الأساطير هي روح العالم

توصل عالم الميثولوجيا الأمريكي جوزيف كامبل بعد رحلة مقدارها خمسين سنة أنفقها في دراسة أساطير شعوب وحضارات العالمين القديم والحديث إلى نتيجة مفادها أن دراسة أساطير الشعوب هي السبيل ، ليس لفهم ماضي التاريخ الإنساني فحسب ، بل لمعايشة تجربة الحاضر واستشراف المستقبل كذلك.


في كتابه “سلطان الأسطورة” عندما طرح عليه المحاور مويرز سؤال”لماذا الأسطورة؟” مستغربًا ولع كامبل اللافت بالأساطير بل وتكريس حياته لدراستها في تجلياتها الحضارية والثقافية المختلفة رغم أن الأساطير والخرافات لا شأن لها بحياة الإنسان اليومية في العصر الحديث ، كانت إجابة كامبل مغموسة بروح حكمة القدماء التي تشبع بها ، فقد قال :”إن كنت تعتقد ذلك ، امض إذن وعش حياتك ، أنت لا تحتاج إلى الأساطير ، مستطردًا :” إن أحد أعظم مشاكلنا اليوم هي أننا لا نهتم بأدب الروح ، فنحن نهتم بأخبار اليوم ومشكلات الساعة والثروة والسلطة ، وحين يتقدم بنا العمر ونفرغ من الاهتمام بشؤون الحياة العادية المبتذلة ، فإننا نصطدم بخواء روحي قد يدفع الإنسان إلى الانتحار أو العنف بالنهاية”.


يشير كامبل هنا إشارة ذكية إلى القلق الروحي الذي بات يأكل في نسيج إنسان العصر الحديث ولم تتمكن التكنولوجيا ولا التقدم العلمي من إيقاف ذلك النزيف!


يؤمن كامبل أن الأساطير هي أحلام العالم في تناولها لمشكلات إنسانية كبرى ، حينما نقرأ الأساطير والحكايات الخرافية فإنها تنبئنا كيف نتعامل مع أزمات الحياة ومشكلاتها من الإحباط أو السرور أو الفشل أو النجاح!



إن الأساطير والقصص هي انعكاسات للإمكانيات الروحية لكل واحد منا ، ومن تأمّلها نستثير قواها في حياتنا ، كي نتمكن من مواصلة الحياة

إن أزمة منتصف العمر لابد أن تصيب إنسان العصر الحديث الكادح على مدار الأسبوع في عمل شاق أو قاسٍ أو في عمل مكتبي روتيني أشد قسوة حيث يشعر في النهاية بالملل القاتل والخواء الروحي والشعور بالاغتراب عن العالم وعن البشر!!


يطرح كامبل حلاً لمن يعاني من هذه الأزمة فهو يرى أن دراسة الأسطورة بإعتبارها نوعًا من المهدئات والمحفزات الذهنية على القيام بالتجربة الشخصية أو بشكل أصح أن الأساطير والقصص عند قراءتها تحدث تحوّلًا في وعينا الكامل بالكون وبأنفسنا قبل كل شيء!


طُرح على كامبل سؤال حول جهوده لدراسة الأساطير وهل هو يحاول من خلالها اكتشاف معنى للحياة؟ فأجاب :” لا ، لا أعتقد أن ما ينبغي لنا أن نبحث عنه هو معنى الحياة ، بل تجربة أن نكون أحياء وبهذا تصير تجارب حياتنا على المستوى المادي لها أصداء داخل أعماق وجودنا”.


خلاصة أفكار كامبل أن الأساطير والحكايات والقصص تساعدنا على أن نفهم قصتنا ، أن نفهم الموت ونتعامل معه ، أن نكشف لأنفسنا ذلك المعنى المستور للحياة ، الذي ينتظر من يزيل التراب فوقه .

آمن كامبل إيمانًا راسخًا بضرورة قراءة الأساطير التي تعلم الإنسان أن يلتفت إلى داخله ، ليبدأ في تلقي رسائل الحكمة الخفية ، ويدخل إلى تجربة تمكنه من العبور إلى الضفة الثانية التي هي مغزى وجوده.

لا يمل كامبل من التأكيد على قراءة الأساطير ، مشددًا على ضرورة السعي الجاد لأن يكتشف كل إنسان أسطورته الخاصة وحكايته المتفردة ، فالأساطير هي خارطة داخلية لطريق التجربة الروحانية التي خاضها القُدماء ، الأساطير هي أغنية الكون وموسيقاه التي نرقص عليها حتى وإن لم تستطع تسمية كلمات الأغنية.


ولأن كامبل يؤمن وبشدة بقوة الأساطير فهو يشير بوضوح في كتابه”سلطان الأسطورة” إلى أن المجتمع الأمريكي مثلاً صار يعاني عنفًا كثيرًا وتعصبًا مقيتًا على كافة الأصعدة والمستويات الثقافية والإجتماعية والسبب من وجهة نظره أن المجتمع قد ألقى أساطيره العظيمة وخزانة حكمته القديمة وراء ظهره مُستقبلاً التكنولوجيا والتقدم العلمي وحده ، مضيفًا أن المجتمع لم يعد يمتلك أساطير عظيمة تساعد الشباب من الرجال والنساء على التبصر في الأمور ورؤية ما وراء الأشياء وعلى نبذ العنف والتعصب وكراهية الآخر.

فالأساطير هي الروح الجمعية للشعوب والحضارة حين تفرِّط في تراث أساطيرها فإنما تفرِّط في صوان حكمتها.


بعض البشر يستسخف فكرة قراءة الأساطير ويتساءل “أليست الأسطورة كذبًا؟”

وهذا السؤال أجاب عنه كامبل أن الأساطير ليست كذبًا ، إنما هي شعر واستعارة ومجاز للوصول للحقيقة لأنها تمثيل للحق.

وأيضًا يتساءل البعض كيف تعين قراءة الأساطير إنسان اليوم على تجاوز محنته الوجودية؟

يشير كامبل لكلمة وردت عن بوذا مفادها أن “كل الحياة معاناة” ، ولن تكون حياة إن لم يكن متضمنًا فيها أنها مؤقتة ، عليك أن تقول نعم للحياة وبحكم إطلاعنا على الديانات السماوية الثلاث فنحن ندرك أنها جميعها تحمل معنى “الكبد والمعاناة”.


من نحن لنحكم وندين على الآخرين؟ من نحن كي نقيم غيرنا؟ علينا أن نقبل الحياة كما هي بآلامها وعذاباتها ، لأن ذلك جزء من التجربة التي على بطل اليوم وهو الإنسان العادي الذي يعاني مشكلة القلق الوجودي ، علينا أن نحيا بالتجربة وبمعرفة سرها لأن ذلك ما يعطي للحياة تألقًا والحياة لا تكتمل إلا بالدخول في مغامرة ، مغامرة اكتشاف المجهول وهذا ما تفعله القصص والأساطير.


Join