لماذا المنظور الانساني والوجودي؟

في هذه الورقة كنت أجيب على أسئلة وجهت لي من قبل د.هشام الرمضان، في سبتمبر 2020، وهي كالتالي:


  • ما هي المدارس الفلسفية التي تؤمنين بها؟

  • مالذي يجعلك تعتنقيها دون غيرها؟

  • ما هي نقاط قوة هذه المدارس؟

منذ بداية دراستي لعلم النفس كنت اتوق للحظة التي أجد فيها نظرية ما أو فلسفة، بامكانها ان تقدم فهم معقول للإنسان وفهم لتجربته في الوجود، نظرية تجيب عن ما الإنسان؟ وماهو المشترك بين البشر؟ ومالذي يجب أن لا نغفل عنه فيما يتعلق بالحياة النفسية للإنسان؟ أتوق لفهم للإنسان بصفة عامة وسيكولوجيته بصفة خاصة، منذ البدايات وجدت في نفسي ميل كبير للمنظور الإنساني، بخلاف مدارس علم النفس الأخرى السلوكية والتحليلية، كانت النزعة الانسانية في الفلسفة بشكل عام وعلم النفس بشكل خاص، بالنسبة لي بمثابة مرآة تعكس واقع الإنسان على نحو لا بأس به، كنت أفهم معنى قول كل من كارل روجرز وماسلو، بأن الإنسان مدفوع بشكل فطري نحو النمو وتحقيق ذاته، وأنه لا فرق بين انسان وانسان آخر في الدافع نحو النمو وتفعيل امكاناته الخاصة، يولد الجميع بهذا الدافع للنمو وتفعيل ذواتهم الذي يقودهم بدوره نحو التوافق والخير، وتلعب الظروف البيئية دور هام في هذه العملية فإما تعرقل البيئة وتحد من نموه وإما تساهم فيه حين يتم إشباع حاجات الإنسان الأساسية وتوفير المناخ الآمن ماديا وعاطفيا، ومع ذلك حتى وأن كانت الظروف سيئة سنجد الإنسان عادة يكافح ليكون، كان يصور روجرز الميل العام للتفعيل بالرجوع إلى طفولته  عندما كان يراقب براعم البطاطس في قبو المنزل وهي تنمو فيكتب روجرز

كانت الظروف سيئة، لكن البطاطس ستبدأ في إنبات براعم بيضاء باهتة… هذه البراعم النحيلة الحزينة ستنمو… نحو الضوء البعيد الآتي من نافذة القبو… كان النمو فاشل، لكنه نوع من التعبير اليائس للميل الاتجاهي… إنها سوف لا تنضج أبدا ولن تستكمل نمو إمكانياتها الكاملة… ولكنها تناضل لأن تصير... ولن تستسلم الحياة، حتى ولو لم تزهر.

كان يصور روجرز الميل العام للتفعيل، يعتبره فطري ويوجد في جميع الكائنات، لكن لدى الإنسان ميل إضافي، نوعي وهو ميله نحو تفعيل الذات، يعرفه بـ العمليات التي يخوضها الشخص على امتداد حياته لتفعيل امكانياته ليصير شخصا مؤديا للوظائف على أكمل نحو ممكن. وهدف تفعيل الذات ان تكون تلك الذات هي التي تمثل الشخص حقيقة (روجرز، 1961)

 كنت أرى ذلك في العالم من حولي، نزوع الانسان نحو النمو والتجاوز وحاجته الجوهرية للحب والقبول، يسميها روجرز الحاجة للاعتبار الايجابي من قبل الآخرين المهمين في حياة الفرد والاعتبار الإيجابي للذات عند الفرد نفسه، وكنت أرى كيف يؤدي إحباط حاجات الحب والأمن العاطفي إلى المعاناة والتعثر.

وكنت أؤيد الموقف الانساني الرافض لاختزال الإنسان في نماذج محدودة تعامله كآلة حيث ينظر له في ضوء الإشراطات وردات الفعل السطحية التي سيحدد استمرارها أو زوالها كل من التعزيز والعقاب، والنظرة التي تجزئ الإنسان ولا تعتبره أكثر وأكبر من مجموع تلك الأجزاء كلها، أو ككائن تحكمه غرائز بدائية بشكل حتمي، بلا إرادة حرة.


وقبل ذلك كنت أفهم واستسيغ مقولات وأفكار الفلاسفة الانسانيون منذ عصر النهضة الأوروبية وقبل ذلك في اليونان القديمة عند فلاسفة ما قبل سقراط، لم يكن من الصعب علي فهم قصد بروتاغوراس،٤٠٠ قبل الميلاد: "الإنسان هو مقياس كل شيء" لأني كنت اتفق مع هذا المنظور، فكنت أعلي من قيمة الإنسان، ككائن مركزي، وأعلى من شأن الخبرة الشخصية للفرد، وكما ينظر الانسانيون للطبيعة البشرية باعتبارها طبيعة خيرة، كنت أظن معظم الوقت بذلك (سابقا)!

لكن بعد التأمل والتدبر ورؤية نماذج من الشر الإنساني عبر التاريخ البشري التي لا يمكن التغافل عنها، ومن خلال الوقوف على قصص من الواقع، أصبحت أرجح كفة الحياد فيما يخص الطبيعة البشرية، وأميل أكثر للمنظور الوجودي، حيث ينظر للطبيعة البشرية باعتبارها محايدة فهي ليست بالخيرة ولا بالشريرة، ولا يمكن تحديد ماهية للإنسان، لأن الماهية تأتي بعد الوجود، الإنسان يوجد أولا من ثم يكون، وليس هناك طبيعة أو ماهية له مسبقة، والذات في حالة من الصيرورة Becoming، ليست معطى ثابت او مصمت. 



وكما هو معلوم كل من المنظور الإنساني والوجودي يتقاطعان في كثير من الأمور مع وجود الاختلافات، قبل أن أتحدث عن سبب اعتناقي للمنظور الانساني والوجودي، أود الحديث عن براهيني الشخصية التي قد لا يعتد بها خارج منظوري وحدودي (لدى غيري) أو حتى ليس لها وزن في ميزان "الموضوعية" لكن يالسعة المنظور الإنساني، فيه تجد خبرتي الذاتية حيز للوجود والاعتبار في هذا المنظور تحديدا وحسب منطلقاته، حيث الخبرة الشخصية، والمعاني الخاصة ليست بالشيء الثانوي، بل أولى في فهم سلوك وأفكار الشخص وتجربته ومعتقداته واختياراته.


خلال السنوات الست الماضية، قابلت الكثير من الأشخاص الذين على اختلافهم كنت أبصر فيهم بعض الأمور المشتركة، سأبدأ بـ (محمد) كان رجل تجاوز الخمسين من عمره أصيب بالفصام منذ بدايات شبابه، تعرفت عليه أثناء تطوعي في مؤسسة تقدم خدمات نفسية واجتماعية، كان رجل بلا مأوى، بلا صحبة...(تم اقتصاص بقية التفاصيل، للخصوصية) 

كان محمد رجل حكيم ومثقف، يكتب الشعر، مرهف الحس، أثناء تطوعي في القسم الذي كان يرتاده، تعرفت عليه ودارت بيننا أحاديث مختلفة عن الحياة، كنت فقط انصت له بكل اهتمام، كنت مهتمة لمعرفة رأيه حول ما يجري في العالم آن ذاك، من أحداث كبرى وصغرى، كنت أتوق لأعرف ماذا يعني العالم من منظوره، لم أقدم شيء، كنت أشبع حاجته للاعتبار الايجابي وحاجته الإنسانية البديهية لأن يُسمع، لأن يشعر بأنه موجود ومرئي وفي هذا العالم من يهتم لافكاره وتجربته، من خلال معرفتي به أكثر والتي استمرت لعامين لاحظت كيف كان للحب والاعتبار الإيجابي للذات أهمية كبيرة، محمد الآن في كنف خالقه قد توفاه الله في بدايات سنة 2020، بعد تدهور صحته بسبب عدة أمراض كان مصاب بها جراء الإهمال الصحي وسوء الأحوال في المكان الذي كان يعيش به والشقاء الذي تجرعه في حياته حيث الوحدة والنفي والتشرد والمرض. 

تعلمت من قصة محمد بأن الحب والاحترام حاجات إن لم تشبع كما يجب سيعاني الفرد الكثير، والعزاء لهذه المعاناة لا يكون إلا بالحب ولو على هامش حياته وفي الوقت القليل المتبقي، وهذا ما كان يسعى روجرز تقديمه من خلال منظوره الإنساني.


(نوره) سيدة عاشت في بيئة قاسية، عندما كانت طفلة تعرضت لتحرش واستغلال جنسي من قريب، لفترة طويلة مستمرة، لم يدافع عنها أحد ولم يصدقها أحد عندما تحدثت وهي طفلة نظروا اليها بارتياب وعار، كانت طفلة في السابعة من عمرها، نظروا اليها كما نظروا لحواء التي تسببت باغواء آدم لارتكاب الخطأ، نظروا اليها بموروث لا عقلاني وغير انساني، مجرد طفلة، لكنهم اتهموها وبخوها، لم تعرف يوما معنى الامان والحب والرعاية، كانت تتعرض للعنف والتهميش، كبرت لتكون طالبة متميزة، كافحت لتدرس وتفهم النفس البشرية لتفهم الناس ونفسها وتمد يد العون، تخرجت بتفوق، واصلت حياتها العلمية والمهنية بكثير من الانجازات والابداع العلمي، استطاعت أن تجد معنى ورسالة في حياتها تكافح لأجلها على الرغم من قبح بيئتها ونوبات القلق والاكتئاب التي تعايشت معها حتى هذه اللحظة، لم تكن مثل اخوتها الذين تأثروا بالبيئة الأسرية المسمومة فكانوا عنيفين واكثر تماهي مع والدهم، نوره صنعت نفسها وكافحت كي تكون، كي تغير وتحسن من هذا العالم، الاتجاه نحو النمو وتحقيق الذات وتجاوز الأزمات كان واضح لديها، وإن كانت لا تزال تعاني من تبعات صدمات الماضي ولكن كنت أشعر بالخشوع والرهبة عندما أتأمل عزيمتها واصرارها وسعيها، كفاحها للنمو والخير. 


(ص) روح خلقت في جسد لم تشعر يوما بأنه جسدها فعلا، كانت أنثى لكن هويتها ذكر، تم تشخيص ص باضطراب الهوية الجنسية، ص عاش سنوات شبابه كأنثى، رغم معاناته وسعيه للعلاج الذي لم يكتمل بعد، كافح ص، ليكون شخص ناجح وعضو فعال في مجتمعه، لن يتصور أحد، كم محاولة انتحار نجى منها وكم عانى من الاكتئاب وتقلبات المزاج ونوبات الهلع التي كانت تمر به وعن الصراعات التي يخوضها لكي يشرك عائلته في رحلة العلاج ومدى الرعب وعدم الأمان الذي يعيشه ص، والتي يدرك أنها سترافقه طيلة حياته هذا القدر الصعب، يتطلب قوة عظيمة، ص بالنسبة لي شخص مبدع ونزوعه نحو تحقيق ذاته والعيش في سلام، ص لا أستطيع تقديم وصف أكثر عنه، لكنه شخص يمثل طاقة الحياة والخير والإبداع الباقية رغم تحديات البيئة والأقدار الصعبة تلك مثل التي وجدت في حياة محمد ونوره. كان الكفاح الذي أراه فيهم، يستوقفني ويدهشني.


(محمد) و(نوره) و(ص) وغيرهم الكثير ممن لم ولن يسعني ذكرهم، كانوا اشخاص يشتركون في كونهم  يعانون في حياتهم جراء امور كثيرة، أبرزها هو حاجتهم للحب والقبول وحاجتهم لتحقيق ذواتهم، كانوا يكافحون نحو النمو والتجاوز والرغبة في أن يكونوا كما يتمنون، كانت هناك ذات مثالية يكافحون لأجلها رغم كل شيء، وكانت هذه الذات المثالية، ذات خيرة وطيبة يتمنون أن يكونوا عليها، وكان ما يساعدهم نحو ذلك هو وجود بعض مظاهر الحب والاحترام وان كان بسيط المتمثل في علاقات الصداقة والزمالة من حولهم، العلاقات الطيبة وقيمة الاحترام والثقة كانت بمثابة المناخ الصحي والتربة الطيبة لهم كي يزهروا كي يستمروا في كفاحهم ونموهم ولكن على نحو أكثر لطف ورعاية اتجاه انفسهم بدرجة اكبر من التقبل.


هذه المشاهدات وأخرى، كانت تعزز لي ميلي للمنظور الإنساني بشكل عام، وإن كان هناك مظاهر أخرى تجعلني اشك وهذا امر طبيعي لأن الظاهرة معقدة (الإنسان) وبطبيعة الحال لكل مدرسة حدودها وليس هناك نموذج واحد لكل الظواهر، لكني ارتدي نظارة المدرسة الانسانية والوجودية معظم الوقت، ولا ينفي ذلك فكرة أني قادرة على اضافة عدسات اخرى، للنظر في الأبعاد التي لا تلتقطها عدسة الانسانية والوجودية.



فلاسفة الوجودية،وعلماء النفس الوجودي

عدستي مع الوقت أصبحت أكثر ميل للوجودية، وسأحاول اذكر:

لماذا أجدني اليوم أكثر ميل للوجودية من الانسانية لوحدها؟ 


الوجودية لا تقدم تعريفات جامدة، وترفض القوالب الثابتة والجاهزة، وايضا المصادر التي تكون من الخارج، من خارج تجربة الوجود نفسه، مثل الميتافيزيقا واللاهوت والمعارف التي تزعم الموضوعية والحياد، والتي قد تشكل خطورة في تعاملاتنا مع البشر ككائنات متفردة في وجودها الخاص، مالذي نعرفه عن الانسان؟ عن الحياة؟ عن هذا الوجود الذي لسنا متيقنين من شيء فيه سوى أننا كائنات ستموت؟ لا يوجد يقين في حياتنا سوي يقين أننا متوجهون نحو الموت، وأننا في اضمحلال مقرون بزمن متناهي على (المستوى الفردي) في تاريخ لا متناهي! في كون لا يعرف له حد أو تناهي، ولا نعرف كيف ولماذا نحن هنا وإلى أين، قد نجد مصادر توصف لنا الحياة والعالم ولكن في تجربتنا المعاشة لا يوجد دليل ولا يوجد براهين ويقين، بل الأصل في وجودنا هذا الجهل، الحياة لغز ونحن كذلك، وحسب الوجودية يكون التركيز على الخبرة المعاشة والمشتركة، التي نستشعرها جميعا كأشخاص في الوجود والتي تفنن في وصفها الفلاسفة الوجوديين وعلماء النفس الوجوديين، كخبرة القلق الأصيلة، والموت كمصير حتمي وباعتباره حقيقة مؤثرة في حياتنا وإن كنا لا نعي ذلك، والحرية كأمر باعث للقلق أيضا لأننا قادرين على الاختيار حتى في الظروف المحدودة وحتى في ظل ضيق الخيارات، هناك دوما حرية اختيار، وحتي عندما نختار ان لا نكون احرار، نحن اخترنا ذلك بحريتنا، الحرية حقيقة لا تحتاج برهان عند الوجوديين، فأنا في هذه اللحظة اخترت بحريتي أن اجيب على هذه الاسئلة واخترت بحريتي ان اتخذ علم النفس كمجال لي، لكن حريتي محدودة بالزمان والمكان والأمور التي وجدت نفسي فيها ولا يمكنني تغييرها، وحريتي مقرونة بالمسؤولية التي تشكل عبء، كيف ذلك؟ فعندما اختار دور لي في الحياة انا اقصي كل الإمكانات الاخرى الممكنة، من الممكن أن اكون عالمة اجتماع، أو مخرجة، أو غيره من الامكانات الأخرى، ممارسة حريتي تحمل عبء ايضا احتمالية أن اكون مخطئة، فربما بعد سنوات يتبين لي ذلك، واشعر حينها بالعبء والندم لأني حرة ومسؤولة، وكوني كائن زماني (محدود بزمن) يجب علي ان اختار خيارات محددة فلا يسعني أن أحيا أكثر من مرة لأعوض خياراتي، لذلك كما يذكر الوجوديون بأن يكثر لدى الأشخاص أن يتخلوا عن حريتهم بسبب هذه الأعباء، يفوضون قراراتهم المصيرية للآخرين أو للحظ (عشوائية) أو لمعتقدهم الديني كأن يسلمون الأمر على أمل أن يأتي القرار على صورة رؤية أو وصية إلهية، الخ. بهذا المثال احاول ان اشرح فكرة القلق والموت والحرية والمسؤولية كقضايا جوهرية في وجودنا، فقط بجانب واحد (الاختيار المهني) هذه لمحة بسيطة عن معنى أنني كائن موجود، والأمر يطول شرحه في جوانب الحياة الأخرى التي يكون الأصل فيها هذا التداخل والإشكال، كما يرى عالم النفس أريك فروم وهو متأثر بالانسانية والوجودية، يرى أن الوجود الإنساني "مشكلة" والإنسان يحاول التعامل مع هذه المشكلة وحلها حسب فروم الحل هو الحب والعمل (الخلق والإبداع) وبوجهة نظره هناك حلول مرضية واخرى سوية، كل مافي الحياة من معتقدات وطرق للعيش هي محاولة للتعامل مع مشكلة الوجود. 


كما أن هناك قضايا محورية في الوجود مثل "المعنى" اتفق مع فرانكل حول إرادة المعنى، بأن الإنسان مدفوع نحو المعنى ليس فقط اللذة والقوة (كما لدى فرويد وأدلر) وقد يعاني هذا الإنسان جراء احباط إرادة المعنى، وأنه بحاجة لايجاد معنى لمعاناته كي يصطبر عليها ويتعافى ويتمسك بحياته. 

ولكني علي عكس فرانكل اتفق مع إرفين يالوم بعدم وجود معنى كامن،ولكن لكل فرد معنى يكتشفه هو وحده. أظن أن المعنى يتم ابتكاره من قبل الشخص، وقد يبتكر شخص ما معنى لحياته مع احساس وايمان بأنها دور أو رسالة خلق لأجلها، واحيانا يراها كمهمة ومعنى شخصي هو اختاره دون وضع أصل غيبي لها، بشكل عام اتفق مع يالوم: ولكن على الصعيد الشخصي، خبرتي انا مع المعنى، تصطبغ بصبغة روحية نوعا ما. واحيانا اشك في كون المعنى الذي توصلت له تم اكتشافه أم تم ابتكاره.

لكنه أمر غير مهم حاليا، ما إن كان المعني الذي توصلت له هو معنى (موجود ومقدر لي) او (اخترته بارادتي وحريتي) او كلاهما معا. لا فرق.

في الأخير قضية المعنى مهمة، استشعرها في نفسي وغيري، وافهم دور المعنى ووظيفته في حياتنا.


قصتي الشخصية مع الموت والفقد والمعنى:

عندما توفيت جدتي لم أكن أعرف بعد نظرية فيكتور فرانكل كنت في ال١٨ من عمري، حدث وفاة جدتي هزني بعمق، كانت المره الأولى التي أواجه فيها الموت والفقد، توفيت من كنت أشعر بأنها أمي، كان يناديني الجميع بـ:إبنة جدتها.

في عام 2012 في غضون شهر دخلت جدتي في غيبوبة وتوفيت ولم يتسنى لي توديعها أو حتى رؤيتها على فراش المرض، كانت في مدينة اخرى ان ذاك، وكنت في مرحلة الاختبارات النهائية، فراقها شكل صدمة لي، صدمة فقدها وصدمة مواجهة الموت نفسه، بعد وفاتها كنت افكر لأكثر من عامين في معنى الحياة؟ لماذا نولد ونكبر ونعمل ونتزوج وننجب ونعمر حياة ونكوّن علاقات وكل هذا سيزول في لمحة بصر؟ ثم كيف علينا تحمل الموت والفقد؟ وكيف نقبل أن يعيش الفقد والموت عدد لا متناهي من البشر وباستمرار؟ كنت اطرح الاسئلة الوجودية، كنت مراهقة فجعت بالحياة دون سابق إنذار، تمنيت أن أكون معها حيث كانت، غيابها الخاطف والسريع أكبر من أن أتخطاه بسهولة، كنت باستمرار احلم بجدتي وحتى الآن، بقت في أعماقي مشاعر الغضب من الوجود، في كل مرة أرى فيها أشخاص مسنين، وأرى مظاهر الشيخوخة، والتقدم في السن، والموت. 

لكن كيف نهضت؟ كيف كانت مقاومتي؟ مالخطوات التي قمت بها دون علم بأنها موجودة كنظرية في علم النفس؟ كان المعنى هو المنقذ، صغت معنى لحياتي بشكل اولي بعد وفاة جدتي بسنتين، سألت نفسي لماذا انا موجودة يا ترى؟ ولماذا أحب كذا وكذا، وأبغض كذا وكذا، لماذا أنا، أنا؟ لماذا اميل للجانب الإنساني المعنوي بالحياة؟ لماذا قيمي هي قيمي؟ التي لم يحددها لي احد، بل هي مطورة فيني؟ هل هناك دور يناسبني ويناسب قيمي وحياتي وأفكاري وامالي قد يكون هو معنى لوجودي؟ لم اختر أن أوجد في الحياة، لكن شخصيتي سيكولوجيتي روحي، ما معناها؟ وماذا تنتظر مني الحياة؟ توصلت حينها لهذه الأفكار> انا حزوا، فتاة حيوية في الأصل وتحب الحياة والبشر، فضولية وحساسه وتتبنى قيم كالحب والسلام واللين، تكره الكراهية والظلم والعنف بشتى اشكاله، وتميل لعلم النفس وتتمنى أن تكون معالجة نفسية تساعد الأشخاص ليعيشوا حياة أفضل و تخفف عنهم اعباء الحياة، حددت بشكل صريح و واضح رسالتي بالحياة "ان اساهم في إرساء الرحمة" من خلال شغفي وقيمي وما يهمني وسماتي، حينها قلت لنفسي، هذا معني أن أوجد وهذه هي مهمتي التي ساشغلها منذ هذه اللحظة ، وقلت لنفسي آن ذاك، أن وفاة جدتي في هذا الوقت من حياتي وبالنسبة لي، تحتوي على حكمة، هي التي دفعتني في وقت مبكر أن احدد معنى لحياتي ورسالة كي أعرف أولوياتي في الحياة ومساري، وأن أعيش وجود اصيل يمثلني، والأهم كي يكون المعنى الذي اكتشفت لحياتي بمثابة وقاية لي في المواقف الصعبة التي لا مفر منها، سيموت لي اشخاص احببتهم بعد جدتي، لن يقف الأمر لحد هنا، سأكبر وساواجه الكثير في الحياة كما هو حاصل مع الجميع فيها، لكن المعنى سيكون طوق النجاة، شغفي رسالتي والتزامي بمعنى حياتي والسعي لعيش حياة مصممة بقيمي الخاصة، ومنذ تلك اللحظة التي حدثت نفسي بذلك (بعد مرور أكثر من سنتين من وفاة جدتي) بدأت بالنهوض والتزمت بمهمتي وتقبلت الحياة. 

من حينها والمعنى يتطور حتى الآن.

 بعد دراستي لعلم النفس وقراءة كتاب "بحث الانسان عن المعنى" دهشت بهذه النظرية، وجدتها تعكس ما أختبرته شخصيا، نظرية مدهشة تسد فجوة كبيرة في علم النفس، تسلط الضوء على بعد مهم في الحياة وفي خبرتنا كبشر، بعد هذا الكتاب تعرفت على المنظور الوجودي في علم النفس، وشيء فشيء انتقلت للقراءة أكثر في الفلسفة، وجدت مجال رحب يعكس الحياة بشكل يرضيني فكريا حيث لا أشعر بحدود واختزال للإنسان والحياة.


المعالج الوجودي هو أول من يناضل ضد تشييء الانسان والتلاعب به واستلابه.

ماي& يالوم

 

ما هي نقاط قوة المدرسة الانسانية-الوجودية في علم النفس؟

  • تعكس الواقع، قد لا تكون مفهومة عند قرائتها من قبل الشخص الغير معتاد على المصطلحات الفلسفية والتأمل في التجربة البشرية، ولكن حين نتناول أمثلة حياتية مباشرة ستتضح عبقرية هذه المدرسة في كونها تعكس واقعنا.

  • تحرر الإنسان من القوالب والتنميط والاستلاب التي قد تمارس عليه بفعل تصورات ميتافيزيقية، معتقدات دينية، وعادات وتقاليد اجتماعية، وايضا علوم اختزالية. الوجودية والانسانية تمكين للإنسان، تناهض استلابه وتنميطه وتقاوم كل ما يساهم في تشييء الإنسان.

  • تجعلنا نفهم الصراع والاضطرابات بنظرة متحررة من النموذج الطبي والمادي لوحده، وتحررنا من تعريف الصحة النفسية بشكل مثالي لا يمت للواقع بصلة، لأن القلق والشعور بالذنب والإحباط والوحدة كلها قد تكون بقدر معين طبيعية ومن صميم تجربة الوجود نفسه. بالتالي يمكن توظيف وفهم هذه المشاعر بشكل يراعي حقيقة وجودنا المُشكل.

  • من نقاط قوة هذه المدارس هو تأكيدها على اهمية الحب والعلاقات الانسانية، وبنفس الوقت دفاعها وصيانتها للفردانية، ودفعها للإنسان نحو الشجاعة ليكون مسؤول ولكي يصنع وجوده لا أن يتقهقر أمام القلق الذي يجب أن يدفعه كثمن للوجود، وأن يسعى نحو اصالته ويتقبل عبء الوجود بالحب والعمل والقيم الشخصية والمعاني الخاصة ويعي معطيات الوجود ويقبلها كموته الشخصي.

هناك بالطبع نقاط ضعف للمنظور الإنساني والوجودي في الممارسة العلاجية، من ناحية عدم وجود تطبيقات واضحة، وتشعب وتفرع مفاهيم هذه المدارس وغموضها، وصعوبة اخضاع مفاهيمها للدراسة الامبريقية، لكني افهم الحياة بها إلى حد كبير، ولحسن الحظ أن تطبيق العلاج النفسي من خلال المناحي الأخرى لا يتعارض مع تبني المنظور الإنساني والوجودي، لأنها تشكل منظور عام وليست مدرسة علاجية قائمة بذاتها، فهي تسد فجوة وتقدم نموذج للتفسير ووصف تجربة الإنسان.


الاتجاه الإنساني في العلاج النفسي، حسب رأيي يجب أن يكون بوصلة توجه الممارسة بشكل عام أي كان نوع العلاج المقدم وأي كان تخصص المعالج.

الاتجاه الانساني كبوصلة، حيث التأكيد على فرادة كل انسان وخصوصية كل تجربة، والتعامل مع الإنسان بشكل كلي وشامل، والسعي الحثيث لخلق بيئة آمنة وعلاقة علاجية ناجحة حيث دفء المواجدة والتقبل، والأصالة. لتيسير نمو الإنسان والتعافي والثقة بأن في الانسان نفسه إمكانية تعافيه الشخصي، ومالمعالج إلا ميسر لتفعيل تلك الإمكانية.


إن النظام الاعتقادي للمعالج النفسي (فلسفته) وتصوره لطبيعة البشر - من حيث هو تصور "وجودي" أو "ماهوي" - يؤدي بالضرورة إلى تباينٍ بعيدٍ في تعريف السايكوباثولوجيا (علم النفس المرضي) وفي تصنيف الشخص المتعين أمامه من حيث الصحة والمرض، وبالتالي في اختيار التدخلات العلاجية الأنسب.

ماي& يالوم
Join