بالنسبة للمحلل النفسي آدم فيليبس، الأربعاء هو اليوم المخصص للكتابة. في الطريق إلى مكتبه، تشغله فكرة ما فيختار أن تكون الكتابة طريقته في التفكير بها. يبدأ دون أن تكون لديه وجهة محددة، يسير حيثما تقوده سلسلة أفكاره، ويتوقف متى ما شعر أنه ليس لديه ما يضيفه. فهو يكتب أحياناً أربعة آلاف كلمة وأحياناً يصل العدد إلى ستة الآف. ومتى ما تكْون رابط بين المقالات التي كتبها يقوم بنشرها في كتاب. يذكر فيليبس مراراً أنه يفضل أن تُعامل كتبه معاملة الأدب أكثر من اعتبارها كتب علمية يستفاد منها في مجاله.


يثير دهشتي هذا التشابه بين فعل الكتابة عند ادم فيليبس وبين التحليل النفسي. تبدأ الكتابة بمسودة يكتب فيها صاحبها كل ما يريد ثم يقرر لاحقاً الأجزاء التي تستحق أن تبقى وتلك التي يجب حذفها. وبدأ التحليل النفسي كعلاج يتحدث فيه المريض بكل ما يجول في خلده مع محاولة تعطيل الرقيب الداخلي الذي يتحكم عادة فيما نود أن نقول. ولأن التحليل النفسي هو العلاج بالكلام كان لزاماً أن نعي أثر كلماتنا والطريقة التي نعبر بها.


كتب آدم فيليبس سيرة عن فرويد يتحدث فيها عن ازدواجيته في التعامل مع السير الذاتية أكثر من تحدثه عن فرويد نفسه. ففرويد كتب في رسالة لخطيبته وهو في عمر الثلاثين، وقبل أن يحقق أي إنجازات تذكر، أنه تخلص من كل ملاحظاته الشخصية ورسائله. فعل هذا حتى لا يجعل من كتابة سيرته مهمة سهلة. كيف تنبأ فرويد بأنه ستكون هناك محاولات عدة لكتابة سيرته؟ ولماذا هذا التحامل ضد كتّاب السير؟


لم تكن فكرة كتابة سيرة عن فرويد حاضرة لدى فيليبس وإنما اُقترحت عليه. كان آدم محرراً لترجمة جديدة لفرويد من الألمانية إلى الانجليزية. ترجمة آثارت سخط الكثيرين لأنها تمت بطريقة غير اعتيادية. فقد اختار آدم عشرة مترجمين ليس من بينهم محلل نفسي واحد لترجمة ستة عشر مجلداً من كتابات فرويد. فهو لم يختار ترجمة الأعمال الكاملة إذاً، واختار مترجمين من خارج المجال لأنه يرى أن التحليل النفسي يستحق أن يُكتب بلغة يفهمها الجميع. تتحدث سيرة فرويد عن آدم كما تتحدث عن فرويد. ادم الذي يفضل أن تقرأ كتبه كأدب أراد أن يفعل المثل بكتب فرويد.


بدأ ادم كتابه بجملة: قصة فرويد هي قصة سهلة الرواية. ثم قدم في ثلاث صفحات فقط كل الأحداث المهمة في حياة فرويد مرتبة ترتيباً زمنياً. وهو بهذا يمهد للقارئ أن الكتاب لن يهتم بالأحداث. فالسؤال هنا ماذا يود كاتب لسيرة فرويد أن يقول إذا لم يكن مهتماً بالأحداث؟ وكتابه الذي يقع في أقل من مئتين صفحة لم يقدم سيرة كاملة لفرويد. ففيليبس توقف عند العام ١٩٠٦ميلادي عندما كان فرويد في الخمسينات من عمره. وهناك فصل كامل من الكتاب يتحدث عن ماذا سيكون عليه التحليل النفسي لو أن فرويد مات في هذا العام. لكن فرويد لم يمت إلا بعد أن بلغ الثالثة والثامنون.


يشرح آدم أن التحليل النفسي، مشروع فرويد، جاء ليكون القصة التي تُحكى بها القصص. لاحظ فرويد أن الأعراض التي يعاني منها مرضاه هي قصص معلقة، قصص لا يمكن للفرد أن يحكيها، فاحتلت الأعراض مكان الكلمات. فقام فرويد بابتكار طريقة جديدة للتعبير سماها التداعي الحر، يعطي فيها الفرد فرصة ليسرد تاريخه الشخصي كما يراه هو. كانت القصة التي يرويها المريض لفرويد محاولة للتحكم بالألم وسبباً للمعاناة.


يعتقد آدم بأننا لن نعرف حقاً ما الذي يزعج فرويد في السير لكن هذا لم يمنعه من محاولات التخمين. تحدث فيليبس في كتابه عن السير كما يراها فرويد، قصص مقيدة بالأكاذيب والخبايا وسوء الفهم. وتحدث أيضاً كيف يفكر فرويد في نقاط التقاء السير الذاتية بالتحليل النفسي ونقاط تفرقهما. ففي حين كانت كتابة السير رواية لتاريخ الانسان بالنيابة، بحيث يروي الكاتب ما يظن أنه صحيح عن الشخصية، فإن التحليل النفسي فرصة للبشر بأن يرووا تاريخهم بأنفسهم. وإذا كانت السير قصص ناقصة في أفضل الأحوال فهي غير حقيقة ولا دقيقة في أسوأها. بينما يعطي التحليل النفسي صوتاًللأفكار الخفية داخل المريض، ويستطيع المحلل النفسي أن يتثبت عن الحقائق التي يرويها مريضه فيسلم من سوء الفهم. كان فرويد مناصراً للخصوصية. فبينما كانت السير عرضاً للحياة الشخصية على الملأ، كان التحليل النفسي ملجأً لها.


يتساءل فيليبس عن حقيقة القصة التي يرويها المريض عن نفسه. ففي حين نميل إلى البساطة في رواية قصصنا، يميل التحليل إلى تعقيدها. فيضيف إليها أحلامنا ومخاوفنا وأمنياتنا وما نجتهد لإخفائه من ماضينا. يبدو أحياناً وكأننا نختار أن نحكي نسختنا المفضلة من القصة، تلك النسخة المحاطة بالأمنيات أكثر من الحقائق. حيث يدفعنا الخوف لحجب أجزاء من قصتنا فنظن أنها غير موجودة أصلاً. ويتطلب الأمر شخصاً صبوراً ليرافقنا في رحلة تسليط الضوء على هذه البقع المظلمة وليلفت انتباهنا للظلال التي تلقيها على بقعنا المضيئة.


ما الذي نبحث عنه عند قراءتنا للسير؟ ماذا تخفي هذه الحاجة الملحة لمعرفة أنفسنا والآخرين؟

لو كان التحليل النفسي قاموساً للمخاوف كما يقول آدم فيليبس، فإن عمل المحلل النفسي هو أن يساعدنا لنتحرر من هذه الرغبة في المعرفة. يزعم فيليبس أننا عندما نتحدث عن معرفة ذواتنا فإننا نقصد الحديث عن حاجاتنا ورغباتنا وكيفية الحصول عليها. وأننا نعرف أحياناً أن هناك أمراً ما ينقص حياتنا دون أن نعرف ماهية هذا الأمر. بل يبدو أحياناً أننا نعلم عن التجارب التي لم نمر بها أكثر من تلك التي جربناها بالفعل. ولهذا السبب فإن أكثر تجارب الحياة تأثيراً علينا هي تلك التي تسلب منا ما نعرفه عن أنفسنا. فيليبس الذي يحب دوماً أن يجعل التحليل النفسي موازياً للأدب، يقول أن جلسات التحليل النفسي تجعل من تاريخ الفرد مقالاً بدلاً من رواية. بحيث تتسكع المواضيع فيها دون الحاجة لبداية أو نهاية ولا حتى رابط واضح يجمعها.


كانت كتابة سيرة عن فرويد هي طريقة آدم فليبيس في التفكير بالسير الذاتية. وفي تأمل نشأة التحليل النفسي الذي بدأ بكتابات فرويد عن مرضاه كقصص قصيرة يشرح فيها نظرياته عن هذه الطريقة الجديدة للعلاج.


Join