أحمد، والمدينة المنشودة
هل هي بعيدة؟
يقع بيت مهجور في أعلى الجبل الأخضر حيث ينوي أحمد أن يقصده في عطلة نهاية العام، وهو في خِضم أن يحاول قطع أيام العمل المُجهدة يتخيّل كيف ستكون الرحلة، هل سيصطحب أحدا معه؟ أم سيكتفي باحتفال البهجة مع نفسه ويخوض رحلة هذا العام كذلك باستكشاف حيادي معها؟
أم ربما سيكون الوضع مختلفا هذه المرة؟ لا ينكر أنه يستمتع كثيرا بصحبة نفسه ولكونه توّاق للتجارب الاستكشافية دائما يتسائل ماذا لو سافر مع مجموعة كبيرة مثلا؟ حسنا مع مجموعة أصغر؟ تبدو الفكرة صعبة بالنسبة له، ولكنه سؤال مُلحّ، يقول في حوار ذاتي أمام المرآة كالعادة، "رحلة استكشافية مع صديق حقيقي أرقب الطريق معه وفي نفسي موسيقى صاخبة من متعة الطريق ونحن لم نصل بعد لوجهتنا هل هناك أجمل؟" يفهم أحمد متعة طريق الرحلة كما لا يفهمها أي رحّالة آخر.
لكن كان يحتاج أن يتأكد بنفسه ويُمحّص الخطة جيدا، فأحمد حذِر ومُتأهب على الدوام، هذا الذي طاف العالم لوحده طوال عمره هل سيكون جريئًا بلا معيار؟ أو شجاعًا ببلاهة؟
ما كان يمنحه أمل نجاح الرحلة مع صديق ما هو أنه يملك أصدقاء رائعين من حوله، أصدقاء أكْفاء، سندٌ للوقت والأيام المريرة، وبدون ضحكتهم لا تكتمل الأفراح الغالية ولا تتلوّن الأيام العظيمة، لكنه يعتنق هذا المبدأ لأسباب شخصيّة ونفسيّة ومزاجيّة، إذ أنه يرى أن السفر أشبه بالرحلة في الروح، وهذا الاختلاط المفرط مع الناس طوال العام لا بد أن يتوّج في نهايته بصحبة غزيرة مع نفسه مرفأه ومنفاه، وأن اعتراك الحياة لا بد أن يؤجل قليلا إذ يكفي هذا النزاع المشتد مع الأيام عنوة، فلا شيء سيؤخذ كاملا لا محالة، والخسائر فظيعة، والدنيا لا تكتمل. ينتهي أحمد أخيرا من هندامه الأنيق المطوّل كل صباح قبل العمل، وهذا الوقت الطويل لا لأنه يبالغ فهو أنيق للغاية بوزنية متناسقة، لكنه يفتعل البطء لضبط تناغمه مع الحياة صباحا، يرشّ العطر بسخاء مقنن، وتفوح رائحة تشبهه، تشبه هذه الذائقة الرفيعة التي شكّلها جولان القارات ومخالطة الناس والأمزجة المختلفة، والغابات الجبليّة، رائحة تشبه هذه الروح التي تحنّ لشيء مغمور في أرض نائية لا يصل إليه أحد. ينزل درج العمارة التي يسكنها، وهو يصافح بيديه السلالم الخشبية بألفة وتحسّس، لا يمر أحمد من الخشبٍ مرورا خاطفًا، يعانق هذه الخطوط المرسومة عليه مثل الطرق الطويلة التي قطعها، وهذا الملمس الخشن مثل قسوة حياته حينا، والناعم مثل أولئك الأصدقاء الذين يمتن لله من أجلهم كلما كانت الأسوار شاهقة، والأنفاس قاتمة، والتفاصيل غير مرئية.
درج طويل متعرج بسلالم خشبية، هذا ما جعله يختار هذا البيت من بين ملايين البيوت التي لم تساوره الحيرة في التخلي عنها لأنها لا تملك أية مواد خام تُذكّره بنفسه، الخشب، واللون البني المفعم في المكان والأثاث الكلاسيكي، والأبواب المندلقة لا التي تنفتح للداخل أو الخارج بغباء يزاحم المساحة، وبالتأكيد قريب من مقر عمله فهو يحب المشاوير الطويلة في كل شيء إلا الطرق الروتينية. يحاول أن يسكب المعاني على طريقه هذه المرة، الطريق سالكة، وصامتة، والرياح عاتية، هل سيكون الثلج غزيرا هذا العام كذلك؟ يتفاجأ شيئا فشيئا بتكدّس السيارات أمامه، وباستياء يقول: "لا شيء جديد، الناس شرهة على الحياة بفزع اليائس." ثم يصمت. ثم يضحك على هذه الدراما التي يفسّر بها الأشياء حوله، والتي في المقابل يعتدّ بها لأنها زوادته وأحد أسرار تبادل الحوارات مع ذاته، الحوارات الفلسفية التحليلية المطوّلة مع نفسه.
انتهى يوم آخر من العمل، الكثير من الأوراق التي لا يكاشف أحمد نفسه معها، لأنها صمّاء وعبارة عن أرقام تكثر بها الأصفار على اليمين وهي لا تخصّه، الأرقام التي لم يتمناها يوما مع أن السفر يلزمه أموالا طائلة، لكنه يعتزّ بإدارته لأمواله بطريقة تكفيه في إقامته وسفره. أحمد يستخدم جانبي عقله بفاعلية، فهو ممتاز في الأرقام والحساب، ومتفوّق في الإبداع والعواطف، وهذه التركيبة الخلاّبة جعلت منه شخصا متفرّدا بطريقة يتقنها، فهو منطقيّ الأفكار وساحر الوصف، عاصف الروح ومهذب الجانب، يدير أموره بدهاء وحذر ويستقبل النتائج بتؤودة وتقبّل.
ربما أن المدينة المنشودة محسوسة وقريبة!
عاد للمنزل فتح الباب وإذ بالأبواب المندلقة التي يفاخر بها أصدقائه الساخرون منه على ذوقه فيها تتزحلق بجنون وتتعالى أصوات الاصطدام بين الأبواب ونهايات الجدار، والستائر تطير كالحمامات الساخطة المرفرفة بجزع، التذكارات من حول العالم تتساقط على الأرض فانطلق راكضا للإمساك بها واحدة بعد الأخرى وهو يقول "إلى متى.. إلى متى سأترك النوافذ مفتوحة في هذا الطقس المُتغيّر في ثواني، يا لمعضلة النسيان معك يا أحمد!"
التذكارات تتساقط بتزامن وتجاذب وهو يحاول إنقاذها، كان كراقص الباليه لكن الذي يتعلّم، عندما مسك الأخير، تذكار أرض الشمال ارتاح لإنقاذه لما له من معزة خاصة عنده وإذ بتوازن راقص الباليه يختلّ فسقطت الأبجورة التي قضى معها أزمنة طويلة من السهر، تجهّم وبدأ بجمع قطعها مرغما، وهو يتمنى أن قابلية إصلاحها ممكنة. لم يرى أحمد شيئا كذلك من قبل فالرياح هذه المرة كانت مدويّة وتهبّ بضراوة كالتي في قلبه، كالحزن المشوب في وجهه، والروح الضامرة التي يراهن على أنه لو تحرر من هذه المدينة سيكون هذا هو الحل الأكيد ولكن إلى أين يذهب؟ هذا الذي تمعّر وجهه في الأرض يجوبها بدعوى الاستكشاف الكاذبة، وإذ به يفتّش عن مدينة فارقة وهو غير مدرك، مدينة ليست عصرية ولا حضارية، وليست قرية أو ريفا مسطّح المساحات الخضراء، مدينة تأتي إليه، تستقر في قلبه، تفرش الحياة في هذه الروح المتطلعة ولكن الإمدادات تقصُر عنها، مدينة ينتقل إليها داخل نفسه هذا المأمن العزيز الذي يعرف ملامحه مهما تهاوى واهترأ، هذا الظلام الفسيح فيه الذي يعرف إشعال زيته لأنه يستسقي الضوء من فتلة وتين قلبه.
مرة بينما هو سائر في ظلام ملموس حوله ومعنويّ فيه، والأفكار تتلاطم أمامه، تسائل:
هل مدينتي المنشودة في السماء؟
توقف فجأة، هاله السؤال، يخيفه هذا الحد من الفنتازيا في خياله، يعذّبه هذا التمادي في الأمنيات الغريبة، والمألوفة كذلك، لأن من عانى في شبابه من اكتئاب حاد يفهم مدى سوداوية الأفكار مثلها. ثم مشى قليلا، وعاود الوقوف ثانية، لماذا هي فكرة سوداوية؟ هذه السماوات الزرقاء المؤذِنة بالرحابة، والابتسام المفرط، والغيمات الرقيقات، والأحضان الغامرة للوجوه الشاخصة للأعلى برجاء، لماذا يكون الموت سوداوية حينما أفكر فيه؟ تهادت نسمة لطيفة، لِمس وجهه وإذ به يَبرُد، يرتب لحيته المهذبة أساسا، رفع طرفه للسماء بهدوء مبالغ به، كأنه يريد الطأطأة ولكنه يدفع وجهه للأعلى، يخيّل إليه أن السماء تردّه وقلبه يؤزّه، استقر وجهه للأعلى، السماء مفرودة أمامه، فسيحة وحانية مثل أمه، مدلهمة، والبدر وضّاءٌ بشكلٍ مهيب، والنجوم تتلألأ كأنها ترقص، "والله إنها ترقص" يردد أحمد بذهول هائل.. تأمل طويلا، تكرّر سؤاله:
هل مدينتي المنشودة في السماء؟
امتعض قليلا، لأن تضارب عقله وقلبه قد احتدّا، الهلع والرهبة والبهاء والفظاعة في المشهد تهتز في كيانه.. أكمل خطواته، محاولا نسيان السؤال، لكنه وجد الإجابة في النجوم! نعم في النجوم وهي تتباهى بموتها وتلمع بإصرار وإثبات وجود، النجوم التي لم تخف من الموت وانقطع توهجها، النجوم التي ترحّب بالظلام وتحتوي العتمة، التي هي مثل الفتحات الصغيرة للأنفاس العميقة، يصرخ أحمد: أعرف هذا، أعرف هذه الصفات، أعرف هذا الظلام والضياء، أعرف هذا التطلّع للحياة، إنها السماء إنها روحي!
يصرخ بانتصار،
إنها السماء.. إنها روحي!
وصل لمنزله،
كائنا شاحب اللون أتى من خارج كوكب الأرض كما وصف نفسه أمام المرآة بالدراما التي يضحك عليها، أحكَم إغلاق النافذة، تمدّد في سريره، تفحّص قلبه، وردّد بطمأنينة:
مدينتي المنشودة هنا.