الفقد والفجيعة
مشاعر الحزن المتعلقة بالموت عند الأطفال
الأشياء الثمينة لا تتكرّر مرتين، لذلك نحن لا نملك إلّا أبًا واحدًا.
“الموت لا يعني الرحيل”
تأثرت كثيرًا بهذا الحوار وهذه الجملة، إن مسلسل The Haunting of Hill House & The Haunting of Bly Manor من المسلسلات الرائعة والتي قد يعتقد الأغلب أنها مرعبة بسبب ما توحي به أسمائها، مطاردة أشباح واستحواذ شرير، لكنها على العكس تمامًا.
هي أعمق من ذلك بكثير، هي تركز على المشاعر والذكريات والحوارات العميقة لما نقمعه في اللاوعي، حيث تتجسد أسوأ وأكثر ذكرياتنا رعبًا في زوايا روتيننا اليومي المعتاد، انعكاس المرآة أثناء الاستحمام، صوت صرير الباب عندما نكون لوحدنا، وصوت الأقدام في ساعات الليل المتأخرة.
دعوني لا أستطرد الحديث عن المسلسل وأركز على مضمون التدوينة الذي ألهمتني به شخصية الطفلة “فلورا”
قصة قصيرة
عندما كنت في الثانية عشر من عمري، وفي يوم الأحد من عام ٢٠٠٨، الساعة الحادية عشر ظهرًا، تنفتح أبواب الحافلة المدرسية ذات اللون البرتقالي، أحمل حقيبتي عائدةً للمنزل بعد يوم دراسي تقليدي، أجد والدتي الحامل في شهرها السادس مستلقية تستريح، أصعد لغرفتي أغير ثيابي وأستريح حتى موعد الغداء، في دقائق معدودة أسمع أصوات خالي وعمتي، جدتي وصوت بكاء أمي، بخطوات ثقيلة أنزل الدرج، درجةً درجة، ألقي نظرة على أمي من بين السلالم وهي تذرف الدموع وصوتها يختنق وأنفاسها تضيع، الجميع يحاول احتضانها وتهدئتها، خالي يذكرها بأنه رحل لمكان أفضل، والبقية يبكون بصمتٍ.
تناديني، أقترب منها فتمد يديها لي لتمسك بي وأسرق الجملة من بين شفتيها وأقول:
”مات!
أبوي مات؟”
تنفجر باكية وتحتضنني وتردد:”أنا أمك وأنا أبوك”
يكتظ منزلنا في ساعاتٍ معدودة بأقارب لم يسبق لي أن رأيتهم في حياتي! نصائح وإرشادات توجه لنا حول كيف مفترض أن نحزن!
ازدحام وفوضى لم أستطع بسببه أن أستوعب حزني في ذلك الوقت!
صعدت للمرة الأخيرة و وجدت شماغ أبي الأبيض على وسادته كما تركه، ألبوم الصور الذي يجمعنا في الدرج السفلي، استنشقت للمرة الأخيرة رائحة أبي، استنشقتها على أمل أن تستقر في رئتاي وأن لا تزول ما دمت حية، رائحة العود والبخور الثقيلة، ألقيت نظرة على الصورة الوحيدة التي كان يحتضنني فيها أبي، مطوقًا بذراعيه جسدي الصغير، لا أعرف ما الدافع الذي جعلني أوثق تاريخ وفاته خلفها وأكتب:” الله يرحمك يا أبوي ويجعلك في فسيح جناته”.
استلقيت في سريري اتأمل السقف، الجميع يسأل عني وينتظر مني دمعة واحدة أذرفها أعلن فيها حزني للعلن، ٤ سنوات مرت دون أبكي، أمي تعتقد بأنني أكابر بينما كنت في صدمة، كنت أعتقد أنه في رحلة عمل وسيعود متأخرًا بعد أيام كالعادة، سيباغتنا يومًا ونحن نشاهد التلفاز!
لكنه لم يأتي، لقد كانت رحلة بلا عودة.
مشاعر الطفل عند الفقد
هنالك اعتقاد شائع أن الأطفال لا يشعرون ولا يفهمون الألم النفسي لوفاة وفقد عزيز، ولا يعانون كما يعاني الكبار!
وهذا غير صحيح.
نحن نفهم مراحل الفقد التي يمر بها الكبار ولكن هل يستوعب الأطفال الموت والفقد كما ندركه نحن البالغين؟
بالطبع لا.
إن الأطفال يختلفون في تعاملهم مع الحزن والفقد حسب مرحلتهم العمرية واستعدادهم النفسي، نحن نكبر معتقدين أننا نحمي أطفالنا عندما نتجاهل أسئلتهم حول الموت! أو محاولتنا تشتيتهم وقت حدوث الفجيعة لشخصٍ عزيز في حياتنا، وهذا هو التابو الأول الذي نستعمله دون مراعاة حقيقية لما يختبره الطفل ويزيد من ذلك خيانة حصيلته اللغوية وبلاغته في التعبير عن مشاعره.
عند فراق عزيز ما يهتز شعور الطفل بالأمان، يصبح كمن ضربه زلزال وينتابه القلق والشعور بالذنب!
إن الأطفال الذين يعانون من مشاعر الحزن سيظلون يتذكرون في المستقبل أي محاولة قمت بها لمؤازرتهم والاهتمام بهم.
خبيرة التربية شيري سميث
إن فقد شخص عزيز علينا له الوقع الكبير في حياتنا وقد يغير العديد من مساراتها ويشترك في ذلك الأطفال والكبار، وقد تختلف ردة الفعل لدى الأطفال للفقد حسب العمر والإدراك ونوع الفقد وشدة الحدث، يستطيع معظم الأطفال تجاوز الأزمات والمصاعب الحياتية المختلفة وتكون جزء مهم لبناء شخصياتهم وخصوصًا عند وجود جوانب الدعم المختلفة، هناك نسبة ليست بالقليلة من الأطفال تكون مثل هذه الخبرات المؤلمة ذات تأثيرات سلبية كبيرة تشمل جوانب النمو المختلفة وتستمر لمراحل عمرية متقدمة.
كيف أساعد طفلًا على تجاوز مشاعر الحزن والفقد؟
يتحدث بخصوص هذا الموضوع استشاري الطب النفسي- المتخصص في اضطرابات الطفولة والمراهقة د. عبدالهادي الهباد ويذكر عدة أمور لابد من ملاحظتها ممن يرعى الطفل لكي يتجاوز مشاعر الفقد وهي كالتالي:
عند الحديث مع الطفل عن الفقد أو الموت تحدث بشكل سهل ومبسط وبكلمات واضحة ومفهومه للطفل وتراعي نموه وإدراكه.
لابد من احترام عقلية الطفل وذلك عن طريق شرحنا للأحداث بطريقة سليمة و واضحة لأن هذه التعبيرات الواضحة تساهم في وقايتهم من مشاعر القلق، فمثلًا عندما نقول للطفل :”فلان سافر ولن يعود” هذا قد يسبب لهم بشكل لاواعي قلق من السفر! لأن هنالك حدثًا متعلق بالسفر ارتبط بحرمانهم من أحبائهم.
اعطِ الطفل الوقت للسماع والتعبير عن مشاعره وأفكاره وكل ما يقلقه.
إن مشاركة الطفل ما نشعر به تجاه الفقد دون إفراط ولا تفريط يحرره من مشاعر التوتر ويساعده في الانفتاح والتعبير عن مشاعره.
استمع للطفل ولاحظ ردة فعله وامنحه الفرصة لبعض السلوكيات حتى وإن بدت أقل من عمره، كن متعاطفًا ووفر الأمان لهذا الطفل.
حذاري أن تستغل الموقف تعديل سلوك سيء وقديم لدى الطفل، كأن تقول:”فلان مات لأنك أغضبته”
إن استخدام مثل هذه الجمل يعرض الطفل لأسوأ مشاعر الذنب وبالتالي يتبنى اللاوعي لديه أزمات نفسية تسبب تراجع ثقة الطفل بنفسه، لابد أن نوضح للطفل أنه غير مسؤول عن الوفاة.
شجع الطفل للتعبير عن مشاعره خلال الأيام والأسابيع الأولى وذلك بالتعبير عن مشاعرك وبالحديث عن الفقيد، فقد يجتاح الطفل مشاعر مشوشة ومخاوف ولا ينقذه منها سوى الوقت المخصص للحديث عن الفقيد وإجابة تساؤلاته عنه وإن تكررت و وجدت نفسك بلا إجابات، لابأس بأن تستعين بشخص آخر ليجيب عنها.
تنصح الأخصائية النفسية لوري كانير بالالتزام بالروتين اليومي لأنشطة الطفل قدر المستطاع لأن ذلك سيمنحه الأمان ويبقيه بعيدًا عن الضغوط الزائدة.
إن الموت جزءٌ لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية ومرحلة من مراحل هذه الحياة، لذلك لابد أن يستوعب الأطفال فكرة الموت ويتكيفوا معها وأن لا يخافوا منها.
أشتاق.. أشتاق
ضمن مبادرة “أنا أشعر” التي تهتم بالحديث عن مشاعر الأطفال والقصص المختصة بذلك وكيفية شرح الشعور للطفل وكيف يتعامل مع مشاعره ويفهمها حتى يمر بها بسلام ليضمن حياة كريمة حاضرًا ومستقبلًا، قاموا بعرض قصة من أجمل القصص التي تناولت شعور فقد الأب بطريقة مشاعرية عميقة وآمنة في الوقت ذاته هي قصة “أشتاق .. أشتاق” للمؤلفة ناهد الشوا، تتحدث القصة عن طفل يحكي عن شعوره بالفراغ منذ أن فقد والده، وأن هذا الفراغ ظل يكبر ويلازمه أينما ذهب ومهما حاول تجاهله، بعدها بدأ الطفل بتذكر سعادة والده عندما كان يراه سعيدًا فكان هذا ما يدفعه للاستمتاع بالحياة حتى بدأ الفراغ يصغر يومًا عن يوم!
ختمت الكاتبة القصة بجملة عميقة جدًا وجميلة وهي “سأبقى أحب أبي وله أشتاق!” مؤكدةً بذلك أن الاستمتاع بالحياة لا يعني أننا نسينا من رحلوا عنا!
ففي الطفولة يحتاج الطفل لفهم الفقد بعد موت عزيز عليه بطريقة مشاعريه أكثر من احتياجه لفهمها من منظور فكري أو ديني، حيث أن الطفل يحتاج لعتاد مشاعري ليتمكن من استيعاب الشعور ومعرفة كيف سيتلاشى الألم دون الإحساس بالذنب عند توقف هذا الألم.
قراءتك كأم أو أب أو معلم أو متخصص وعامل في المجال النفسي أو الاجتماعي لقصة عن الفقد بهذا الشكل المدروس لا تعد جلبًا لمشاعر حزينة بل على العكس، هذا النوع من القصص هو الأداة المثالية لخلق أساس مشاعري لرفع مرونة الأطفال عند الصدمات، تذكر دائمًا أن الأطفال يحزنون في نوبات وليس لديهم ردود فعل خاصة، و وتيرة خاصة وهم يدركون أن الموت فقدان كبير لهم لكنهم يظهرون حزنهم بشكل مختلف وسلوكيات مختلفة.