاربعة عقود. يحكي في بداية سيرة فرانك قيري أنه في خريف 1974 م، وعندما كان كاتباً يافعاً لصحيفة النيويورك تايمز حضر مؤتمر اتحاد المعماريين الامريكي بواشنطون والتقى بالناقدة الامريكية ادا لويس هكستابل و اثناء حديثه قاطعه شخص ليلقي التحية على الناقدة الأشهر حينها، وكان في الاربعينيات من عمره عرف بنفسه على انه منتمي للرسامين في مدينة لوس انجلس أكثر من ارتباطه بالمعماريين، حينها بدأت قصة فرانك مع الكاتب التي امتدت طويلاً ويذكر قولدبيرقر أن كتابه عن فرانك هو احدى نتاجها.
ادبياً هذا النوع من صنوف المعرفة تجلى في عالمنا بعدد من الروائع، شخصياً لا يمكنني نسيان تجربة الروائي القاهري جمال الغيطاني في الخطوط الفاصلة اثناء رحلته إلى امريكا للعلاج وقبل ذلك تأريخه لفترة مهمه في حياته اثناء السبيعينات ومكتبتة العامرة بالمخطوطات الفريدة الذي كان يودعها قبل رحلته وكأنه يودع شخص من افراد عائلته، عن مريد و السيرة عندما يكتبها شاعر ينسجها كقصيدة غزلية عن معشوقته الابدية كما حكاها مريد البرغوثي في عودته إلى رام الله، كذلك المسيري في رحلته الفكرية في البذور والجذور و الثمار عندما يخبرنا عن تحولاته الفكرية من الضياع الى الثبات، عن موسوعته الأهم وتضحياته من أجل إتمامها. مؤمن بأن لدينا من التجارب على المستوى المحلي و العربي ما يجب كتابته سواءاً من قبل المبدع بذاته أو من خلال كتاب معمارين يقومون بدور الحكاء الذي يصنع من خبرات هذا المبدع دروس لأجيال المستقبل.
سيرة فيليب جونسون هي وصف حقيقي للعمارة في القرن الماضي
ويتلد ريبنزسكي
في مقدمة كتابه " فيليب جونسون : حياته وأعماله " يبدأ الكاتب والمؤرخ فرانز شولز قائمة الشكر في كتابه بالثناء على شخص موضوع الكتاب المعماري فيليب جونسون، مثمناً للمعماري وقته اثناء ثمان سنوات من البحث و الكتابة ومقدراً للمعماري توفيره لكل مايحتاج من معلومات وعدم تدخله في تحرير أو التأثير على الكاتب بأي شكل مباشر. هذا الجهد الكبير صنع واحده من أهم السير المعمارية التي لامس فيها شولز العديد من الأحداث المهمة التي رافقت حياة فيليب جونسون والتي يصفها ويتلد ريبنزسكي بأنه وصف حقيقي للعمارة في القرن الماضي.
سير المعماريين لا تقتصر على تجسيد صورة المعماري من خلال حكاية قصة نجاحه أو فشله، بل ربما تمتد إلى قصة المباني ذاتها وكيف أن لكل مبنى قصة يجب أن تروى حكاية البداية أو التصميم، حكاية قاطنيها، حكاية النهاية أو الهدم. وهذا ما يمكن أن نلمسه في كتاب " سيرة مبنى – مركز سينسبري للفنون البصرية" للناقد واستاذ العمارة ويتلد ريبنزكي وهو حكاء ملهم ينسج من حروفه تصورات و قصص عمرانية بأسلوب ادبي وشاعري بديع. في كتابه يقف رينزسكي على تجربة معماري شاب انذاك (فوستر حينها لم يبلغ الاربعين) وليس لديه خبرة في تصميم المتاحف أو المباني العامة وكيف شكلت هذه التجربة واحدة من أهم تجارب فوستر المعمارية، وفي نفس المبنى عند زيارة عراب فوستر وأحد أشهر استاذته بوكمنستر فولر أطلق عبارته الشهيرة How Much Does Your Building Weigh, Mr. Foster? والتي أصبحت عنواناً لوثائقي تم إنتاجة عن تجربة فوستر الشهيرة.
كان فقد المبنى العتيق بالنسبة لي فقداً لمراحل من عمري الشخصي، ومن خلال الذاكرة أحاول استعادة الجدران والأسقف والمشربيات والزمن اللامرئى والمعنى الخفي
جمال الغيطاني - استعادة المسافر خانه
في كتابه الذي يرثي فيه الروائي جمال الغيطاني “المسافر خانه” واحد من أجمل البيوت الإسلامية في القاهره القديمة، والذي كان يعيش على مقربة منه لزمن طويل يحكي قصة واحد من أهم البيوت القاهرية التي تشكل عناصره مفردات مهمة للبيوت الأصيلة في قاهرة المعز.
يذكر جمال أنه كتابه هو محاولة لكتابة سيرة مبنى وتخليداً لجزء مهم من ذاكرة القاهرة القديمة بعد أن التهمت الحريقه المبنى عام 1998م نتيجة للإهمال. وهذه السيرة الخاصة بالمبنى جسدها الغيطاني بأسلوب أدبي رفيع حاول فيه أن يروي قصة المبنى مفصلاً في جميع عناصره المادية والحسية وكأنه معماري ضليع يفصل في تفاصيل الزخرف ويحكي التجربة الفراغية للمكان بإيتقان لا يضاهى.