قراءة في: بانوراما السقوط




هناك مساحةٌ شعريةٌ غارقةٌ في الإحالات، تعيدك قسرًا للحظة قراءة قديمة، كانت قصيدة محمد صرخوه (بانوراما السقوط) إحدى تلك المساحات، لم أجد نفسي إلا متناولًا قصّة أنطون تشيخوف للراهب الأسود الذي يستحضر فيه بطل القصّة في منفاه العلاجي، راهبًا شوهد وسط صحراء الجزيرة العربية قبل ألف سنة وظهر سرابه في كل مكان، يطوف ويتكثّر بسرابه أرجاء البلدان والقارات ويملؤها بحضوره، حتى شغل الأرض كلها، فتجاوزها إلى الأقمار والنجوم، وذات يوم سيرجع للأرض ويكشف عن نفسه كانكشاف الضباب واختفاء السراب، ويُظهر حقيقته الواحدة.

هذه الأسطورة تشغل رأس بطل القصّة دون أن يعرف منشأ وجودها، واشتغالها في خياله.

تعيد اللغة هذه الأسطورة في تمثّلاتها.

الاعتلال هو العمل فوق العمل، تعلل بالشرب، شرب بعد الشرب، وعلة الجسم تحمّلها فوق القدرة، واعتلال النفس في جنونها ومرضها النفسي هو نضالها غير المحتمل للقدرة العقلية الطبيعية.

واللغة تعتلّ أيضًا، واعتلالها تحملها ما لا تحتمل، وعند هايدغر تحتمل اللغة في جوفها الوجود كلّه، فما هو هذا الشيء الذي لا تحتمله اللغة؟!

تتمثّل في لغة المتصوفة عدم احتمال اللغة لواجب الوجود وما يشير للحق والحقيقة الواحدة، فتنضح لغتهم مجازًا غير منطقي، وتتلكأ في إشاراتها، وتتأتؤ في تعابيرها وما (هو) إلا صيحة مرض اللغة وألمها غير المحتمل.

يبدا بطل قصة الراهب الأسود كما في رسالة إلى المهدي لـ محمد صرخوه.

في حالة مرضية شخصية يتفاجأ فيها بلقائه بما يهوس به، فتظهر لغته مليئة بالهواجس والمخاوف والرغبات والأحلام، لغة متعالية مستشرفة، تنظر في أصل الكون وما فيه كأنه حلم ووهم، يودّ الفرار منه.

فيلجأ إلى منفاه، ويعيش مع أسطورته، يناغيه ويناجيه ويحدثه ويستأنس بقربه.

ثم تظهر بعد النجوى لغته الرسولية والتبليغية، يحاول فيها تفسير كل شيء مفارق لما في واقع الناس وإلى منطق وتعقل كل شيء مجهول عنهم، فتبدأ خوارق الطبيعة بالانكشاف عن قانونها الخاص عنده بإلهام أسطورته وملازمته له.

في لغته الرسولية، تهديد ووعيد، واستدلال وبراهين يسكت فيها جهّال معانديه ويرد فيها على توصيف عبقريته بالجنون.

حتى إذا تم هذا الشيء، استشعر عظمته أكثر وتمايز ذاته عنهم أكثر فأكثر.

فيرى الأشياء في حالة انجذاب إليه، بل واتحاد معه.

ثم يصل في أوج لغته ليرى (أنا) كل شيء.

كل هذا الوهم الذي يتلبسه يوصله إلى اعتلال حقيقي، يشمل جسده وعقله وروحه ونفسه، فيستسلم للعقاقير والمسكنات، ويغيّب عن نفسه جبرًا موطن نشوته.

فيُصدم مع وحشية الواقع الذي رفضه وتفاهة ما يراه يسكن الناس بعد هجره لهم، فيدخل في لغة السقوط والتقزز من كل شيء، لغة أشبه بلغة المحتضرين على فراش الموت.

يدخل في هذا المضمار رافضًا كل ما يحيط به، فيجابهه ويقاومه، ينتصر في معركة ويهزم في أخرى يظهر استسلامه بعد خسارته، ولا يفرح بانتصاره لكثرة جراحه وآلامه.

Join