بين الحُب والجنس، تعلق.


عن نظرية التعلق وتأثيرها على طريقتنا في الحُب وسلوكنا الجنسي مع الشريك

حاجتنا لشخص نتشارك معه الحياة هو جزء متأصل في طبيعتنا الإنسانية ولا علاقة لتلك الحاجة بمقدار حبنا لذواتنا أو بمدى براعتنا في أن نكون سعداء بمفردنا



إنّ طبيعة استقرارنا العاطفي والنمط العاطفي الذي نتخّذه مع شركائنا أو أزواجنا وأصدقائنا في المستقبل يتأثر بصورة واضحة بالشهور والسنوات الأولى من طفولتنا، فكيف يحدث هذا؟

بداية القصة.

يقال أن عالم النفس جون بولبي عندما كان في السادسة من عمره رحلت عنه مربيته وألمه هذا الرحيل بشدة و وصفه بأنه كوفاة أمه، هذه الحادثة ألهمته البحث عن ظاهرة التعلق بالمربي، ومن هنا ظهرت

نظرية التعلق Attachment theory

وهي من أشهر النظريات في علم النفس اليوم، إن أحد أهم الدوافع الرئيسية التي قادت جون بولبي لتطوير نظرية التعلق فيما بعد هي رغبته في إيجاد الأفكار العلمية التي تبرز ما يرى أنه مستبعد علميًا في التحليل النفسي، إن الجسر الأساسي الذي يصل بين أفكار فرويد وبولبي حول خبرات الطفولة وتأثيرها على نمو الإنسان هي نظرية التطور، لأنها تدعم الأنظمة السلوكية التي هي أحد جذور نظرية التعلق، لكن الاختلاف بين النظريتين في تأثير ظروف الطفولة على شخصية الإنسان هي أن فرويد اتخذ الجنس موضوعًا أساسيًا لنظريته بينما بولبي اتخذ الأمن موضوعه الرئيسي.

نتيجة لأبحاث بولبي السابقة تم تطوير نظريته على الأيتام والمشردين بعد الحرب العالمية الثانية، وقد وجدت هذه النظرية أن التعلق سلوك فطري طبيعي في فترة الطفولة لأن الطفل في هذه المرحلة بحاجة لتكوين علاقة اجتماعية حميمية مع شخص واحد وغالبًا ما يكون هذا الشخص أحد الوالدين وتحديدًا الأم، إن بولبي لا يفترض كغيره أن العلاقة التي تكون بين الطفل وأمه هي علاقة قائمة على تلبية الاحتياجات البيولوجية كالطعام والشراب!

بل هي علاقة قائمة على تقديم مشاعر معنوية كالأمان والاحتواء للطفل.

ينشأ سلوك التعلق لدى الطفل عند بلوغه عمر ٦ أسابيع وتزداد في شهره الثامن وتصل للقمة عندما يبلغ سنتين، وبمرور الوقت والأيام تنخفض حدة هذه الرابطة التعلقية عندما يصل الطفل إلى السن المناسب للدراسة، في ذلك السن يفترض أن الطفل قد طور علاقة سليمة جدًا وخالية من التعلق مع والديه.

يعد القلق والخوف من الانفصال خبرة مؤلمة لابد أن يمر بها كل طفل أثناء مرحلة الطفولة ولكن لكي يتخطاها بشكلٍ سليم لابد أن تتم مساعدته على تخطيها قبل سن السادسة الذي هو سن النضج العاطفي والنفسي لدى الطفل تجاه المربي.

لذلك يعتبر غياب الأم عن الطفل لفترات طويلة أثناء فترة طفولته وسنواته الأولى وتعلقه بها عاملًا مهددًا لسلامة نموه النفسي والشخصي والعاطفي والاجتماعي.


يمر الإنسان بتفاعلات اجتماعية كثيرة طوال حياته يتأثر بها لكن أثبتت الدراسات أن خبرات التعلق في الطفولة ذات تأثير كبير على العلاقات الخاصة بالفرد عند بلوغه وتحديدًا تلك التي تتسم بالعاطفة والحميمية.

إن الروابط الأولى في حياة الطفل غالبًا ما تبقى ثابتة وخاصةً تلك التي لها علاقة بالأم، فهي معتقدات جوهرية لاواعية لا تخضع للتغيير ولا الاستبدال إلا في حالات الصدمة الشديدة أثناء فترة النمو.

فعلى سبيل المثال: يعد انفصال الأم وابتعادها عنه في سنواته الأولى صدمةً لدى الطفل وبالتالي هذه الصدمة ستغير من نمط التعلق لديه من آمن إلى غير آمن.



كيف يحدث هذا التغيير؟

ولماذا؟


يعتقد بولبي أن الطفل يتفاعل مع رمز التعلق عبر ما سماه النماذج الداخلية وهي معتقدات ذاتية عن الطفل نفسه ورمز التعلق المقصود فيه الأم أو الشخص المربي، هذه المعتقدات هي في غالب الأحوال ستحدد نمط تفاعل الطفل في علاقاته مستقبلًا.


فعلى سبيل المثال عندما يتم رفض الطفل ومعاملته بقسوة ويتم إهماله وعدم الانتباه لاحتياجاته أو بالغ الوالدان في حمايته وتدليله فهو غالبًا سيطور نمطًا سلبيًا عندما يخوض في علاقات عاطفية مستقبلًا، حيث سيصعب عليه الثقة بالآخرين والاعتماد على شريكه وسيشعر بإنعدام الحُب وهذه كلها مؤشرات وسمات لنمط التعلق الغير آمن، حيث يكون فيه الشخص اعتماديًا وشكاكًا وساخطًا ومترددًا ولديه عدة سلوكيات تعكس افتقاره إلى استراتيجيات التفاعل الاجتماعي السليم.


أما إذا كان رمز التعلق شخص محب وداعم ويمكن الوثوق به في إشباع حاجات الطفل بلا إفراط ولا تفريط سيطور الطفل نماذج إيجابية بأنه جدير بالمحبة ويتوقع أمورًا ايجابية من الآخر وبالتالي يشكل نمط آمن للتعلق.

                          وبناء على ذلك اقترح العلماء    

أنماط التعلق لدى الراشدين

  • نمط التعلق الآمن: وهي المعتقدات الإيجابية التي يحملها الفرد تجاه نفسه وتجاه شريكه، حيث يتميز الفرد هنا بالتقدير العالي تجاه ذاته ولديه مستوى عالي من المهارات الاجتماعية التي تمكنه من الخوض في العلاقات مع الآخرين بكل سهوله، لا يخشى صاحب هذا النمط الرفض ولا يثير قلقه تقرب الآخرين منه ومنحهم الثقة بل في أسوأ السيناريوهات التي من الممكن أن تحصل له في العلاقة هو يملك قدرة على التكيف في حالة الهجر والتخلي، علاقاته غالبًا ما تكون متزنة وقائمة على الأخذ والعطاء بإتزان وبلا تسلط ولا تبعية مع الشريك، هذا النوع من التعلق يحقق توازن وحميمية واستقلالية للفرد وشريكه. 

  • نمط التعلق المنشغل القلق: وهي المعتقدات السلبية التي يحملها الفرد تجاه نفسه ولكنه في نفس الوقت يحمل معتقدات ايجابية تجاه الشريك، في هذا النمط يسعى الفرد بإستماته إلى استحسان الشريك ويتوقع من الشريك القبول الكلي لهذه الأفعال المفرطة الحميمية ولا يقتصر سلوكه على هذا فحسب! بل يصاحب هذه المحاولات للقبول من الشريك شعورًا بالقلق والاندفاع في العلاقة.

  • نمط التعلق التجنبي الرافض: أصحاب هذا النمط يميلون إلى حمل معتقدات ايجابية تجاه ذواتهم وسلبية تجاه الآخرين، فهم يسعون للاستقلالية ويمارسون سلوكًا تجنبيًا للعلاقات لشعورهم بأنهم مكتفين ذاتيًا، بل يعتقدون أنهم محصنين ضد العواطف والمشاعر ويميلون بدرجة كبيرة إلى كبت العواطف لو راودتهم والانسحاب والإنكار.

    وعندما يرتبطون يظلون في بحثٍ مستمر عن حجج للابتعاد عن الشريك.

  • نمط التعلق التجنبي الخائف: أصحاب هذا النمط يحملون تصوراتٍ سلبية تجاه ذواتهم وتجاه الآخرين، ولديهم تردد ومشاعر مختلطة في العلاقات الحميمية، يودون خوض العلاقات والتقرب من شخص ما لكنهم لا يشعرون بالراحة عندما يقترب منهم أحد، يميلون لعدم الثقة بالشريك وكبت مشاعرهم لاعتقادهم بأنهم غير جذابين وعديمي القيمة وبالتالي لا يستحقون الحُب.

النمط التجنبي هو الأقل سعادة والأكثر عرضة للإضطرابات النفسية حسب أحد الدراسات.

وجد الباحثون أن لكل واحد منا نمط واحد أو أكثر يغلب علينا في العلاقات وهو المسؤول عن توافقنا مع شخصٍ ما أو العكس، وعن مستوى الرضى لدينا عن علاقاتنا الشخصية.


حذاري أن تعتقد عزيزي القارئ أن هذه التصنيفات مرضية!

هي ليست كذلك، هي تصنيفات تصف طبيعة البشر حول سلوكهم في العلاقات وطريقتهم في الحُب ومنحه لشركائهم فيما بعد.


كيف تؤثر نظرية التعلق على سلوكنا الجنسي مع الشريك؟

في أحد الدراسات حول تأثير نظرية التعلق في سلوكنا الجنسي عند الكبر، توصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن أنماط التعلق تسبب صعوبات جنسية لأنها تؤثر على مستوى الإثارة الجنسية لدى الشركاء، ولأن الجنس الجيد يتوقف على الشعور بالأمان وخصوصًا عند النساء هم أكثر معاناة في العلاقات من الرجال.


إن شعور الرضا الجنسي مع الشريك يحسن من شعور الرضا العام للعلاقة، لذلك وجود نمط من أنماط التعلق لدى أحد الشركاء يؤثر على العلاقة.

أصحاب النمط التجنبي

يميل أصحاب هذا النمط إلى تجنب العلاقة الجنسية مع الشريك والإنسحاب العاطفي ومحاولة الاعتماد على الذات لإشباع هذا الجانب، فيميلون لإستخدام المواد الاباحية والاستمناء لكي لا يمارسوا الجنس المتكرر مع شركائهم.


أيضًا يميل أصحاب هذا النمط إلى نزع الحميمية من علاقتهم الجنسية والقيام بها لأسباب ذاتية كأن يتخلصوا من التوتر مثلًا!


أصحاب النمط القلق

يميل أصحاب هذا النمط لإرضاء رغبات شريكهم واعطاءها الأولوية على رغباتهم الذاتية، وفي أحيان كثيرة قد يمارس أصحاب هذا النمط الجنس وهم لا يودون ذلك لأجل إرضاء الشريك ورغباته، لذلك في كثير من الأحيان أصحاب هذا النمط لديهم سلسلة علاقات جنسية عابرة مع شركاء جذابين جنسيًا آخرين يقومون بتحقيق الرضا لديهم بدلًا من الشريك الذي أهمل رغباتهم ولم ينتبه لها، إن دوافعهم في هذه العلاقات المتعددة ليست قوة الرغبة الجنسية! 

بل هي حاجتهم لتعويض شعورهم بالقبول والحُب من الشريك الذي لم يمنحهم إياه في المقام الأول.

رغم أن هذه النتائج قد تبدو سيئة للبعض لكنها جيدة من ناحية أنها تسمح لأصحاب هذه السلوكيات الجنسية المفرطة التعلق بتفريغ طاقاتهم الجنسية وبالتالي هذا قد يسمح لهم بتقليل سلوكهم التعلقي تجاه الشريك والسماح لأنفسهم بالإنخراط في تجارب جنسية حميمية أخرى قد تساعدهم مستقبلًا في العثور على شخص يفهم ويقدر احتياجاتهم بشكل عميق وحقيقي وليس لحظي.

إذًا.. ما الذي نستطيع فعله لتحسين علاقتنا بالآخرين؟

قام هازن وشيفر بنشر استبيان عبر الصحيفة لمعرفة أنماط التعلق لدى القراء، وكانت النتائج مذهلة!

ينصحان بأن أول خطوة وهي الأهم ومن الواجب علينا فعلها لتحسين علاقتنا بالآخرين وتحديدًا شركائنا هي معرفة لأي نمط من أنماط التعلق ننتمي. وأن ننشر هذه المعلومات والأنماط حتى يستطيع الآخرون تخمين مالذي يمكن أن يتعرضوا له في علاقاتهم المستقبلية.


إن الموضوع ليس صعبًا كما يبدو، هو فقط يحتاج إلى تمرين صغير حتى نشعر بالحُب مع الشريك والأمان.


شاهد الفيديو للإستزادة:

الخلاصة

منذ خلق الإنسان وهنالك عاطفة بشرية فطرية تسمى الحُب، وهذه العاطفة بالتحديد لها العديد من الوجوه.

بالنسبة لي أعتقد أن الجنس هو سر نجاح أو فشل أية علاقة حُب على وجه الأرض.

قد يتسائل البعض من أين لك هذا التأكيد على أن الجنس هو سر نجاح أو فشل هذا الحُب أو العلاقة بشكل عام؟ 

أظن أن الباحثين في دراسة السلوك الإنساني عندما يقومون بدراسة شريحة من شرائح المجتمع ويركزون على طبيعة العلاقات فيما بينهم والتي يلعب الحُب والجنس العامل الرئيسي فيها يستطيعون الاستنتاج أن الحُب والجنس وجهان لعملة واحدة، صلاح ونجاح الأول يقود للثاني.

لذلك كانت نظرية التعلق وخبرات الطفولة الأولى موضوعًا مثيرًا بالنسبة لي في تفسير انجذابنا العاطفي وسلوكنا الجنسي مع الشريك.


إن الموضوع طويل ويحتاج لأكثر من تدوينة ومقالة لكي يتم فهمه بشكل صحيح، لكنني حاولت أن أفسره بأسهل طريقة ممكنة وفي النهاية يبقى هذا الطرح مجرد وجهة نظر قد تحوي طرحًا علميًا بعض الشيء!

لكن من يحدد صحة هذا الطرح من عدمه هو القارئ الذي لابد له أثناء القراءة أن استغرق بعض الشيء في لحظات تفكير عميق وقام بإسقاط بعض هذه التفسيرات على نماذج واقعية واجهها في حياته.


المراجع