وثبة إلى تجربة الآخر: الاتصال العميق

(نص المشاركة في تيدكس)

٢٠٢٥/١/٢٥

يوم الجمعة في اللقاء الأسبوعي للعائلة، أدرك أحد أفرادها انه يجهل اخوه اللي قاعد بجنبه، يقول في داخله: هذا اخوي اعرفه، لكن ما اعرفه، عشت معه

سنوات وشهدنا على نفس الأحداث، بينا ذكريات مشتركة، لكني ما اعرفه…. فكر في نفسه وتساءل اذا هو معروف بالنسبة لعايلته؟ ادرك انه حتى هو مو معروف لهم كفاية  

كملوا سوالفهم المعتادة، خلصوا قهوة العصر، انتهى اليوم

هم مع بعض، هم اسرة، قراب لكن بعاد


في مكان آخر 

يدخل الزوج البيت، غاضب كعادته، تتأمل فيه زوجته

وتقول: له فترة غاضب يا ترى شفيه

تسأله على طاولة العشاء: وش فيك معصب اليوم؟

يرد: ضغط الشغل، ويكملون بعدها حديثهم عن البيت والأولاد

في نهاية اليوم لاحظ الزوج إن زوجته حزينة ومنكمشة على نفسها،يسألها وش فيك؟ قالت: ولا شيء

يخلص اليوم، ناموا الاولاد، وهم ناموا، هم ازواج، قراب لكن بعاد


في مكان آخر 

صديقات في لحظة زعل، تحاول كل وحدة فيهم

انها توضح وجه نظرها

تقول الأولى: ما احسك تسمعني، لاحظت اكثر من مره أنك صرتي تحكمين علي، كأني قاعدة اشكل عليك عبء

ترد الثانية: لا ابدا، انا بس ابي اقويك واساعدك تطلعين من اللي انت فيه، وانا دايم موجودة لك، لكن انت اللي احسك من فترة بعيدة

يحاولون في حديث دائري الدفاع عن وجهات نظرهم، يتعبون، يختمون الكلام بأنه حصل خير

بعد كذا تباعدت لقاءاتهم، قلت وتيرة مكالماتهم، هم مع بعض باقي اصدقاء قراب لكن بعاد


في هذه المشاهد المألوفة، في تواصل، لكن غاب الاتصال

الكل تعثر في طريقه للآخر، ما اقدروا ياخذون وثبة لتجربة الآخر ، هذه الوثبة اللي غيابها يعني غياب الشعور العميق بالاتصال، يعني

الشعور بالوحدة مهما كانت المسافة بينهم قريبة


ليش صار كذا؟

في احتمالات كثيرة، اكثرها شيوعًا هو الخوف

 

 في مشهد الأسرة اللي ادرك احد افرادها انه يجهلهم، وانه هو كذلك مجهول، كان يحمل في داخله كل اللحظات والذكريات اللي تضمنت العنف، القسوة، التجاهل، عدم الاعتراف، لما تكلم وما فهموه، لما بكى ولاموه، لما هو نفسه انغلق ورفض يسمع لغيره لما كان لازم يسمع ويسأل، النتيجة لهم كلهم هي عدم الأمان المتبادل


في مشهد الزوجين، كان الخوف اللي يحافظ على مستوى سطحي من التواصل واللي يخلي أفق العلاقة ضيق، احتمال انه تعزز بالثقافة المجتمعية اللي قالت للرجل: (انتبه تشتكي لزوجتك بتحكم عليك بالضعف وبتفقد هيبتك)

نفس الثقافة اللي حذرت المرأة وقالت لها: (انتبهي تقولين لزوجك مشاكل عايلتك واي شي صعب كان في نشأتك ترا بيعاملك بشكل سيء) 

غابت الخريطة النفسية لكل واحد فيهم اللي تنبني وتنرسم لما كل واحد ينكشف للثاني فتصير عندهم خرائط نفسية لبعض تتضمن فهم لتجربة حياة كل واحد فيهم بشكل كامل، من خلالها يقدرون يقدمون الدعم اللازم لبعض  


في مشهد الاصدقاء، كان الخوف ايضا، خايفين يفقدون بعض، ختموا النقاش قبل يبدأ فعلا، قبل يتضمن وثبة كاملة، قبل يتحقق تعاطف وفضول أعمق، اللي يساعدهم يحلون المشكلة، حاولوا يهدون الوضع لكنهم بهذه التهدئة اللي ما تضمنت وثبة كاملة تركوا مسافة بينهم


في الصداقة على عكس الأسرة والزواج (نوعا ما) يكون الاتصال اساسي، في الاسرة ممكن يبقون عشان رابطة الدم حتى لو البقاء باهت، وفي الزواج ممكن بقائهم يكون بانشغالهم بالاولاد والبيت والمصالح المشتركة

أما في الصداقة الالتزام يكون عادة لأن في عائد معنوي: الاتصال

اللي اذا ضعف أو غاب تماما تفقد الصداقة معناها وتتلاشى…. ربما

 


الاتصال…. بديت افكر فيه بشكل عميق، بعد ما انتهيت من الدراسة والتدريب لممارسة مهنة العلاج النفسي، كان باقي لي اسبوع وابدا عمل عيادي خفت كنت اقول لمشرفي: معقوله باعالج انسان؟ كيف؟ 

قال لي مشرفي: لا تقلقين الخوف طبيعي، انتي جاهزة وتذكري العلاج النفسي هو بالكونكشن، احرصي على الكونكشن… قلت له: ايش هو الكونكشن… قال: ما ينشرح، شي يُعاش، بتعرفينه مع مرضاك، واذا عرفتيه احرصي ما تتأخرين فيه، المريض اذا ما صار كونكشن خلال أول ثلاث جلسات، يمكن ماعاد يرجع للعيادة

جيته بعد أسبوع، قلت له: فهمت عليك! الكونكشن/الاتصال هو هذيك اللحظة لما حسيت ان ما بيني وبين المراجع اي حواجز لما كنت حاسة فيه وهو حاس اني حاسه فيه، لحظة نشعر بإنسانيتنا المشتركة، لحظة فيها خشوع وقداسة شعور عظيم صعب ينوصف

قال مشرفي: بالضببببط، الان نقدر نتكلم عن العلاج النفسي


لاحظت من هذاك الوقت وعبر السنوات كيف تجربة الناس في العيادة مع هذا السهل الممتنع، كانت خبرة الاتصال تشكل الجوهر في تجربة علاجهم


 كارل روجرز، رائد المدرسة الانسانية في علم النفس، قدر يقبض على جوهر العلاج النفسي، وقال انه مو بالمحتوى، بل بالسياق الآمن، المتعاطف، المتقبل والأصيل، اللي اذا حققه المعالج مع المريض مهد له العلاج والتغيير، وليه هذا صار الاتصال جوهر العلاج؟ لأنه يلمس اهم احتياج نفسي عند الانسان، انه يلاقي شخص يحس فيه ويتقبله ويدعمه، هذا الاحتياج من أول يوم بحياتنا إلى آخر يوم…


وبنفس فترة روجرز كان فيه الفيلسوف مارتن بوبر اللي كتب كتاب بعنوان "أنا وأنت”أسسّ لفلسفة الحوار، وذكر إن إنسانية الإنسان ما تكتمل الا في علاقة

من خلال لقاء وحوار مع انسان آخر، احنا نوجد

حدد بوبر مظهرين للعلاقات

علاقة انا:انت

علاقة انا:هو

علاقة الانا:هو 

هي ان الآخر هو وسيلة، هذه العلاقة تكون بين الانسان والاشياء من حوله وتصير بين الانسان وانسان آخر كذلك، هي مثل علاقة الانسان مع سيارته هو يحبها لانها تؤدي وظيفة معينة وتنتهي العلاقة وينتهي الحب اذا توقفت عن عملها، ايضا العلاقة بين الزبون والبائع، كلهم يستخدمون بعض، هذه العلاقات ممكن تنظم حياتنا، لكن الكارثة اذا طغى على علاقاتنا هذا النمط اللي بيترتب عليه الشعور بالوحدة، الاضطرابات النفسية، العنف، وحتى الحروب…


اما علاقة انا: انت

هي اللي فيها لقاء مع الآخر يتضمن صدق متبادل وتقبل وتفهم وتعاطف، لقاء فيه حوار واتصال حقيقي، الحوار في هذا اللقاء مغامرة ما نعرف وين بنوصل بها، لكنها ايضا مغامرة نتجاوز فيها خوفنا، ونلاقي الأمان، وثبة نقررها، ونوجد من خلالها….


فكرت في الاتصال وايش السمات اللي إذا اجتمعت تمهد لحدوثه، أهمها:

الشجاعة،يعني تحمل الخوف والغموض،

نكون منفتحين مع الآخر نروح في الحوار معه واحنا متحملين الخوف والمجهول، ما نعرف ايش بيظهر لنا وايش بيصير بينا وكيف بيتلقانا الآخر، قادرين نحضر بأصالة ونقاوم خوفنا من اظهار ذواتنا، خوفنا من الرفض اللي ممكن يخلينا نخفي انفسنا أو نظهر بذوات مزيفة، هذا الخوف اللي لو تمكن مننا يخلينا نتخبى على أمل يتم قبولنا، وحتى لو تحقق القبول بعد مدة بنحس باغتراب ووحدة، بنفتقد الحميمية العميقة وبنفقد امكانية النمو في العلاقة….


كذلك التعاطف، التعاطف الحقيقي، اني استشعر شعور الاخر اتخيل اني بمكانه، اشوف الحياة من داخل تجربته هو، التعاطف الحقيقي لا يمكن يتضمن أحكام، اذا كان عندي حكم ممكن انا فقط اشعر بالشفقة، اذا كنت احكم على الشخص انه سيء أو هو جابها لنفسه، أو هو غبي، راح احجب شعوري عنه وما يتحقق الاتصال…

ايضا الفضول الحقيقي سمة مهمة، لما نطلب من الاخر يحكي لنا اكثر عشان نفهمه واذا فهمناه فهم حقيقي تعاطفنا، وشعر هو بأهميته وتحقق الاتصال…


في الأخير أختم بما قاله المنفلوطي:

«فلا أحبَّ للمَرءِ مِن أنْ يجدَ إلى جانِبهِ جليسًا يسْتطِيعُ أنْ يسْكبَ نفسَهُ فِي نفسِه… ويُفضِي إليهِ بسَرِيرةِ قلبِه.»


شكرًا