عَلّمَنِيْ حُـــبّكِ أنْ أحْزَنْ
هناك ما يدعوني لأتناول نصاً لـ نزار قباني لأني أجد في نصوصه مدخلاً سلساً لطلّاب الجامعة في مجال التطبيقات النقدية وهذا يعود لعدّة عوامل في نصوصه منها:
- سهولة كلماتها وقُربها من الأذن الشعبية وموسيقاها الملتحمة معها.
فمن ناحية السهولة في الكلمات، فإن معجم نزار قباني بسيط جداً ومحدود أيضاً، تتكرر فيه الكلمات بكثرة، مبتعداً عن الألفاظ القديمة ومُكثراً من اللغة البيضاء واليومية، أما قربها من الأذن الشعبية، فكثير من تلك النصوص انتشرت بين الناس بسبب غنائها من قبل العديد من المغنين أشهرهم: كاظم الساهر، وهذا يعود أساساً إلى أنّ نصوص نزار هي في نفسها نصوصٌ غنائية، تلتحم فيه النغمة مع ألفاظه كما يريدها الشاعر أن تقرأ كأغنية.
- الذاتية الواضحة في قصائد نزار واشتراكها الوجداني في التجربة مع من هم في فئة طلبة الجامعة.
تعد الذاتية في النصوص من الأمور المهمة في التناول النقدي، والذاتية هو أن ينصبغ النص بشخص المؤلف، وتحاكي تجربته التي عاشها في حياته التي تلامس الوجدان العام لقرّاء النص وهذا الأمر هو ما يحوّل النصوص الشعرية إلى غنائية بشكلها العام وكما «أن أحد ردود الفعل الطبيعية التي تعترينا عقب قراءتنا لمقطوعة جيدة من الأدب يمكن أن يعبر عنه بالمسلّمة الآتية: هذا هو ما كنت أشعر به وأفكر فيه دائماً، ولكنني لم أكن قادراً على أن أصوغ هذا الإحساس في كلمات حتى إلى نفسي»(ألدوس هكسلي)، وثم إن مثل نصوص نزار التي تدور في فلك الحب والمرأة، هي أكثر الأمور الوجدانية التي تلامس بحرارة شديدة قلب فئة طلاب الجامعة لعوامل لا تخفى على أحد.
- قلة نزار في تعميق الرموز بل ندرتها في قصائده، والمباشرة في الفكرة.
أغلب النصوص الحديثة تحمل معها وزنها النقدي العميق من طريقة تناولها للأفكار وسكّها لترميزات مثقلة بالمعاني النفسية والفلسفية والفكرية والثقافية، كنصوص بدر شاكر السيّاب ونصوص أدونيس وغيرهم.
بينما نجد قرب نصوص نزار قباني من المباشرة في الفكرة، وندرة ترميزاته، وهذا ما يسهل تناولها لدى الطالب وتساعده على استخدام الأدوات النقدية وتحليل القصائد بشكل سلس.
- وضوح الشعرية في وحدات قصائده، وسهولة تناول محل الاضطراب والعلاج في كل وحدة.
تمتاز نصوص نزار قباني بأن لحظة انعطافاته في القصائد واضحة جداً ولمساته الشعرية سواء الصوتية أو المعنوية جليّة، ويمتاز نزار أيضاً بأنه يقيم اضطراباً بسيطاً وعلاجاً عاجلاً له في نصوصه مما يسهل وييسر تناول الطالب للشعرية حين تحليله للنص.
قبل البدء في تناول النص، لديّ رؤية حول طريقة نزار في الكتابة، تختلف عن رؤية علي العامر في إحدى منشوراته الفيسبوكية حين صرّح متهكماً :
«نزار قباني مازوخي» (العامر علي Facebook post: 1 سبتمبر، 2016 ).
ورؤيتي هي أن نزار هو أكبر شخصية نسوية عرفتها حركة الحقوق النسوية ( Feminism ) في المجتمعات العربية، ذلك لأن بطريقته في توصيف المرأة والجسد وهيمان الرجل في كل هذه التفاصيل هو يدعو لكسر النمط الذكوري المعتاد بالعزّة والأنفة بأقسى عبارات الذلة والخنوع والتي تصل حتى إلى عبادة المرأة!
لذلك فإن الحركة النسوية في العالم العربي مدينة لنزار قباني كثيراً، وتجد أن أغانيه محل اعتزاز عند من يميلون إلى تلك الحركة.
في قصيدته التي يفتتحها بعبارة : علّمني حبكِ أن أحزن، وأنا محتاجٌ منذ عصورٍ لامرأة تجعلني أحزن.
يدخل نزار مدخلاً غريباً في طريقة التعبير عن ما يحتاجه الرجل في المرأة وفي ذلك الأمر ما يجعل الشخص يتساءل ما علاقة الحب والحزن، ولماذا هناك تجاذب بين مشاعر الحب وبين مشاعر الحزن؟!
الحزن يمثل الألم، والألم ملتحم بطبيعته مع اللذة بشكل كل واحد يجذب الآخر، وقد فلسف هذا الأمر «أفلاطون» في إحدى محاوراته الصعبة المسماة بـ «فيليبوس»، حيث جعل قضية اللذة هو سدّ لما حصل من نقص في حاجةٍ سابقة، والنقص هو الألم، فالجوع وهو الحاجة إلى الطعام ألم، والأكل لذّة جاءت لسد هذه الحاجة، وكذلك في كل الأمور بما في ذلك الجنس، فيمكننا استخلاص نتيجة أولية لعلاقة الحزن بالحب. أن الحزن يمثّل عتبةً للشعور بسعادة الحب، وإن أكثر ما يؤجج الشعور بسعادة حب المرأة تلك العقبات التي تصادفنا في الطريق إليها، وكلما كان الوصول للسعادة سهلاً كان الشعور مضموراً خاملاً، وكلما زادت الصعوبات فإن الشعور بالسعادة يتضخم.
لذلك فإن نزار استخدم هذه الثنائية ليجعل من موضوع العلائقية بينه وبين محبوبته هو أن يتعلم أن صعوبة الوصول إليها والحزن هو الطريق إليها..
وهو ما يتضح وهو يصوّر بحثه عنها في عدة محطات من حياته:-
"علمني حبك.. سيدتي
أسوأ عادات
علمني أفتح فنجاني
في الليلة ألاف المرات..
و أجرب طب العطارين..
و أطرق باب العرافات..
علمني ..أخرج من بيتي..
لأمشط أرصفة الطرقات
و أطارد وجهك..
في الأمطار ، و في أضواء السيارات..
و أطارد طيفك..
حتى .. حتى ..
في أوراق الإعلانات ..
علمني حبك..
كيف أهيم على وجهي..ساعات
بحثا عن شعر غجري
تحسده كل الغجريات
بحثا عن وجه ٍ..عن صوتٍ..
هو كل الأوجه و الأصواتْ"
وهكذا فإن الأنانية تستمر في التضخّم كلما ترددت بين ثنائية اللذة والألم، وهذا ما يجعلنا ننظر إلى جسد القصيدة وهي تتحدث بأنانية تامة تتنقل من (علمني..) إلى الأفعال (أجرب - أطرق - أمشط - أطارد - أهيم - أتصرف - أرسم - .... إلخ)
في المواضيع النفسية المعنية ببيان العلاقة بين الجنسين يشيرون إلى وجود عنصر بين الجنسين بشكل يجعلها ذات وجه مرهب يشكّل مثل (التهديد الصامت) الضامن لاستمرارية العلاقة من خلال استدعاء العنصر النفساني المنفي في حياة الطرف الآخر، هذا العنصر الذي يظهر بعدة تشكلات منها (الخيانة) الذي طالما كان العنصر الملحوظ للتنافر القوي بين الحب والغريزة على طريقة «قلبي لك أيها الملاك الأبيض(الغريزة) وجسدي لشيطان وغد(الحب)» أو على الصياغة الشعبية «حمارة الفريج وتيس الغريب» والتي صاغها باولو كاويلي في رواية الزانية حين يشير إلى روتين المقاربة الجنسية بين الزوجين الذي يسبب مع الوقت الملل فيضطرون بكسره بالخيانة الزوجية لتعود المقاربة بينهما طرية وساخنة من جديد.
هذا السلوك استخدمه نزار في تعبيراته خاصة في قصيدة (تناقضات) التي يقول فيها مثلاً:
وما بين حُبٍّ وحُبٍّ.. أُحبُّكِ أنتِ..
وما بين واحدةٍ ودَّعَتْني..
وواحدةٍ سوف تأتي..
أُفتِّشُ عنكِ هنا.. وهناكْ..
....
أُحبُّكِ.. حين أكونُ حبيبَ سواكِ..
وأشربُ نَخْبَكِ حين تصاحبني امرأةٌ للعشاءْ
ويعثر دوماً لساني..
فأهتُفُ باسمكِ حين أنادي عليها..
.......
وأشعرُ أني أخونُ الحقيقةَ..
حين أقارنُ بين حنيني إليكِ، وبين حنيني إليها..
فماذا تسمّينَ هذا؟
ازدواجاً.. سقوطاً.. هروباً.. شذوذاً.. جنوناً..
وكيف أكونُ لديكِ؟
وأزعُمُ أنّي لديها..
أو يتشكل هذا العنصر بسلوك الممانعة والمقاومة الذي يظهر بشكل ملحوظ في مواطن الخوف والترهيب بين الإقبال والنفور، يدرس هذا السلوك في تفسير النفور الجسدي (الجنسي) بين المتحابين في قبال الرغبة المتأججة. التي يصوغوها بعبارة: لا تضحك لها دائماً كأبله ولا تغضب عليها دائماً كمن يزن عقله بمثقال نمله. اضحك اسبوعاً وشهراً واغضب لـ٣ أيام. أوعلى الصياغة الشعبية «القطو ما يحب إلا خناقه» يصيغها نزار أيضاً في عبارته في إحدى قصائده: «أحلى الشفاة التي تعصي وأسوؤها تلك الشفاة التي دوماً تقول: بلى».
في هذه القصيدة ظهر هذا العنصر بسلوك التلذذ بالحزن، استدعاه نزار كتهديد لإقامة علاقة المحبة وإنزالها من الشكل الحالم إلى الشكل الواقعي، فصوّر حزنه بسبب حبّه بكل ما يجول في الخواطر الحالمة:-
علمني حبك أشياءً..
ما كانت أبداً في الحسبانْ
فقرأت أقاصيصَ الأطفالِ..
دخلت قصور ملوك الجانْ
و حلمت بأن تتزوجني
بنتُ السلطان..
تلك العيناها .. أصفى من ماء الخلجانْ
تلك الشفتاها.. أشهى من زهر الرمانْ
و حلمت بأني أخطفها
مثل الفرسانْ..
و حلمت بأني أهديها
أطواق اللؤلؤ و المرجانْ..
علمني حبك يا سيدتي, ما الهذيانْ
علمني كيف يمر العمر..
و لا تأتي بنت السلطانْ..