عن التجارب..
أفكر منذ فترة طويلة بموضوع التجربة الإنسانية. هل يلزم الفرد أن يمر بالتجربة حتى تكتمل معرفته عنها؟ أم هل المعرفة نوعين، إدراكية وشعورية، يمكن للأغلبية أن يحصل على النوع الأول بقليل من التأمل والمواجدة بينما لابد أن تصطلي بنار التجربة حتى تحصل على النوع الثاني؟ للتوضيح أنا لا أتحدث عن اختلاف التجربة الواحدة على البشر وإنما أتحدث عن التجربة كشأن يجعل من الممكن لشخصين أن يتناقشا حول موضوع ما دون أن يعاير أحدهما الآخر: لن تعرف ما لم تجرب. يحيرني هذا الموضوع كثيراً، وأتسآل كيف سيبدو الأمر لو رسمنا مخطط ڤن للمنطقة المشتركة بين من جرب ومن لم يجرب؟
أجدني أحياناً في أقصى اليمين وأجزم أنك لن تعرف ما لم تجرب. بالله عليك هل يعقل أن يعرف الرجل كيف تبدو الحياة بعيون امرأة؟ كيف له أن يتحدث عن الآم الدورة والحمل والولادة وهي أمور لن يجربها أبداً. هل يعرف العيش بخيارات محدودة؟ أن تُعامل كفرد عاجز دائماً؟
أتحرك باتجاه اليسار خطوة وأنا أستمع لحديث من لم يجرب يوماً أن يكون معلماً. صحيح أنه جرب الجلوس داخل الفصل والتعامل مع معلمين كثر. لكنه لم يجرب يوماً أن يحول صفحتين مكتوبة لعرض حي ممتع، ويربطه بحياة كائنات تود أن تكون في أي مكان غير هذا الفصل. كيف يحق له إن يتحدث عن ضبط الصف وطرق التدريس؟ من أين يحمل هذا اليقين بأن تدريس مادة ما هو بداية جيدة لتغير سلوك البشر؟
أراهن أنك تجهز رداً مقنعاً تحاججني به، وربما توقفت عن القراءة الآن لتكتبه لي. وحتى لا ترتفع لديك مشاعر الغضب دعني أختار الوقوف في موقع مساوي لك، عزيزي القارئ، لأطرح سؤالاً مهماً: هل تمنح التجربة أصحابها الحق في النقاش وتستثني من لم يمر بها؟
نقرأ أنا وأنت عن عمال منجم محاصرين داخل نفق ما. وهي تجربة لم يمر بها كلانا. هل تمنعنا عدم التجربة من التفكير في معاناة هؤلاء العمال؟ من الدعاء لهم ولأسرهم؟ من الحديث عن السوء الذي تحدثه الرأسمالية في هذا العالم؟ ومن الشعور بالذنب وكأننا ممن ساهم في انهيار هذا النفق؟
لنفرض أن العمال خرجوا سالمين، ما هو موقفهم منا؟ هل سيفرحون بتعاطفنا؟ هل سيمنعوننا من إبداء الرأي عن كل ما يتعلق بعمل المناجم؟ كيف ستكون ردة فعلهم لو زعمنا أننا نعرف عن تجربتهم الفظيعة هذه؟
فكر في أصعب تجربة مرت عليك واستحضر نسختك القديمة قبل المرور بهذه التجربة، هل تدرك حجم الاختلاف الذي أحدثته عليك؟ لو زعمت نسختك القديمة بأنها تعرف، حق المعرفة، كل ما تعلمته وما شعرت به بنسختك الآن...هل ستصدقها؟
هل تقسمنا الحياة إلى فريقين، مجربين وغير مجربين؟ ماهي الحقوق التي يستحقها من جرّب؟ فكّر في حق الحديث عن التجربة، حق القرار بشأنها، حق تصنيفها، حق إطلاق النكات حولها، وحق الكتابة عنها.
أحاول أن أكتب عن التجربة الإنسانية بموضوعية لكن مشاعر كثيرة تحوم حولي. بدءآً من الغضب لمحدودية هذا التقسيم الثنائي، ومروراً بالشعور بالوحدة التي تبعثها التجارب، وانتهاءاً بالتعاطف مع الفريقين. المشاعر هي كل ما أستطيع أن أراه في الجزء المشترك من مخطط ڤن. يشترك الفريقين في الشعور بالغضب. يغضب من لم يجرب عندما يتم إقصاءه. ويبرر بأنه لا يحتاج لتجربة المواد المخدرة حتى يعرف تأثيرها على الفرد والمجتمع مثلاً. وأنه كفرد تتأثر حياته بما يمر به من جرّب حتى لو كان الأثر غير مباشر.
ويغضب من جرب عندما يستمع لتنظيرات من لم يجربوا، ومن محاولاتهم لرسم هذه التنظيرات كنقد يستهدف المصلحة العامة. من له الحق في تحويل الألم الشخصي لقضية رأي عام؟
ويشترك من جرب ومن لم يجرب في الشعور بالوحدة، فتبدو التجربة كجدار فاصل بين الفريقين. تخيل نفسك العاطل الوحيد بين أصدقائك؛ كيف ستشاركهم التذمر من تداخل أوقات العمل مع الإجازات؟ ومن صعوبة التعامل مع رؤساءهم في العمل؟ ومن تعب الطريق من وإلى مكان العمل؟ كيف ستشعر لو قالوا لك" أنت لا تفهم كم هو متعب أن تكون موظفاً؟"
الآن تخيل العكس. أنت الموظف الوحيد بين أصدقائك. لا أحد ينكر أنك محظوظ بالوظيفة، لكن كيف تشرح لهم أن الوظيفة تأتي بمجموعتها الخاصة من التعب والمعوقات؟ وأن تذمرك منها لا يعني أنك لا تريدها وإنما تريد لوضعك أن يتحسن أكثر؟
تخيل حياة لا تجد فيها من يفهمك فقط لأنهم لم يمروا بما مررت به؟
إذا واصلت القراءة حتى هذا الجزء فدعني أطرح عليك السؤال الذي دفعني للتفكير بموضوع التجربة. وهو السبب وراء كتابة هذه التدوينة الطويلة: كيف نتعامل مع من لم يجرب حتى الآن؟ فكّر في التجارب التي سيمر بها كل البشر لامحالة. كتجربة فقد الوالدين مثلاً (حفظ الله الأحياء منهم ورحم المتوفين)..
هل يجب على من جرّب أن يحمي من لم يجرب كأب يحمي طفله من حقائق الحياة المؤلمة؟ هل يدعه يستمتع قليلاً ببراءته؟ أم يخبره بكل شيء ليهيئه لكل الألم الذي ينتظره؟ ولماذا يتحمل المجرب عبء التوعية؟
تدفعك التجارب لتقييم علاقاتك مع من حولك. فيبدو الأمر وكأن الناس مشاركون في سباق حواجز. يقفز بعضهم بكل رشاقة، وبعضهم يحاول مرة واثنين وثلاثة حتى ينجح، بينما لا يبذل آخرون حتى عناء المحاولة. الفائز الحقيقي في هذا السباق هو من لا يمانع أن يبقى في المنطقة المشتركة بينما تطلعه أنت، من جرّب، كيف تبدو الحياة في منطقة من جربوا. الفائز الحقيقي لا يهمه المشهد ولكن يهمه ما تراه أنت.
ماذا تفعل بالخاسرين والمنسحبين؟ ماذا تفعل بالصديق الذي لا يعرف الألم الذي تعرفه؟ كيف تشرح له، عندما يردد بكل سذاجة " أعرف صعوبة ما تمر به الآن"، دون أن تكب عليها سيلاً عارماً من اللعنات؟
ماذا تفعل بالناس الذين يتجنبونك؟ بمن توقفوا عن السؤال عنك وكأنهم خائفون من عدوى تصيبهم؟ هل تعذرهم لأن ثقل مشاهدة التجربة أكبر من أن يتحملوه؟ كيف تقدم لهم الدعم في وقت أحوج ما تكون فيه أنت إلى الدعم؟ كيف تبقى قوياً في وجه السوء الذي تعيشه دون أن تفقد انسانيتك ولطفك تجاه الآخرين؟ والسؤال الأهم كيف تكافئ الفائزين؟ كيف تعبر عن القلة الذين سمحوا لك بالحديث عن التجربة دون تنظيرات؟ بأولئك الذين لم يهربوا من مواجهة كل المشاعر التي تحملها معك؟
لاحظ أنني أتحدث عن الألم، وعن التجارب السيئة، لأنه أمر يصعب الحديث عنه غالباً. ولأن المعرفة تحمل معها مرارة عن واقع الحياة وعن اختلاطها بالألم كجزء أصيل منها.
هل إنتقل إليكم الشعور بالحيرة؟