عن المرض والمعاناة

هُنا اكتب عن خبرة المستشفى، تأملات في المرض والمعاناة.. المستشفى تلك اللوحة التي تجسد أوجه عديدة وجوهرية في الحياة الانسانية، المرض، الألم، العوز، الفناء، الرعاية، الحب، الأمل والرحمة


كانت أربعة أشهر، سريعة كلمح البصر، هذه هي التجربة الأولى لي في مشاركة الناس خبراتهم مع الأمراض المزمنة والألم، وأصفها بـ"مشاركة"، لأن أحد الأدوار الجوهرية في عمل الاخصائي النفسي في نظري هي دوره كشريك، شريك للمريض في رحلته نحو الشفاء، نحو التكيف والتعايش، شريكه في السعي للفهم، للتجاوز، ولتحسين جودة حياته


أكتب لأني أرغب في تحويل حديثي لنفسي إلى حديث للأنفس الأخرى، التي تقرأ، لست أكتب لأني هاوية للكتابة، بل أكتب لأن الكتابة طريقة من طرق المشاركة، المشاركة المفتوحة للجميع والتي لا تخص أحد بعينه، أجد في نفسي تقدير خاص لهذا النوع من المشاركة، وأظن بأن "التدوين"، فعل عاطفي ولا يلغي هذا أهمية ما ندونه، بل على العكس، كان من الأولى أن نترك حيز لعواطفنا في مكان ما، كوعي شخص آخر، وعي من نُحبه ويُحبنا، وعي من يشاركنا الاهتمامات أو على صفحة في مدوناتنا

  • خارج كهف افلاطون: عيادة طب نفس الأطفال والمراهقين

يبدو لي العالم بما يتضمن من ظواهر وبما يتضمن من فهم أولي لهذه الظواهر، كما يصور لنا أفلاطون في اسطورة الكهف، حيث مجموعة من الأشخاص المتواجدين في كهف منذ ولادتهم، يجلسون وهم مكبلين، أعناقهم وأبصارهم متوجهة نحو الحائط أمامهم في الكهف، وعلى هذا الحائط يبصرون ظلال الأشكال والظواهر التي تقبع خلفهم والتي ينعكس ظلالها بواسطة نور خافت في الخلف، هم لا يعرفون كيف يبدو الحصان مثلا، كل ما لديهم من معرفة وتصورات حول الحصان هي مرتبطة بظل الحصان على الحائط، وتأويلهم لظل الحصان، لا الحصان نفسه كما هو عليه في الواقع.

أثناء تواجدي صباح كل أحد في عيادة دكتور ياسر الدباغ، عيادة الطب النفسي للأطفال والمراهقين، لاحظت اشكالية في فهم بعض اهالي المرضى للاضطرابات النمائية والنفسية والسلوك بشكل عام، والأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة لنا كدارسين أحيانا.


يأتي أهالي المرضى في العيادة، يصفون أطفالهم بـ:


"طفلنا عنيف" 

"عنيد ما يسمع الكلام ويتعمد يتجاهلنا"

"نضربه ونعاقبه، لأنه ما قاعد يسمع الكلام"

"ولدنا مو طبيعي،صرنا نخاف منه"


كان يصعب عليهم فهم معنى الاضطراب النمائي لدى الطفل وتقدير تبعاته، من خلال عمل دكتور ياسر مع الأطفال وأهاليهم في العيادة، تعلمت أن أفرق بين الظاهرة كما هي عليه وبين ظلالها الذي قد يعلق فيه الكثير من البشر، لأننا بصفة عامة مكبلين بعالمنا الحسي حيث محدودية حواسنا، ادراكاتنا، خلفياتنا، وتجاربنا.


كل مرة كنا نناقش فيها الحالات، وكل مرة يشرح لنا ويُشرّح لنا الظاهرة من كافة أبعادها البيولوجية والنفسية والعلائقية، نتجاوز الفهم الأولي-ظلال الظاهرة- إلى ما هو أعمق.

كان سلوك إيذاء الذات سلوك غريب ومحير، لكن بمشاركة دكتور ياسر لنا محاولاته السابقة لفهم هذا السلوك عند الأطفال وعلاجه الناجح لمعظم الحالات، تبددت بعض الغشاوة، فهمت كيف للأذى أن يكون راحة أحدهم، ومؤشر لوجود اضطراب حسي، لا يمكن للآخرين تخيله إلا بفهم بيولوجيا الانسان.

لم تعد الحركات النمطية لدى مرضى التوحد مجرد حركات اعتباطية كما في السابق، صراخ الأطفال، رفرفاتهم، كانت طريقة للتأثير في بيئاتهم، طريقة لتنظيم ما في دواخلهم وما يحيط بهم في الخارج، لكماتهم لم تعد مجرد سلوك يوصف بالسلوك العدواني كما يبدو للوهلة الأولى، فيحدث أن يكون ذلك هدية يقدمها الطفل لغيره، وطريقة يحقق بها حاجته للإحساس بجسده فكل ضربة للآخر كانت ضربة للطفل نفسه، ضربة توفر له الضغط الحسي الذي ينشُده دماغه.


أن نتجاوز الظل، يعني أن ندرك اختلاف خبرة هؤلاء الأطفال، أن ننطلق من حقيقة كوننا متشابهين لكننا مختلفين، تجمعنا نفس الاحتياجات، لكن خبرتنا في العالم مختلفة، أن نقف على الأرض المشتركة التي لا نوصم فيها "الآخر" لكن نقر باختلاف تجربته، نلغي حينها ما نسميه بالبداهة، تلك البداهة الغشاوة التي تحجبنا عن الآخر المختلف، تحبسنا فينا.


كان من المؤثر جدا في هذه العيادة أن هذا "الآخر" المحجوب عنا (عن مجتمعه) هو طفل، الطفل المشخص باضطراب نمائي عصبي، أكثر فئات المجتمع ضعفا، طفل لا يمكنه أن يعبر عن نفسه، ليس بمقدوره أن يصف لنا كيف تبدو تلك الأرض المشتركة بيننا، والمغايرة، ليس بمقدوره أن يبرر ما هو عليه، أن يدافع عن نفسه أمام اتهامات وشكوك من يجهلونه أمام نظرات الأم  والأب والأخوة حين ارتابوا من ظلاله.


ليس بمقدور هذا الطفل أن يخبرهم بأنه طفل كبقية الأطفال لكنه مختلف، أن يناشد حقه، حقه في أن تشبع حاجاته، حقه في أن يقُدّر، حقه في أن يحيا حياة ذات جودة، كان د.ياسر صوت هذا الآخر في داخل عيادته وخارجها، كان هو بمثابة لغة هذا الآخر، الجسر الموصل بينه وبين بقية أفراد مجتمعه، كان بتأويله للظلال المنعكسة، ظلال الأطفال ذوي الاضطرابات النفسية والنمائية، ظلال السلوك، ظلال النفس، ظلال الآخر في عيون من يراه، يفتح آفاق الرحمة، فكل غشاوة كان يبددها كان يساهم في إرساء الرحمة لكل الأطراف، في عيادته، وخارجها. تعلمت منه، أن أصطبر في سعيي للفهم، وأن أفحص الظاهرة قدر المستطاع، بتأني وصبر وبروح منفتحة.



  • العبء المضاعف على أهالي المصابين بالاضطرابات النمائية

كنت أشاهد عن قرب معنى أن يكون لأحدهم طفل مصاب باضطراب نمائي، الصعوبات اليومية التي يواجهونها الأهالي، الصراع النفسي، حاجتهم للمساندة والدعم.

أن يدرك أحدهم حقيقة أن طفله يشكو من إعاقة ذهنية، أو توحد، أو فرط حركة وتشتت انتباه، أو كل هذه الاضطرابات معاً (كما في معظم الحالات) وأحيانا مع وجود نوبات صرعية وأمراض أخرى، أن يدرك تبعات هذا كله على الطفل وعليه كوالد/ة، فلا يمكن في مثل هذه الحالات المعقدة أن يعتمد المصاب ويستقل كليا عن الوالدين وعن الآخرين، سيكون معتمد على الآخرين معظم حياته. 

أمر صعب جدا، أعباء الحياة مضاعفة لدى أهالي المصابين، والحمل عليهم ثقيل، سيضطر أحد الوالدين أو كلاهما وبقية أفراد الأسرة للتضحية بالكثير في سبيل التعايش مع عجز الطفل الذي سيصاحبه مدى الحياة، وفي سبيل تحسن حالته التي قد يكون التحسن فيها ضئيل وبطيء، ويتطلب الكثير من الجهد والوقت والمال. 

رأيت في بعض الأهالي، الارتباك، الحزن، القلق، الشعور بالذنب، الحيرة، والغضب. 

قدر أن تنجب إبن مصاب باضطراب يجعله عاجز في معظم جوانب الحياة، أمر صعب، كل أسرة مصاب بحاجة لدعم كبير مادي، نفسي، اجتماعي. كل مشروع ومبادرة على مستوى وطني للمصابين وأهاليهم هي ضرورة قصوى، ولن تكون أبدا زائدة عن الحاجة.




  • التحيزات الوحشية، الحاجبة للتعاطف

من الأمور التي وجدتها مؤلمة في هذا الشأن -شأن أن يكون للأسرة طفل مصاب باضطراب أو مرض ما- كانت مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي ربما تجد لها حيز في ثقافتنا، وفي بعض الثقافات الأخرى، والتي تزيد من العبء، مثل فكرة أن مرض الطفل قد يكون عقاب للوالدين أو احدهما، من المؤلم أن يكون المجتمع المحيط بالأسرة أو الأسرة نفسها مصدر لتداول هذه الفكرة. 


لست هنا لأناقش هذه الفكرة، لأني بداية أرفض نقاش ظنون عشوائية غيبية لا يمكن لأحد إثبات صحتها، ولا أظن بصحة أن نناقش الفكرة في ذاتها، بدلا عن ذلك أود الحديث عن لماذا في ظني هي موجودة، وما تبعات وجودها.


هذه الفكرة قد تكون جزء من تحيزات معرفية، كتحيز أو مغالطة تسمى بـ "فرضية العالم العادل" The just-world hypothesis حيث ينطلق البعض من فرضية مباشرة أو غير مباشرة ، مدركين لها أو غير مدركين، تنص على أن هذا العالم وما يحدث فيه غير عشوائي "منظم"، فكل ما يحدث للفرد سواء كان ايجابي أو سلبي هو نتاج ما قام به، وليست محض صدفة، من يلاقي الشر أو السوء فهو نتيجة لخطأ أرتكبه، والعكس صحيح، وبذلك يكون هذا العالم في نظرهم "عادل" ويمكن التنبؤ بما سيحدث فيه، ويمكن التحكم به. 

هذه الفرضية هي من التحيزات المعرفية، الموجودة لدى البعض بشكل تلقائي احيانا وتغذيها ثقافة المجتمع نفسه، لماذا هذا التحيز موجود؟ يمكن أن يعمل هذا التحيز بغير وعي من الشخص لتحقيق نوع من الطمأنينة الناتجة عن وهم الفرد بأن له سيطرة على الواقع وعلى مصيره، وبأن ما يحدث لغيره من سوء يمكن له هو أن يتجنبه، فيهدأ بذلك قلق الشخص وشعوره بالخطر في العالم، لأنه من الصعب الإقرار بأن العالم عشوائي ولا يمكن التنبؤ بماذا يمكن أن يحدث فيه للفرد.

قد يكون لهذا التحيز فوائد على مستوى الشخص في بعض السياقات، فتدفعه للخير مثلا، لكنها ايضا قد تساهم في ظلم الأفراد ولوم الضحايا، على سبيل المثال عندما يُنظر للفقير بأنه يستحق فقره، ويتم تبرير مشكلة الفقر بأنه نتيجة فشل الشخص وكسله وعدم بذله الجهد اللازم، فيكون الواقع الغير عادل، في نظرهم عادل لأن الأشخاص فيه يقررون ما سيحدث لهم من خلال ما يقومون به، وهنا تكون الكارثة، لأنها تحجب الانسان عن التفكير الأكثر "تعقيدا" حيث التحليل والتفكير في كافة أبعاد القضية، من ثم التعاطف مع الآخرين والمساهمة في إيجاد حل أو في مساندتهم في محنهم.

وهناك "التحيز التأكيدي" Confirmation Bias مفهوم يشير إلى ملاحظة الفرد وتقصيه للدلائل والمعلومات التي تؤكد فرضيته، وتفسير المعلومات بشكل متحيز، مع تجاهل كل ما يناقض فرضيته من معلومات ودلائل، فعند تحيز الفرد لفكرة العالم العادل مثلا، سيتجاهل كل ما يشير للعكس، ويؤكد تحيزه، وبذلك يتجاهل تعقيد الظاهرة. فتكون هذه آلية للتعامل مع الغموض، يجب أن يتنبه الفرد لها ولتبعاتها. 


كيف ينطبق هذا مع ما أشرت له؟

كان بعض أهالي الأطفال المصابين باضطرابات نمائية وأمراض مزمنة، ضحايا للتحيزات الوحشية لدى من حولهم من أفراد مجتمعهم، وربما ضحايا تحيزاتهم هم أنفسهم، فبدلا من محاولة فهم تفاصيل الاضطرابات والأمراض بشكل عقلاني، وكونها جزء من واقع الانسان، ولها عوامل كثيرة ومعقدة، كان من الأسهل لهم تجاهل هذا كله والقفز لاستنتاج نابع من تحيزات، والبدء في التحدث نيابة عن عالم الغيب عن الأسباب المحتملة، كعقاب إلهي، وتبعات هذا التفكير على صحة الإنسان وجودة حياته وخيمة، وغير مجدية، وكما أحب ان أصفها بـ"وحشية" فلا يكفي عبء الواقع؟ كي يحاول البعض تأويل الواقع بما هو خارج الواقع، حيث الغيب، ومن ثم ماذا؟ لا تعاطف ولا مساندة، وعكس ذلك تكون الشماتة، وقهر الانسان، فتغيب الأخلاق عن هذا المشهد، بغياب القدرة على التفكير العقلاني.



  • المهارات الوالدية: الضرورة المنسية

يسعى معظم الناس في عالمنا المعاصر لإكتساب المعارف وتطوير المهارات الضرورية لأي مهمة يشرعون للقيام بها، يكرسون المال والجهد والوقت في سبيل المعرفة والتطوير المستمر، لغرض الدراسة والعمل، والمشاريع المادية، لكن الأمر مختلف عندما يكون المشروع هو الارتباط وبناء أسرة، وتربية ورعاية الأبناء، فتكون التلقائية هي الأصل، التلقائية بمعنى العشوائية واجترار الأساليب القديمة فيما يتعلق في بناء الأسرة.


في تجربتي بالمستشفى، كان يأتي للعيادة كل من أباء وأمهات الأطفال المرضى لجلسات خاصة بالمهارات الوالدية إما برغبتهم الشخصية وإما باقتراح من الطبيب والاخصائية، في كل موعد مخصص لإرشاد الوالدين وتثقيفهم، يتم الحديث عن مراحل النمو واحتياجات الطفل، ووظائف السلوك، والتربية الإيجابية، والنمط الوالدي الصحي، وكيفية تعديل السلوك بالتعلم الاجتماعي، وادارة حالة الطفل ورعايته وتحسين العلاقة معه وبناء روابط تعلق آمنة، وغيره من المواضيع الخاصة بالوالدين والطفل والاسرة ككل.

كان قدوم الأسرة في أول الأمر وآخره للمستشفى هو بسبب مرض واضطراب الطفل المسبب لعجز كبير والذي يشكل عليهم صعوبة في التعامل معه ومع مهامهم الأخرى، فكانت الأسئلة: 

"ايش نقدر نسوي معه؟ كيف نعدل السلوك؟ ما نعرف نتعامل معه، مو فاهمين ايش فيه؟…" 


في لحظات الضعف هذه، أمام غموض حالة الطفل كان يتعذر على "التلقائية" أن تكون مجدية، فكان "علم النفس" مهم وضروري حينها، أفكر في كم من الأسر وكم من الآباء والامهات الذين لم يكن لهم طفل مصاب باضطراب نمائي، ولم يضطروا للتفكير مرتين في أساليبهم التربوية وفي كفاءتهم الوالدية، المشكلة هُنا قد تترك الأمور حتى تشتد وتخرج عن السيطرة، ليسعى البعض لمساءلة تلك التلقائية! فيحدث أن تعيش الأسرة بتلك التلقائية سنوات حتى ينجب الوالدين طفل مختلف، فيتبين لهم حينها قصور تلك التلقائية فيضطرون مجبرين أحيانا للتعلم والتدرب على أساليب مختلفة، فيكون هذا الطفل بحالته الاستثنائية الدافع لتعلم الوالدين المعرفة الضرورية والدافع لتطوير المهارات الوالدية التي ربما كانت تنقص الوالدين حتى في تعاملهم مع الأبناء غير المصابين باضطراب ما.


ما أود الإشارة إليه أن إنجاب طفل ما، هو أمر تلقائي بعد الحمل جراء نشاط جنسي بين الزوجين، لكن حب هذا الطفل وتقديم الحنان الغير مشروط له، وتربيته تربية آمنة سليمة ليست بالأمر التلقائي والمكتسب فقط بفعل الإنجاب، ولأنها عملية غير تلقائية تستحق أن يهيئ الشخص نفسه لها، وأن يحاول تجنب العشوائية وأن يُسائل الماضي قبل اجتراره.




ادوارد مونك 1885
  • الوأد الحديث: عندما تدفن الأنثى حية في أعباء الدور الاجتماعي

طفلة صغيرة لم تتجاوز الثالثة عشر، تشكو من أعراض "تشبه" نوبات الصرع، كان في حياة الطفلة قريب مصاب بالصرع، كُلفت هي برعايته قبل أن تبلغ سن العاشرة.

كانت من أولى الحالات التي شهدتها في التدريب، قصة هذه الطفلة التي لم تبدأ بها ومنها، نمط حياتها اليوم هو نتيجة نمط حياة ممتد عبر عدة أجيال من النساء في نفس الأسرة، وفي نفس الثقافة، حيث ولادة أنثى تعني ولادة أم، تهيئ الأنثى منذ نعومة أظافرها لتكون أم، أم لإخوتها الذكور، أم لوالدها ووالدتها، أم لزوجها المستقبلي، فتكون الطفلة في تلك الأسرة وذلك المجتمع طفلة صغيرة طفلة بوظيفة ام وخادمة وممرضة، أدوار متعددة، تُعد الطعام لأفراد الأسرة الكبير فيهم والصغير، تشرف على علاج المريض، تُدرٍس أخوتها الصغار، تنظف المنزل، توكل لها كل هذه المهام، دون أي حدود، قيمتها وكيانها في هذا المجتمع تُعرف بما تقدمه وبما تكونه للآخرين، الإعياء الذي جعل هذه الطفلة اليوم في التنويم، هو نتيجة تبدو بديهية لمن عرف ماذا تعني "الطفولة" والاحتياجات الأساسية، وماذا يعني أن يكون هناك خلل في توزيع الأدوار والمسؤوليات في الأسرة وتحديدا الوالدين، وايضا أن تعتني الطفلة بقريب مريض بالصرع، أن تكون معه أثناء النوبات وتشرف على علاجه ورعايته، الأمر يتضمنه "فقد" ماذا فقدت؟ فقدت حقها في "الضعف" حين وكلت بمهة تتطلب القوة، بالنظر إليها تلاحظ غياب الطفولة، فقدت حقها في أن تبكي كالأطفال أن تتمرد كالأطفال، أن تحصل على الرعاية الكافية، والحنان قبل أن توكل إليها مهام الرعاية! مهام الأمومة! إنها الطفلة التي جبرت على أن تصبح أما بديلة لأخيها، حسننا لماذا يحدث ذلك؟ لأنها في المقام الأول أنثى، أن الأنوثة في العالم ككل وفي ثقافتنا تحديدا، تعني بشكل مباشر وغير مباشر "الأمومة" "الرعاية" "الخدمة" وهناك معاني أخرى سلبية (النقيض) هذا إن أتفقنا بأن هذه المعاني "ايجابية" أي كان تصنيفها فهي لا تؤدي إلى نتيجة ايجابية دوما بل على العكس، معاني تشكل عبء و وأد جديد فبدلا من أن تدفن الطفلة حية لأنها أنثى في التراب، تدفن في مهام والدتها الموكلة إليها من والدتها نفسها، التي أوكلت لها نفس المهام بفعل الثقافة وموقعها التاريخي كأنثى.

في هذه الحالة قد يشار للأم بأصابع الإتهام، خصوصا عندما أجابت على أسئلة الأخصائية عن ابنتها -عند مقابلة الأم- كانت الأم تمتدح أبنتها أثناء الحديث عن مراحل نموها وحياتها، بأنها فتاة مسالمة ومراعية وخدومة وأنها -الطفلة- بارعة في المطبخ والتنظيف والقيام بخدمة الجميع، وأن ما تقوم به لا يشبه ما تقوم به أي فتاة في عمرها، حيث الدقة والبراعة في أداء المهام، كانت الأم تصف الأمر بفخر عظيم وإنجاز لها هي كأم، لا كشيء يمكن أن يجعلنا نتساءل حول دورها هي في المنزل؟ وعنها كأم؟ الخلفية الثقافية والمستوى التعليمي والاقتصادي، سيجعل كل الأمور أكثر وضوحا، ولكني لست متأكدة أن كان سيجعل المرارة أقل أم أكثر، الأم نفسها كانت كطفلتها هذه يوما ما، كبرت حتى تواجه مصيرها كـ"رماد" بعد عمر من "الاحتراق" ولا سبيل سوى أن تاخذ العادة مجراها وتصبح الثقافة بما تحتوي من عادات ومفاهيم وتصورات، خارطة مصير جيل خلف جيل، ويكون الأمر على أشده عندما لا يتاح للجيل الأسبق "رفاهية التحرر" والتغيير! التي تتحقق أو يمهدها الرفاه الفكري والاقتصادي والتعليمي، ليس تبرير لكن يصعب أن نلقي بالأمر على شخص، في ظاهرة كهذه، اختلال الواقع الحالي لشخص ما، كهذه الطفلة هو جزء من اختلال منظومة أكبر.



ادوارد مونك  1899
Join