الإمبراطور «ميجي»
لطالما تهادى إلى أسماع العرب اسمُ “ميجي” ذلك الإمبراطور العظيم! المُنجِز! الذي غيّر التاريخ! الذي نُعِت دومًا بـ”الإصلاحي”! ولكن.. هل نعرف عنه غير ما يُنعَتُ به؟ أو بالأحرى؛ ماذا نعرف عن ميجي؟ هُنا وفي هذه المقالة سنحاولُ تقديم مُقدمةٍ قصيرةٍ عن ميجي، نعدكم ألّا نَغرَق في التفاصيل، وألّا نختصرَ اختصارًا مخلًا.
مطلع عام 1867 توفّي الإمبراطور “كومي” وأورَثَ ابنه “موتسوهيتو” العرش، والذي عُرِف فيما بعد بـ”ميجي”، قاد ميجي فورَ توليه الحكم سلسلة معارك أخضَع فيها قادة نظام الشوغن وأنهى عصر “الإيدو” واستفرد لوحده بالسلطة، وألغى الهيكل الإقطاعي للبلاد وقسّم البلاد على أساس محافظاتٍ إدارية تتبع الحكومة الإمبراطورية، وبعد توليه سدة الحكم بعامين أي في 1869 قرر نقل العاصمة إلى مدينة “طوكيو” في الشطر الشرقي من البلاد، واستمرت “طوكيو” عاصمةً للبلاد حتى يومنا هذا. التفتَ “ميجي” حينئد للجوانب الاقتصادية للبلاد، وأطلق برنامج ابتعاثٍ ضخم لموظفي الإمبراطورية وطلابها، إلى الغرب، وأصدر أوامره بنشر المفاهيمِ الغربية والاقتصادية في البلاد، جالَ الطلاب والموظفون اليابانيون أنحاء أوروبا وأميركا، درسوا بأفضل الجامعات والمدارس، واطّلعوا على أحدث التقنيات وآليات العمل والحوكمة الإدارية، تشبّعوا بالفلسفة الفكرية الغربية، وآمنوا، تماما كما آمن “ميجي”، بأنه يجب أن تُدرَس التجربة الغربية لمعرفة سرّ النجاح، وتطبيقه. حينَ عاد الطلاب والموظفون من بعثاتهم لليابان، عيّنهم ميجي في الحكومة، فأنعشوا جهازها الإداري، وفي ذات الوقت استقدمت اليابان أكثر من 3000 خبير ومهندس ومستشار غربي للمساعدة في تحديث البلاد، فتولّى الألمان إصلاح وتحديث النظام التعليمي وانخرطوا في مجالات عدة، وبعد عقود قليلة توقف استقدامهم تزامنًا مع استيفاء الخبرات الوطنية. ازدهرت حركة الترجمة، وتزايدت جموع المثقفين والجركات الثقافية والفكرية المُطالِبة بالحذو حذو الغرب، وتحقّقت أحد مطالبهم بالفعل وتمت ترجمة أعمال أدبية عالمية من إنجلترا وفرنسا وأُدرِجت في النظام التعليمي الرسمي للبلاد. وفي ذات الوقت ركز “ميجي” على الصناعة وتمّ مد أول خط سكك حديدية بين طوكيو ويوكوهاما، وشهدت البلاد تطورًا تقنيًا حينئذ، حيث استُخدِم التلغراف على نطاق واسع باليابان، واستنارت الشوارع بالإضاءة الكهربائية، وانتشرت وسائل النقل الحديثة، وعُبِّدت الطرق. كانت معظم الشركات اليابانية واحدًا من اثنان؛ إما شركاتٌ حكومية، أو شركاتٌ عائليةٌ تعتمدُ على التجارة الخفيفة والتقليدية والزراعة، فخصخص “ميجي” الشركات الحكومية وأدرجها في السوق للعموم، أو باعها للتجار، وعَمِل على دعم الشركات العائلية والعناية بها ودفعها لدخول المجالات الصناعية والتجارية القوية، وعَمِل على دعم القطاع الخاص ومضاعفة أعداد الشركات، فعلى سبيل المثال شركاتٌ كلٍ من “ميتسوبيشي” و”ميستوئي” كانت شركات عائلية اندفعت لمجالات الصناعة وأسست إمبراطوريات رأسمالية عالمية. وأسس “ميجي” كذلك بنك اليابان الوطني -والذي يشابه إلى حدٍ ما مهامّ البنك المركزي اليوم- وسكَّ أول عملة وطنية يابانية وهي عملة الينّ.
أولُ ما سنّه “ميجي” هو مرسومٌ ألغى بموجبه الطبقية في المجتمع، حيث أصبح المجتمع مكوّن من طبقتين؛ أرستقراطية، وعامّة الشعب، بعد أن كان مكونًا من أربع طبقات. مع مرور الوقت تزايدت الضغوط من النخب والشعب على “ميجي” لكتابة دستور للبلاد فوعدت حكومة “ميجي” بكتابة دستور عام 1875، إلّا أن أزمة اقتصادية أجّلت مشروع المسودّة الدستورية ولم يُكتَب الدستور المعروف بـ”دستور ميجي” إلّا عام 1885 على يدّ رئيس الوزراء “إيتو هيروبومي” والذي اقتبَسَ نصوصًا من دستور البلاد من دستورِ ألمانيا. بموجب الدستور شُكِّل مجلس “الدايت” الياباني وهو مكوّن من مجلسان فرعيان، الأول مجلس الشيوخ والذي يعيّن أعضاؤه من “ميجي” شخصيًا، والثاني مجلس النواب والذي تختار الطبقة الأرستقراطية -فقط- أعضاءه، ومَنَحَ الدستور صلاحياتٍ مُطلقة لـ”ميجي” حيثُ ولّاه قيادة السلطة التنفيذية والتشريعية والجيش والقضاء وحقّ إصدار مراسيم وقوانين وتعديلات دون شرط ولا قيد ولا موافقة أحد، حتى لو كان قد تمّ التصويت على هذه المراسيم أو القوانين. شعرت حكومة “ميجي” بأهمية تأمين الحدود الشمالية والشرقية أمام روسيا، والصين، فقررت إصلاح الجيش، فتولّى الفرنسيون إصلاح القوات البرية، وتولّى الإنجليز تحديث القوات البحرية، وبعد عدة مناورات استطاعت اليابان أن تبسط سيطرتها على كافّة أراضي جزيرة “هوكايدو” لأول مرة في التاريخ الياباني. كانت اليابان في عهد “ميجي” أوتوقراطيةً ليبراليةً مُستنيرة.
حققت اليابان في عهد “ميجي” إنجازاتٍ متعددة، فعلى سبيل المثال كانت تُصدّر 50% من إنتاجها المحلّي للفحم الأسود للخارج، وشكّلت نسبة الاستثمار في الصناعة والنقل عام 1899 نسبة 45% من إجمالي نسبة الاستثمارات في اليابان، وحقق قطاع البنوك والتأمين نسبة 40.5%، وتنوَّعت النسبة المتبقية على بقية القطاعات بحصص متفاوتة. وفاق عدد المصانع مطلع تسعينات القرن التاسع عشر المائتي مصنع، ولكن ظلّت الزراعة ركيزة الطبقة الوسطى في عهد “ميجي”. وفي جانب الموارد البشرية، وخلال أقل من عشر سنوات فقط، ارتفع عدد الإناث المتعلمات من 10% إلى 19%، والذكور من 43% إلى 45%، وارتفعت مهاراتهم وخبراتهم التي اكتسبوها من الغرب ومن التدريب التقني والمهني بشكلٍ ملحوظ. رَسّخ ميجي فكرة “الاستبدادية المستنيرة المتقدمة فكريًا عن البقية” كضرورة للتقدّم الإجتماعي والاقتصادي والفكري والسياسي، واستتباب الأمن والقانون في وقتٍ كانت فيه الدول المجاورة كروسيا والصين وبعض الدول الأوروبية تحاول احتلال السوق الياباني برأسماليتهم، وفرض اتفاقيات تجارية مُجحِفة بحق اليابان، ومناوءة اليابان ومحاولة عزلها وإضعافها سياسيًا. توفّي “ميجي” عامَ 1912 وتولّى ابنه “تايشو” سدّة الحكم وابتدأ عهد “تايشو” في التاريخ الياباني. بعد مرور أكثر من 100 سنة على وفاة “ميجي” لا زال المحللون والمؤرخون والقرّاء حيارى.. هل كان ميجي مُصيبًا؟