هل تفهمني..حوّل؟
يرى المحلل النفسي دونالد وينيكوت بأنه لا وجود للطفل بدون أمه في أيامه الأولى. تتولى الأم تلبية احتياجات طفلها وهو لا يملك لغة يتواصل بها بعد. فتترجم صرخاته بحاجته للطعام، أو رغبته في النوم، أو حتى بأن يكون قريباً منها.
هذه المحاولات للترجمة هي ما تبقي الطفل حياً. طفل وينيكوت لا يقسم العالم إلى داخلي أو خارجي. هناك تجربة فقط. يجرب الجوع فيظهر الطعام بطريقة سحرية ثم يظن أن رغبته الشخصية صنعت كل هذا.
يقول وينيكوت أن الطفل في هذه المرحلة ليس مستعداً للواقع، وأن على أمه أن تسقيه جرعات الواقع بالتدريج حتى يستطيع أن يكيّف نفسه للحياة. أصعب ما على الطفل أن يتعلمه هنا هو أن يدرك أن أمه شخص مختلف عنه وأنه لا يملك أي سلطة عليها. فالدرس الأول إذاً هو الشعور بالخيبة.
"إن رغبتنا في أن يفهمنا الآخرون، ونحن كبار، ربما تكون، من بين أشياء أخرى عديدة، أشد صيغ الحنين عنفاً
ادم فيليبس
فكر في علاقاتك كلها وتأمل، كم شخصاً لديك يستطيع أن يفهمك دون لغة؟ من يفهم إشاراتك وسكناتك؟ من يفهم حديث عينيك وقسمات وجهك؟ من يترجم التنهيدات اللي تطلقها؟ هناك اسم واحد على الأقل ظهر في عقلك. وربما رأيت وجهه فابتسمت. تتأمل وجهه وتتسآل من أي جنة سقط هذا الشخص؟ وكيف استطعت أنت من بين ملايين البشر أن تحصل عليه؟ وربما ظهرت أسماء أكثر ووجوه تألفها وتحبها، فتظن أنك من أوفر خلق الله حظاً.
تبدو الحياة أحياناً وكأنها رحلة طويلة للبحث عمن يفهمنا. ويقف خلف هذا البحث وهم الحصول على علاقة محاطة بالكمال، علاقة تُلبى فيها كل حاجاتنا وأمنياتنا دون أي جهد. علاقة يظهر فيها الفهم بطريقة سحرية كما يظهر الطعام للطفل عندما يجوع. لكن على النقيض من طفل وينيكوت تختلف عوالمنا الداخلية عن العالم الخارجي ويذكرنا سوء الفهم بهذه الحقيقة بأبشع الطرق. ما أقسى من أن يسيء فهمك من تعودت على حسن فهمه. أهو فشل مؤقت؟ أم خلل جوهري تراه بوضوح الآن؟ تشك أولاً في الترجمة فتعيد صياغة اللغة التي اخترتها للتواصل. ثم تتأكد أن الشخص الذي أمامك هو نفسه الذي فهمك سابقاً دون مشاكل ولم يتلبسه شيطان ما. تكرر المحاولات بحثاً عن التجربة الذي حصلت عليها مرات كثيرة من قبل: أن ترى نفسك بعيون الآخر.
الحاجة للفهم حاجة إنسانية أصيلة. نستخدم الصوت وتعابير الوجه وحتى الإشارات لنحصل عليها. نتعلم اللغة، وربما لغات، بكل تعقيداتها في محاولات حثيثة لضبط دقة الترجمة بيننا وبين الآخر. نبحث عمن يفهم دواخلنا في علاقتنا الإنسانية التي نكونها، وفي الكتب والقصائد التي نقرأها، وفي الأغاني التي نسمعها، وفي اقتباسات لا تتجاوز ٢٨٠ حرفاً، وربما نكتب تدوينتين متتاليتين عن نفس الموضوع. نقوم بكل هذا ونحن نعلم أن أقصى ما سنحصل عليه هو ترجمة بتصرف. فإن لم نجد من يفهمنا لجأنا للخيال واخترعنا شخصيات بقدرة هائلة على الانصات. تستمع لنا ونحن نكرر الرواية نفسها ألف مرة ونبرهن على منطقية سلوكياتنا ووضوحها.
يبدو بعد كل هذا وكأن سوء الفهم هو الأصل ودقة الفهم استثناء. لكننا نتفاجأ من سوء الفهم كل مرة، وقد نشعر بالحزن والوحدة إن لم يفهمنا أحد. ونحن نعجز في معظم الأحيان عن الربط بين اختلاف الآخر عنا وتأثير هذا الاختلاف على فهمه لنا. أكتب هذه التدوينة وأنا أعلم أن التواصل الكتابي سيخلق حاجزاً إضافياً بيني وبين القارئ. فلا ملامح ظاهرة تشجع على الاتفاق، ولا نبرة صوت توضح المقصود، والتعويل على فهم الآخر للسياق مخاطرة حقيقة. فسوء الفهم لكلامي أمر وارد جداً لكن المهم هو المحاولة.
محاولة الفهم تدريب على الصبر والحلم. وتذكير بأن الفهم عملية مراوحة. ليس المهم أن نُفهم كل مرة، فلن نموت من الجوع كطفل وينيكوت، لكن علينا أن تذكر أن غيابه أحياناً لا علاقة له بمتانة العلاقة مع الآخر. لا أحد يشك بمحبته لنفسه ومع ذلك قد نعجز عن فهم أنفسنا في مواقف كثيرة. ربما من الأفضل أن نعتبر سوء الفهم فرصة لهندسة علاقاتنا، وتذكرة مجانية تأخذنا في رحلة للداخل نعيد فيها تقييم رؤيتنا للحياة.