الشجرة البائسة…!


هأنذا ... بُذرت، وسُقيت، ونميت، لأكونَ بين أحضان الفؤوس متحرشة بي، ثم مغتصبة حتى الموت والهلاك. أكملت تعرِّيَّ ذات يوم، وغدا موعد "الهلاك الأخير"، مالم أدر عنه، أنّ هلاكي سيتعاظم ويطول، بدأ اليوم وكأنّه كأي يوم، مالم أر فأساً ذات مقبضٍ خشبيّ، تتمخطر من بعيد متنكرةً بصباغٍ أحمر، ظناً منها أنّني لن أميّز أبنائي، كانت تتراقص في خطواتها فتقفز يساراً تارة، ويميناً تارة أخرى، وما أن دنت منّي، أو من أمها بالأصح، حتى انهمرت دموعي على شكل أمطارٍ رعديةٍ شديدة، فلم تلبثْ، حتى هلَّت ساقطةً مستسلمة، متأثرة؛ بنياحي، بعد أن بترت عدة أيادٍ وأصابع، وزال صباغ مقبضها الخشبي، فعادت لطبيعتها؛ مثيلاً للشجرة التي اقتصت منها.


حلَّ الليل، ودموعي مازالت تفيض، صار التراب طيناً، وحلاً؛ كلّ ما عليه صار مخفياً. أشرقت الشمس وأبكرت، دخل النجّار إلى الغابة، يستلم الأخشاب من الفؤوس، جامعٌ حصاد تحرشات واغتصابات ذلك اليوم، جمع حصادكافة الفؤوس، وبقيت الفأس ابنتي، فصار يحوم حولي، يبحث عن فأسي، أو حتى ما جنته مني، حتى لمح أصبعَ من أصابعي المبتورة، يطلُّ من فوق الوحل واشياً؛ بأشقائه، بأقربائه، بقاتل أمه المسكينة، فَهَمَّ غارساً يديه منتشلاً كلّ الأيادي والأصابع، مردفها بالفأس ابنتي، بعد أن كانت مندسة ترتجف خوفاً من قتلي وتعذيبي، ورؤية وجهي منكسراً خائباً أمام ناظريها.


في الواقع، إنّ كلّ ذلك كان بسببي، فقد كنت أعتقد أنّني الأنانية الوحيدة على هذا الكوكب، فأرفض ابتعاد أغصاني عنّي، وأصنّف كلّ فعلٍ يسعى لذلك بكونه تحرشاً واغتصاباً، وكأنّي أملكها فعلاً لوحدي. وفي الحقيقة أنّ الحياة أكثر أنانية منّي، فتريد من الكل أن يوليها الاهتمام، وأن يعمل لصالحها مادام فوق كرتها المستديرة. أبنائي، أغصاني، قد ساءت تربيتهم نتيجة أفكاري، وها هو النجّار الآن يشكلهم على ذلك، فأحدهم فأس تعين الحياة على أنانيتها، والآخر تابوت ينقل الناس إلى حيواتهم الأخرى، ويضايق الديدان في مباشرة أعمالها. حتى أسعد أوقاتي، والطيور على شعري تغازل بعضها، وترعى بعضها، فأشعر أنّي أمٌ مثالية وللمرة الأولى، قد سلبها مني ابني أيضاً، بعد أن عاد النجّار ذات يوم وفي يديه صغار أغصانٍ متشكلةٌ على هيئة "بشري"، نصبه أمامي، واقتلع معها بقايا أُمومتي المدعوة، فباتت صباحاتي دون زقزقةٍ أو مغازلة، دون رقصٍ أو مداعبة، دون حتى ضحكٍ أو مشاكسة. فبهتت حياتي على بهتها، وشحبت على شحوبها. وصرت كالشمس الساقعة، والأحبار الجامدة، وكل شيءٍ ما منه فائدة. أظنّني أنا الشجرة البائسة.

Join