حين أبدى جارودي في كتابه (نداء إلى الأحياء) قدسية العمل ابتداءً من الإنسان الأفريقي وترانيمه في جميع أنشطته ووظائفه (في كتاب الموتى) .. سعيًا من الإنسان إلى كسر حدود هذه الحياة التي تنتهي إلى الفناء والموت، وكون التحامه بالعمل فإنه بذلك يدخل في شجرة النّماء والتطوّر الخالدة، فيخلد، والخلود هنا ... عيشٌ بكرامة وبركة تحل عليه وسلام.

لذلك فإن أهل الحضارات خُلِّدوا بمنجزاتهم وأعمالهم، ولما كان لهذا العمل هذه الطاقة القدسية كانت ممارسة العمل عبادة وتقرّب، والصالح يكون أهلًا للاحتفاء والاستشفاع..

(دلمون) البلاد المقدّسة والجنّة الحيّة؛ عُرفت بأختامها، وهي شاخص مبين على هذه الرؤية..
فإن الإتقان الواضح في رسم أختامٍ بحجم بنانة الإصبع وبترتيب وترميز وتوزيع للعناصر يشكل تحفة فنية رائعة، نجد فيها ما يرمز للعمّال من بحّارة وملّاحين وصيادين وعاملين في الحقول وحرّاس معابد.. إلخ
وكان طقس الكتابة في دلمون طقسًا دينيًّا لا يقوم به إلا حرّاس معبد أنزاك إله الكتابة، لذلك فإن العمل على الختم بحد ذاته مقدّسًا وطقسًا دينيًّا يتقرب به إلى الإله، فيحدث التحام الفاني بالخالد وهي حالة قربانية، وعلى رؤية الأستاذ أبوعلي وتأويله للأختام فإن الأختام تشير إلى اسم رجل صالح حكيم قاصدةً الاستشفاع به فيعلّق على الأكتاف أو الجباه -وهو ايضا التحام بالخالد ليشكل قرباناً- ليحل بذلك الكرامة والبركة والسلام على حامله.
فنحن إذن أمام شجرة متصلة ومتفرعة من القربانية..

جاءت كلمة أنليل آيةً واضحة على حياة البلاد والبركة على جميع الأشياء، فكانت الكلمة هي النباتات (الجنّات) وكانت الثمرات (الأعناب) وكانت هي الفيض (العيون) وما كانت هذه الكرامة لتحل لولا قدسية شعوبها للعمل.

أما ما عرضه جارودي في زرادشت فإن هذا القربان يأخذ صورة في داخل كل إنسان، فإن العمل الذي يقاوم فيه حدوده في الخارج هو ينعكس إلى داخله فيصارع فيه رغباته ونزواته فيرسم هذا الشيء قربانه ليتم خلاصه وتحل عليه البركة والسلام والنورانية.

وهنا .. كما أن كلمة إنليل طرحت البركة على الأرض، فالروح لها كلمة تحيها ..

Join