قراءة إنطباعية
اعتاد العرب على ذكر المعشوقة في حالتها الأولى، وتصوّرها في كل لحظاتها الآنية، وتخيّلها في غيبتها وحضورها، وقربها وبعدها، وخلوتها وسفرها، ويبقى في تطوافه معها يصورها بكل ما فيها من جمال أخّاذ وبهاء وتجليل، يبالغ في وصف عشقه حتى لايبالي بنعته بالمجنون، يندر بل يمتنع أن نجد من يتعلق بالمعشوقة في كل تاريخها منذ أن كانت نطفة حتى فطامها، ويستأنس بذكر أحوالها في طفولتها وصباها، ذلك أن العشق جذبة روحية في حزّتها، تأسره بما وصلت إليه من كمال، فيجبّ ماقبلها من أحوال، ويشطر الحال إلى شطرين.
كانت رواية (سِفر القهوة) -كما هي شاكلتي- على الطرف الآخر من قصص العشق، قصّة بدأت قبل ولادتها، وانتهت في أوج مجدها.
جذبت العشّاق ليصحوا بدل أن يرافقهم الجنون. ويثوروا عوض أن يأخذهم الوجد بوحدتهم، وينتشروا في بقاع العالم.
أخذت القهوة تروي لنا حكايتها الأسطورية في شكلها والواقعية في حظّها، منذ محطتها الأولى في جيب العيدروس، إلى محاصيلها المنتشرة في كافة أقطار الكرة الأرضية، متنقّلة من محطة مكانية إلى أخرى كمراحل تكوين البطل، وتحدياته، في كل محطة تُصقل شخصيتها أكثر وتزيد من خبرتها، وتقوى شوكتها في من يريد بها السوء.
رافقت القهوة تاريخ الإنسان منذ حياته البدائية البسيطة حتى دولِه المتقدمة والمعقدة ، وبكل صراعاته ونزعاته وأهوائه وسياساته.
رفقة غنيّة بالتجربة ومليئة بالتعقيد.
سعت قصة القهوة في تاريخ الإنسان إلى توضيح أهم متغيرات ومحركات التاريخ، منذ اكتشافها بمحض التجارب والمحاكاة والصدفة، والتي تعكس أصل التطور التقني للإنسان، إلى اشتراكها الميتافيزيقي في الطقوس والعبادات والذي يعكس التطور الروحي للإنسان، إلى الاستفادة منها ماديًّا وتقوية الجنبة الاقتصادية باحتكارها، حتى حضورها المرهف في المقاهي والاستراحات، وتقويتها الذهنية للفقهاء والأدباء والفلاسفة، وواجبها في تنشيط العساكر والجيوش، وأناقتها في ضيافة أهل السلاطين والملوك، حتى امبراطوريتها في ظل هيمنة رأس المال.
لذلك كانت الرواية سِفرًا تاريخيًّا يربط الزمان والمكان ويتداخل مع جينات الإنسان.
قراءة نقدية
وضع الراوي لرواية سفر القهوة عشر محطات مكانية، سعت فيها القهوة وانتقلت، بدءًا من أفريقيا في هرر وانتقالًا إلى اليمن وهجرةً إلى الجزيرة العربية وتركيا ثم فيينا وفرنسا ولندن حتى البراسيل ونهاية في أمريكا ووصولاً إلى باقي العالم، وكانت في كل محطة تصحب أناسًا وترافقهم في محنتها وتحديها الجديد في المنطقة حتى تستقر وتهيمن، فكانت لكل محطة قصتها الخاصة وأبطالها البارعين ويختفون بانتهاء المحطة، ظهور لحركة القهوة واختفاء بانتهاء المهمة، اتصال في الزمن والمكان التاريخي كشعلة المنديال، أو سباق الماراثون أبطال يسعون بجد لغاية مجد شيء آخر.
في كل محطة يناولنا الهدهد رسالة كتبت بلغة أشبه بالكتب القديمة المقدّسة، ويرمز الهدهد في الثقافة العربية إلى الرسول الأمين الذي ينبئنا عن خبر الأقوام البعيدة، استعارةً من قصّة نبي الله سليمان وخبر بلقيس الذي ألقاه الهدهد، رغم رمزية الهدهد العربية إلا أن له عمقًا صوفيًّا أكثر ففي رحلة الغربة الغربية للشهيد السهروردي كان للهدهد دوره منذ اللحظة الأولى في الرحلة (… جاءهما الهدهد فقال: إني قد أحطت بوجه خلاصكما، وجئتكما من سبأ بنبأ يقين، وألقى إليهما الهدهد رسالة جاء فيها: أنه من أبيكما الهادي، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم… ) ويبعث بالرسائل في كل محطة: ( وفي ليلةٍ قَمَرُها بدر، رأينا الهدهد يُطلّ من النافذة، ويلقي علينا التحيّة. كان يحمل في منقاره رسالة مخطوطة، موجَّهة من الجهة اليمنى للسهل المبارك، من عمق عوسجة. قال لنا الهدهد: عرفت كيف السبيل لإنقاذكم )، رغم أن رمزية الهدهد في كونه الرسول الأمين، إلا أن الصوفية عمّقوا هذا الرمز في تمثيله بالنفس الكلية والرسائل الإلهية التي يحملها السالك في سيره إلة الحق، ومبشّرا بالفتوحات والفيوضات، وملهمًا للنجاة والخلاص من المدلهمات والمخاطر عبة الرؤى والأحلام.
وهذا ما كان في فصول الرواية الأولى في رحلة العيدروس.
أخذت الرواية جانب ”الرواية التاريخية“ في جنسها الأدبي والذي يميل إلى التوصيف والتقرير للأحداث وابتعدت عن نمط ”التخيّل التاريخي“ الذي يتصرّف في الأحداث التاريخية ويقف في منطقة رمادية بين التاريخ والخيال.
وكانت لغلبة الجنبة الأولى تضحيتها الفنية، في إبطال الكثير من تقنيات السرد والحبكة والتشويق، رغم المحاولات والتي اتضحت في البدايات على أنها محاولات لجر القارئ نحو الأحداث عبر (الحب) في الفصل الأول، وبعض (الأسئلة الأخلاقية) في فصول أخرى، حتى انتهت إلى أقرب من كونها مقالات صحفية في الفصل الأخير.
ولهذه التضحية قيمتها في إعلاء قيمة الأخبار والأحداث الروائية من ناحية الصدق والحقيقة، وإطفاء شعلة الحماس والترقّب للنهايات عند القارئ.
تستوي الفصول شكليًّا -إلى حد كبير جدًا- وتتطابق في جميع المستويات، مستوى الحدث في طبقة واحدة، والشخصيات المصاحبة، واللغة المستخدمة في الحوارات، وحتى في التوصيف والتأثيث لعالم المحطة التي وصلت إليها.
وتتوزع في المحطات صفات شخصية البطل (القهوة)، معتمدًا اعتمادًا كليًّا على حضور الذهن للقارئ في تجميع الشخصية من محطة إلى أخرى، مع تدخّل بسيط للتوضيح في أواخر المحطات.
تتداخل في المحطة أصوات كثيرة، رسالة الهدهد في البدء وصوت الراوي القهوة الذي تارة ما يكون عليمًا بالأحداث وغالبًا ما ينتقي ما يظهره في قوله ويخفي ما يعلم، وأصوات المصاحبين للأبطال في حواراتهم وخلجاتهم، كلها نغمات متجانسة تعضد بعضها بعضًا ولا تشعر بالنفور أو التشتت في انتقال سماع الأصوات والانتباه لها جميعًا.
أم اللغة فيتضح أن غاية الراوي من خلال توحيد اللغة هي تبسيط قبول التاريخ بدون حمل كل محطة بثقل لغتها وثقافتها وليكون متناولاً للجميع بكل تنوعهم الثقافي والمعرفي وأذواقهم، لغة بيضاء بسيطة وقريبة إلى اللغة العصرية كما هي القهوة التي ترضي الجميع رغم اختلاف أجناسها وطرق تحضيرها.
ظهرت القهوة في بداية الرواية مصاحبة للقيم والأخلاق والمعرفة والنفع وجميع الصفات الحميدة بل كانت رفيقة الروح في سموها ومفارقتها للمادة، وتقلبت في المحطات والصفات حتى باتت سلعة بيد شياطين السوق في أمريكا، تعينهم على الشر، سجينة المادة والجسد بكل قساوة الجشع والاستبداد ووقفت هناك…
لكن الفصل الأخير في كفاح (جوليا) أعدل المائل في نهاية المطاف وأعاد تبليغ رسالة القهوة كما كانت رسالة روحيّة شريفة.
نهاية حقيقية لرواية ”سِفر القهوة“ وها قد صدق الهدهد.