الوجه الآخر للروتين
يبدو الروتين باهتاً في النظرة الأولى. عديم النكهة كقطعة بيتزا يعاد تسخينها. لا تكاد تُذكر سيرته إلا تجهمت وجوه الناس وشرع كلٌ منهم في ذكر مساوئه. وجوده يعني غياب الحياة فنحاول دائماً إيجاد طرق فعّالة لكسره. هذه السطور محاولة للدفاع عنه. سأحاول أن أميل بكفة الميزان قليلاً وأمنحه ما يستحق من التقدير. سأحاول توجيهك إلى بقعة عمياء في رؤيتك. هناك، حيث توجد صورة مختلفة تماماً عن الروتين الذي تعرفه.
يعود أصل كلمة روتين للكلمة الفرنسية ( route )وتعني الطريق. الروتين هو طريقنا نحو أيام مدهشة لا يزورها الملل. نهتم بالوجهة ونعتبر أي تأخير في الوصول إليها فشلاً يُسجل باسم الطريق.
تستيقظ صباحاً، ترتب سريرك، تستعد للخروج من منزلك. تسلك نفس الطريق كل يوم. تمر بنفس المعالم، تقابل نفس الوجوه. تظن أنهم أجزاء منك لفرط اعتيادك عليها. تقطع وعوداً على نفسك بأن تجد وسيلة لقتل هذا الروتين قبل أن يقتلك. ثم يحدث تغيير بسيط؛ مهمة جديدة عليك إنجازها، زميل جديد في العمل، أو تحويلة تجبرك على قطع مسافة أطول لوجهتك. فيتعكر مزاجك ويدب في خلاياك قلق غير مبرر. تشعر بحاجتك إلى الرجوع بالزمن إلى الوراء، إلى بدء اليوم بنفس الطريقة التي تعودت عليها.
في محاولاتك للسيطرة على عالم لا يمكن التحكم به يصبح الروتين صديقاً مخلصاً. فهو يوفر لك قدراً لا يستهان به من الراحة والأمان. يقلل من حجم الفوضى في حياتك. ويساعدك على قضاء يومك بالحد الأدنى من الضغوطات. فيحفظ لك طاقتك وإنتاجيتك في عالم يتسابق على جذب انتباهك وتشتيتك. أسوء ما قد يحدث في يوم روتيني هو أن لا تحصل على قهوة جيدة. يمر اليوم بنفس الوتيرة فلا مفاجآت تنتظرك ولا مجهول يحدق للإطاحة بك.
بالروتين وحده تجد متسعاً لتفكر وتحلم وتتأمل. في أدائك لأعمالك الروتينية تتنزل عليك الحلول والأفكار كوحي. تركب السيارة عائداً للمنزل فلا تصل إلا وقد وضعت النسخة الأولى لتقديم مشروعك القادم. تبدأ بغسل الأطباق فتسرح بخيالك بعيداً مخترقاً حدود الزمان والمكان. هناك علاقة طردية بين عدد الملابس التي قمت بكيها والأفكار التي تنتهي بقصة قصيرة جاهزة للنشر.
تخيل حياة تقوم بفعل كل شيء وكأنك تقوم به للمرة الأولى، حياة تحتاج فيها الى التركيز الدائم طوال الوقت، ألا يبدو هذا مرهقاً؟ كيف تكتسب الخبرة في عالم كهذا؟ جرب شرح تفاصيل عملك اليومي إلى شخص يجهله وستعلم حجم المعرفة التي تمتلكها. لن يكون بمقدورك أن تصل إلى هذه المعرفة دون أن تقوم بنفس العمل مئات المرات. نحن نتعلم بالروتين كما يتعلم الطفل المشي بتكرار خطواته. يضع قدماً أمام أخرى فيصل إلى حيث يريد.
ماذا ستفعل لو علمت أنك ستعيش لأربع وعشرين ساعة فقط؟
تكاد تجد هذا السؤال في كل كتب تطوير الذات وورش التفكير الإبداعي. يتفنن الناس بالإجابة على هذا السؤال الأزلي فيعدون قائمة بكل ما هو ممنوع. قائمة مليئة بمغامرات لم يرغبوا يوماً بتنفيذها لكن يبدو وجودها مثيراً. أغلب الظن أنهم سيقضون يومهم الأخير بنفس الطريقة المعتادة. ويسهل التكهن بالأسباب.
الروتين طريقك للخروج من نفق الأيام المظلمة. وخط دفاعك الأول في مواجهة الأيام التي تحاول فيها الحياة أن تكسرك. في أيام الفقد الأولى، وقبل أن يستوعب عقلك حجم الخسارة التي تعرضت لها، تتوقف عن روتينك المعتاد. يصبح الأكل والنوم والكلام ،فضلاً عن العمل، مهام شاقة لا تعلم جدوى أداءها. وحده الروتين يساهم في التخفيف عنك. تعود لفعل هذه الأمور من باب الاعتياد أو رغبة في العودة للشعور القديم بالأمان قبل أن تحل بك المصيبة. تقوم بأمورك الروتينية؛ تأكل، تنام وتتحدث مع الناس فيبدو كل شيء طبيعياً. تفعل كل هذا في انتظار استجابة كيميائك الداخلية للتغيير الجديد.
الأيام الروتينية هي المحصلة النهائية لحياتنا. فالأصل أن تكون الأيام الاستثنائية معدودة. تسعد بها لفترة قصيرة ثم تعود بعدها لترتمي في حضن روتينك الدافئ. فيستقبلك كصديق جيد لا يعرف اللوم. قد تكون الحياة بضع نهايات أسبوعية فاتنة تمكنك من تحمل رتابة نهايات أسبوعية عديدة ليس فيها سوى شياطين صغيرة لا تعرف سوى الصراخ، وبالغين يناقشون نفس المواضيع كل مرة ويختلف الجميع على مسألة اختيار العشاء المناسب.
الأمر الثابت هو أن الروتين سيتغير. عاجلاً أو آجلاً سيتغير. وستتغير أنت ويصبح ما كان روتينياً بالنسبة لك، أمراً غريبا تحن إليه. حنين مبهم لشيء لم تحبه يوماً ولا ترغب في العودة إليه لكنك قضيت عمراً كامل تكرره. لا أملك وصفاً لهذا الشعور سوى الحنين. ستنفث على يسارك وستشكك في قواك العقلية لكنك ستحن.
هذه التدوينة ليست دعوة إلى حب الروتين، ولا إلى إتباع روتين المشاهير والمبدعين لتصبح ناجحاً مثلهم. إن شئت فافعل. وهي قطعاً ليست محاولة للتطبيل أو إنكار جوانب الروتين السيئة. أعلم ان السبيل الوحيد للحصول على الدهشة هو أن تكسر استقرار روتينك. وأعلم أيضاً أن ثمن التجربة الجديدة هو غياب الأمن. وإنما هي دعوة للتأمل في دور الروتين في حياتنا. وللنظر بعدسة جديدة لكل الرتابة التي تحيط بنا.