التوعية..الشماعة التي لم تعد تحتمل
يتصدر المحتوى النفسي قائمة ما ينشر من تغريدات في تويتر. ولا يكاد يخلو التايملاين في أي ساعة من اليوم من مصطلحات مثل الصحة النفسية، الايجابية، الوعي وفهم الذات. يقدم هذا المحتوى ثلاث فئات: فئة المختصين من أطباء ومعالجين نفسيين، فئة المهتمين بالقراءة عن العلوم النفسية، والفئة الثالثة حسابات المراكز والعيادات النفسية التي تروج لخدماتها. تناقش هذه التدوينة المحتوى المقدم من الفئة الأولى حصراً. وتحاول أن تفتح مساحات للتفكير والتحسين. لأن أصحاب المهنة يقع عليهم عبئ تحري الدقة والالتزام بأخلاقيات المهنة أكثر من غيرهم.
هناك نقاط مهمة أود توضيحها قبل أن أبدأ درءاً لسوء الفهم:
أولاً: استخدمت في تدوينتي مصطلحي المختص النفسي والمعالج النفسي بالتبادل. وقصدت بها جميع من يقدم خدمة نفسية سواء طبيب نفسي أو من يملك درجة علمية في علم النفس بفروعه المختلفة.
ثانياً: جميع الأمثلة والاقتباسات التي سأذكرها من أشخاص عرّفوا عن أنفسهم بمختصين نفسيين في بايو تويتر.
ثالثاً: نقدي للمحتوى النفسي هنا ليس تعميم للسوء على الجميع. ولا افتراض سوء نية من يرتكب هذه التجاوزات. لكن ما دفعني لكتابة هذه التدوينة هو ارتفاع نغمة الاستاذية في الخطاب النفسي، وإعطاء بعض المختصين لأنفسهم سلطة علمية مطلقة لتفسير وحل كل مشاكل الحياة. هذه التدوينة نابعة من رغبتي في فتح باب النقد الإصلاحي لما يمر علينا من محتوى نفسي في تويتر.
رابعاً: لست مختصة نفسية، ولا أملك عيادة خاصة، وليس لدي حروب شخصية ولا حسابات لتصفيتها.
يقابل كل سبب يدفع بكتابة محتوى نفسي افتراض في ذهن المختص. فمن يرى معاناة مرضاه من الوصمة داخل العيادة يظن أن كثرة الحديث عن الجوانب النفسية في تويتر يقلل من الوصمة ويطبع الحديث عنها. ومن يرى أن التوعية تزيد من فهم الناس للأمراض والاضطرابات النفسية يظن أن الناس تحتاج هذه التوعية أولاً. وأنه أهل لتقديمها ثانياً. أما من يرى أنه يدفع زكاة علمه، فهو يفترض أن مجموعة تغريدات في تويتر طريقة مناسبة للتزكية. ومن يكتب ليسوق لعيادته أو لنفسه يرى أن تويتر وسيلة تسويق جيدة. لست ضد أي سبب من هذه الأسباب، ولا أراها أسباب سيئة للكتابة في تويتر. لكن هناك تجاوزات كثيرة تترك الواحد حائراً في الأسباب والأهداف لهذه التغريدات. سألخص بعضاً من هذه التجاوزات هنا وأدعو الجميع للتفكير والتساؤل معي.
ثريد أوليفر تويست:
" ثلاث علامات تدل على إصابة الشخص بالاحتراق النفسي"
" ١٥ اسلوباً للعلاج بالتعرض"
" ٨ طرق للتعامل مع نوبات الهلع"
سلاسل طويلة من التغريدات التي تفرق بين أنواع القلق. وأخرى تعدد اضطرابات الشخصية وكيفية علاجها. مجموعة من المعلومات العامة جداً لمشاكل هائلة التعقيد. مع تكرار المطالبة بالرتويت والتفضيل والمشاركة مع الأحبة والأصدقاء.
يفتقر هذا النوع من التوعية للدقة غالباً. ويخلط بين المعلومة العلمية والتجربة الشخصية والخطاب النفسي العام الذي يفضله قراء تويتر. وهو بهذا يشبه عشاء أوليفر تويست، الطفل اليتيم في رواية تشارلز ديكنز الشهيرة، وجبة خالية من أي قيمة غذائية ولا تسد جوع أحد.
تتنوع الأساليب الكتابية التي يستخدمها المختصون النفسانيون في تويتر. يكتب أحدهم بلغة بسيطة سطحية وكأنه يخاطب مجموعة من الأغبياء، ويكتب آخر بأسلوب سيدة عجوز توبخ أحفادها الأشقياء، وآخر يستخدم اسلوب أضاعوني وأي فتىً أضاعوا. أو قد يكون لدى المختص فكرة جيدة لكنه يفشل في اختيار المفردات المناسبة لصياغتها ويعوض هذا النقص باستخدام مفرط للرموز والايموجي. ولأن كثير من المحتوى النفسي المقدم قائم على ترجمة المحتوى النفسي الأجنبي، نجد تشوهاً ملحوظاً في الصياغة. كالإصرار على استخدام المفردة القبيحة ( شريك) عند الحديث عن العلاقات الزوجية. أو استخدام مصطلحات دارجة مترجمة فارغة من أي معنى مثل علامات حمراء وخضراء، علاقات سامة، تشافي وغيرها.
اطلب نصيحة واحصل على الأخرى مجاناً:
يبحث الناس منذ بدء التاريخ عن أجوبة لأسئلة الحياة الكبرى. كانت مصادر الأجوبة تأتي من الدين والأسرة والمجتمع، ثم أصبحت كتب تطوير الذات والمدرب المعتمد والمعالج النفسي مصادر إضافية للحصول على الأجوبة. تقديس العلوم النفسية له أسبابه الكثيرة. ومن أن أراد أن يتوسع في فهم الأسباب والتداعيات فعليه بقراءة كتاب معنى الحياة في العالم الحديث لعبدالله الوهيبي وخاصة الفصل الخامس منه. أنا لا أحمّل المسؤولية للمختصين النفسانيين بالطبع، لكنهم، شاءوا أم أبوا، نجوم المرحلة الحالية. فأراءهم لها وزنها بين الناس، وتقدم على أنها معرفة كاملة لا يشوبها خطأ. كما أن الظهور بمظهر حكيم الزمان مغري ويدفع الشخص إلى الفتيا في كل المجالات. راجع مختص هي الترنيمة الأشهر في تويتر. يقولها المعالج النفسي وهو يعلق على فيديو مثير للجدل، وتتردد في معظم أجوبة الاستشارات، وقد تستخدم كشتيمة أحياناً.
" اختاروا أشخاص على مقاسكم من نفس مستواكم العاطفي"
" إذا بكينا أو ضحكنا فالحياة ستظل هي الحياة، فعلينا أن نختار"
" تبغى (تنكب) عمرك خذ نصيحة تخص علاقتك مع زوجتك من صديقك!
تبغين (تنكبين) عمرك خوذي نصيحة تخص علاقتك مع زوجك من صديقتك! "
" لماذا أنت عالق في الماضي؟
- لأنك تعودت من مراحل مبكرة في حياتك إن الانتقام عدالة وراحة نفسية!
- لإن الألم النفسي الذي تعرضت له يمنعك تماما من التركيز في الحاضر وأصبحت مدمنا على التحسر على نفسك!
- لأنك لم تحصل على مساعدة نفسية للخروج من ما أنت عليه!"
" إياك أن تحزن، لأنه لن يشعر بك إلا صحتك. سوف تتلف أعصابك وتتعب قلبك."
"تخيل أنك جالس بالبيت منذ زواجك بسن ٢٠. وزوجتك هي التي تعمل، وأنت ترعى الأطفال.
ليس لديك دخل ولا وظيفة ولا مهارات. علاقتكم مبنية على الثقة. بعد ٣٠ سنة صار خلاف وتطلقتوا. وطلعتك من البيت.
وش شعورك؟
من العدل مشاركة الحياة والمُلكيّات! إذا (اخترتوا) إن شخص يعمل وشخص يجلس للأطفال"
تؤدي مثل هذه النصائح لمشاكل كثيرة. منها مثلاً عدم وضوح المقصود. هل مستوانا العاطفي ثابت حتى نبحث عن مقاس يناسبه طول الوقت؟ وما المقصود بالمستوى العاطفي؟ وبعض هذه النصائح مستحيلة التطبيق وغير واقعية. كيف نستطيع منع أنفسنا من الحزن؟ وأي نوع من الحياة سنعيش لو فعلنا هذا أصلاً؟ ثم يأتي السؤال المهم هل هذه نصائح شخصية نابعة من تجربة المختص النفسي وما يؤمن به أم نصائح بناها نتيجة لدراسته وخبرته العلمية؟
أنا لا أصادر حق المختص النفسي في كتابة أراءه. لكن أريده أن يدرك صعوبة الفصل بين الشخصي والمهني في حسابات تويتر. ولا ننسى أن بعض المختصين يجمع تغريداته في كتاب، أو يقدم على أساسها دورات تدريبية، وربما دشن تطبيقاً باشتراكات شهرية.
كيف يمكن لشخص واحد أن يكون خبيراً في كشف أغوار النفس البشرية وتعزيز العلاقات الأسرية واتخاذ القرارات الاقتصادية والوظيفية؟
التشخيص بطريقة الاختيار من متعدد:
يكتب بعض المختصين قصة قصيرة خيالية، يذكر فيها اسم الشخص وعمره وبعض الأعراض التي لديه ثم يسأل متابعيه أن يختاروا التشخيص الصحيح. فتختلط ردود المختصين على قصته بردود بقية الناس ممن يجاوب دون علم. بعد يوم أو يومين، يكتب المختص، راوي القصة، مجموعة من التغريدات تشخص الحالة وتعدد طرق العلاج. وسؤالي هنا لو كانت الفئة المستهدفة من كتابة القصة هم الطلبة والمعالجين المتدربين فماهي الدروس التي تريد إيصالها لهم أيها المختص؟ أن التشخيص عملية سريعة وسهلة؟ أن تجربة المريض ليست مهمة ولا فرق بين مرضى الاضطراب الواحد؟ أن يقوم طلابك بتكرار سلوكك وتعليم الناس بهذه الطريقة السطحية؟ ولو كان الهدف منها نشر الثقافة النفسية لعامة الناس فلمَ تسأل عن التشخيص؟ ولماذا تذكر احصائيات الردود والتفاعل وهو ظاهر للجميع وبإمكانهم معرفته؟ هل من الثقافة العامة أن يتعامل الجميع مع التشخيص كلعبة اجتماعية يمارسونها يومياً؟
أريد من المختص النفسي الذي يعرف عن نفسه بأنه مهتم بنشر التوعية النفسية أن يتوقف قليلاً ويسأل نفسه لماذا أكتب؟ ما المغري في هذا التصدر للتوعية؟ نعم أنت محب للخير ولنشر الفائدة لكن ماذا أيضاً؟
خرق خصوصيات المرضى
تأتينا من " قلب العيادة" حكايات البطل المغوار. المختص الفذ الذي يطرد الأعراض في زيارتين، وتبهر نتائجه “
الإيجابية مشرفيه وطلابه، المعالج الذي يجعل المريض يردد " ليتني اختصرت الوقت وجيتك من الأول"
بلينا في تويتر بمعالجين نفسيين لا يعرفون عن احترام خصوصية المريض سوى إخفاء اسمه. فيتم ذكر حكايات العيادة للتسلية والموعظة واستعراض العضلات. يكتب تغريدة عن مريضه الذي زاره اليوم، والتشخيص الذي حصل عليه، والحوار الذي دار بينهما، ويصور ورقة العمل التي نفذها المريض أثناء الجلسة. ثم يقول لنا أن الهدف من النشر هو التوعية وأنه حاصل على رضى المريض بالنشر. وهنا جملة من التجاوزات لا تخفى على من يملك بصيرة. فالمختص يظهر باسمه وصورته في تويتر، ويذكر في البايو مدينته ومكان عمله. كل هذه المعلومات تسهل من معرفة هوية المريض حتى دون ذكر اسمه. كما أن التصريح بطلب الموافقة من المريض أو حتى الطلب المسبق قبل بدء العلاج يدل على أن أولويات المعالج مضروبة وأنه لا يفهم المزالق الأخلاقية التي تنطوي عليه. أليس المعالج مسؤولاً عن صحة المريض النفسية؟ ماذا سيفعل في حال وصلته ردود مسيئة واطلع عليها مريضه ثم تأثر سلباً بها؟
لنفرض أن مريضاً فتح حساباً في تويتر بهوية مجهولة. وخصص الحساب لنشر ما يدور بينه وبين المختص في الجلسات العلاجية. ثم قرأت أيها المختص جملة تضمنها الحوار المنشور وشككت بأنك قائلها. كيف ستتعامل مع مرضاك في الجلسات القادمة، ألن تشعر بالقلق؟ ألن تحرص على الكمال؟ ألن تشعر بضغط المراقبة من بقية الزملاء وهم يقيمون طريقتك العلاجية على الملأ؟ هل ستكون مقداماً وتفتح حواراً مع المريض داخل العيادة وأنت تعلم أن محتوى حواركم سينشر؟ ثم ماذا لو اتنشر المحتوى في كل مكان وشعر المريض التويتري بحاجته لمزيد من التفاعل وبدأ يكتب ما لم تقله، وأصبحت في نظر الجمهور المعالج السيئ الذي يضر ولا ينفع؟
رواية قصص المرضى في تويتر هي أقصر طريق للخسة. أما التحجج بأن الكتب والمنشورات العلمية تحتوي على قصص للمرضى وأن المهم هو فقط إخفاء هوياتهم فيدل على جهل كبير لدى المعالج وقصور في فهم أبجديات العلاج النفسي. وأحيل الجميع لقراءة ورقة المحلل النفسي Lewis Aron لمعرفة تعقيدات المسألة.
Aron, L. (2016). Ethical considerations in psychoanalytic writing revisited.
الجندي المحايد:
"تفهم نفسك وتبي النصيحة الصدق الخالية من الشخصنة استمع لمختص نفسي فقط ولا تصير حساس معه تأكد إن إلي يقدمه هو مهنته وحيادي تماما معك، لكن الغير متخصص يعتبر متطفل وكل حياته الناس."
تغريدة لشخص حاصل على بكالوريوس علم النفس قبل ثلاثة أشهر
هناك إيمان عجيب من بعض المختصين بقدرتهم على الحياد عند التعامل مع المرضى. فهم يرددون بقدرتهم على الانصات والتعاطف مع المريض وفهم الأمور من وجهة نظره دون أي صعوبات. ويتزامن الحديث عن حياد المختص بوصم آخر، غالباً أهل المريض وأصدقاءه، بالتطفل وإصدار الأحكام. هل يملك المختصون النفسانيون جيناً خاصاً للحياد يميزهم عن باقي البشر؟ هل ينخرطون في برامج تدريبية مذهلة في قدرتها على اكساب مهارة الحياد؟ ولماذا لا يتم تقديم هذه المادة العلمية لنا حتى يسود السلام بين الناس؟ ماهي الخلطة السحرية التي تجعلهم يمارسون الحياد المطلق وهم بشر بهويات وانتماءات ومذاهب تعرّف عنهم؟
ادعاء الحياد بهذا الشكل الأهوج يتجاهل وجود انحيازات لاموعية لدى المعالجين. ألا يفضل المعالج تطبيق نظريات مدرسة علاجية على أخرى؟ ألا يعتبر هذا تحيزاً؟ ألا يعبر المعالج عن رأيه للمريض فيما يتعلق بأهداف العلاج النفسي ومدته؟
من تداعيات هذا التصور المغلوط لحياد المختصين أنه يخلق تصورات غير واقعية عن المعالجين في ذهن المرضى. فيتحول المعالج إلى سوبرمان المنقذ. ويتجاهل حقيقة أن العلاقات الإنسانية داخل العيادة وخارجها قائمة على محاولات الفهم. وهي محاولات مستمرة لا نهاية لها لأن الحياد ليس محطة وصول. لن يبلغ معالج أو غيره، مهما امتلك من الحياد والمواجدة والتراحم أن يفهم آخر تمام الفهم.
يغيب حياد المختص عند تعامله مع المحتوى النفسي الأجنبي. فهو يؤمن به إيماناً خالياً من أي شك. ويتعامل معه كمرجعية علمية مستقلة عن الدين والآراء والأيدولوجيات. كما أنه يرى أن انتاج الغرب المعرفي صالح لكل زمان ومكان فلا نجد نقد علمي رصين إلا فيما ندر. والمخجل أن لا نجد أثر قيمنا وثقافتنا فيما يكتب. فتغيب نقاشات مكارم الأخلاق عند الحديث عن رسم الحدود مع الأبوين، وقطع العلاقة مع الشخص المؤذي، والتعامل مع الإساءة.
هناك تجاوزات أخرى لم أتحدث عنها لأني لست الشخص المؤهل للحديث. منها مثلاً طلب المختصين تقديم الاستشارات لأشخاص عبر الخاص، والطعن في النيات عند النقاش مع مختصين من مدارس علاجية أخرى، أو القول بتوسع الأطباء في صرف الأدوية النفسية وعدم أهليتهم لتقديم العلاج النفسي. وأرجو أن يتصدر مختص من داخل المجال النفسي للحديث عن هذه الأمور.
أرحب بكل الأصوات الناقدة الأخرى التي تشاركني أو تخالفني الرأي.