من جميل المناسبات في القرآن الكريم اختيار الاسم لله تعالى المتناغم مع الدعاء ونوع الطلب.

وثمة نوعٌ آخر من التناسب القرآني وهو التناسب بين النعمة وطريقة شكرها، وهو نوعٌ بديع حريٌّ بالمؤمن التأمل فيه وتطبيقه في حياته.

 ولتوضيح ذلك دعونا نرجع إلى قصة موسى -عليه السلام-، فها هو يقف بعد وَكزِه "الذي هو من عدوه" فقضى عليه، عندها أدرك خطورة ما فعل، وانطرح بين يديه ربه ليطلب منه:" قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي فَٱغۡفِرۡ لِي فَغَفَرَ لَهُۥٓۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ   

ثم تأتي آية التناسب:" قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ فَلَنۡ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلۡمُجۡرِمِينَ  " القصص: ١٦ – ١٧

لن نناقش هل هذه الجملة أهي خبر أم دعاء، ولكنا سنسلط الضوء على نعمةٍ يقابلها شكر،

النعمة:" قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ "  يقابلها الشكر " فَلَنۡ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلۡمُجۡرِمِينَ  " ، فما مناسبة العهد المطلق بعدم مظاهرة المجرمين بالنعمة؟

أولاً: ما النعمة التي يتحدث عنها موسى -عليه السلام-؟

اختلف المفسرون فبعضهم قال نعمة المغفرة "فغفرله"، لكن ليس لدينا دليل على علم موسى-عليه السلام- بالمغفرة إذ لم يكن أوحيَ إليه بعد، وإنما أخبرنا الله بقوله "فغفرله"، فالمسألة تحتمل كلا الأمرين العلم وعدمه!

ثم لو كانت نعمة المغفرة لربما كان مناسباً أن يقول فلن أكون عاصياً، أو لن أفعل المعصية أو نحوها!.

وبمعنى آخر لابد من الربط بين النعمة والشكر(العهد) الذي أخذه على نفسه بقوله "فلن أكون ظهيراً للمجرمين"، وهذا ما نعنيه بمناسبة النعمة والشكر، كما يقول أحدهم بما رزقني الله من المال لأتصدقن على الفقراء والمحتاجين، والآخر بما وهبي الله من العلم لأعلمن الناس، فشكر العلم بالتعليم وشكر المال بالإنفاق في سبيل الله وهكذا.

ومن هنا كان الأليق أن تكون النعمة هنا ما أشار إليه بعض المفسرين وهو معرفة حقائق الأمور واكتساب الحكمة والعلم الموثوق فزال الإلتباس وأنقشعت الظلمات وبان الحق، وإنما كان الجهل والظلام بسبب المجرمين من فرعون وقومه، فناسب أن يكون شكر تلك النعمة بعدم معاونة المجرمين على سبيل الديمومة "فلن أكون ظهيراً للمجرمين".

"والظهير النصير. وقد دل هذا النظم على أن موسى أراد أن يجعل عدم مظاهرته للمجرمين جزاء على نعمة الحكمة والعلم بأن جعل شكر تلك النعمة الانتصار للحق وتغيير الباطل لأنه إذا لم يغير الباطل والمنكر وأقرهما فقد صانع فاعلهما، والمصانعة مظاهرة"[1]

"المعنى أقسم بإنعامك علي لأتوبن فلن أكون معيناً للكفار بأن أصحبهم وأُكَثِّر سوادهم، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم أنسب بالمقام".[2]، فاعتبر موسى بقاءه مع فرعون وسكوته عليه تكثيرٌ لسواده ونصرةٌ له، فقطع على نفسه عهداً بنصرة المؤمنين وعدم مظاهرة المجرمين فنصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع.

فاقتداءاً بموسى وتطبيقا لكتاب ربنا، فعلى كل من رزقه الله معرفة الحق واستبانة الطريق أن يشكر المنعم عليه بمناصرة المؤمنين وعدم مظاهرة المجرمين، والمجرم هو كل مَن فعل ما يستحق العقوبة وأعظم الجرم الكفر والظلم، فمن أوليات شكر نعمة الهداية العهد بعدم مظاهرة المجرمين الظالمين وتطبيقها واقعاً، خاصة حينما يكون الظلم متعدياً ومستمراً.

أما صور مظاهرة المجرمين فتُعد ولا تُحصى وضابطها كل ما يعين المجرم والظالم في الاستمرار بظلمه والتمادي فيه بأي شكلٍ كان كالقول والفعل والسكوت وغيره، وقد ضرب سلفنا وعماؤنا الربانيون على مدار تاريخنا أروع الأمثلة بعدم مظاهرة الظالمين المجرمين، فلم يكن علمهم مجرد معلومات تُقال وتُحكى وإنما كانوا قدوات تُذكر وتُحتذى، وسأكتفي بذكر بعضها:

v   قال عبيد الله بن الوليد الوصافي قلت لعطاء بن أبي رباح: إن لي أخا يأخذ بقلمه، وإنما يحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وادان؟ فقال : من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله القسري، قال :أما تقرأ ما قال العبد الصالح: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين.

v   قال أبو بكر المروذي: لما حبسوا أحمد بن حنبل في السجن جاءه السجان، فقال: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم، قال السجان: فأنا من أعوان الظلمة؟ قال له: أعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن الظلمة أنفسهم"

v   وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال: إني خياط وربما خطت شيئاً لبعض وكلاء السلطان فماذا ترى أكون من أعوان الظلمة؟ قال:لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الإبر والخيوط.

v   وهذا سفيان الثوري مع المهدي، وكان بيد المهدي درج أبيض وقد أُدخِل عليه الثوري فقال له: يا أبا عبد الله أعطني الدواة حتى أكتب، فقال: أخبرني بأيّ شيء تكتب، فإن كان حقّاً أعطيتك وإلاّ كنت عوناً على الظلم.

واختم ببعض الآثار:

v   ورد في الأثر:"إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق، وفي خبر آخر: من أكرم فاسقاً فكأنما أعان على هدم الإسلام."

v   وجاء في الأثر: إذا كان يوم القيامة قيل: أين الظلمة وأعوانهم؟ أو قال: وأشباههم فيجمعون في توابيت من نار، ثم يقذف بهم في النار.

v   وقد جاء في الخبر: "من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبَّ أنْ يُعصى الله عزّ وجلّ."

 

أظننا علمنا ووفقنا إلى الحق ليردد كلٌ منا ويُعاهد ربه

"رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ"

 


[1] التحرير والتنوير لابن عاشور (ت 1393هـ)

[2] تفسير روح المعاني الالوسي (ت 1270هـ)


Join