ضيّ الظلمات
أختي الصغرى ضي، هي ليست أختي بيولوجياً، لكننا نناديها بذلك، فقد تبناها والديّ قبل أكثر من عام، وقد كان عمرها ٦ سنوات. كيف حصل ذلك؟ لا نعلم أي شيء، لكن الموضوع بدأ من صديقة أمي سارة. على العموم كانت ضي قصيرة جداً، عيناها واسعتان، أنفها معقوف، شعر رأسها وحواجبها كثيفة مثل أبي، هي قوية جداً، رغم أن لديها ثقباً كبيراً في نفسها كانت لا تظهره إلا للورود، قد تأقلمت معنا بشكل سريع وكأنها قد ولدت معنا، من ضي أصبحت أفكر في كل شيء وأستعمل خيالي بشكل أفضل، دعوني أسرد لكم بعض قصصها لعلكم تستطيعون التعرف عليها بشكل أكبر: مرةً كنا أنا وضي في البيت لوحدنا بعد ذهاب والديّ وروان لبيت جدتي، وقد كلفت برعايتها لمرضها بالانفلونزا. وقد كانت تلعب بدميتيها فاطمة وسميرة - أكملتا ثلاث سنوات مع ضي - في طرف غرفة المعيشة، وكانت كما لو أنها هائمة في اللعب ومندمجة في خلق قصص وسيناريوهات معهما بخيالها الواسع، تحبهما بشكل مريع حتى أكثر من نفسها. وكنت أنا أقلب محطات التلفاز بين مسلسلات مصرية واحتفالات تحريرية في الكويت، التفتت علي فجأة وسألتني: لم تكذبون؟ - فيم؟ - في كونكم بشراً مثلي. أعلم أنكم دُمىً متحركة تخلقون حياةً حولي ومصاعب ومتاعب، كل هذا لتختبروا ما إذا كنت قوية أم لا. وكانت تنطقها وهي غاضبة معاتبة، والدموع غارقة في عينها تنتظر رمشة من الجفنين لتنهمر على خديها. ثم رجعت لتكمل قصتها مع سميرة وفاطمة، في تلك اللحظة تشنج لساني، وثَقُل جسمي من هول الموقف، لم أقدر على نطق حرف واحد. ذهبت لغرفتي ودخلت حمامي، وغطست في البانيو لمدة أربع ساعات أفكر، كيف فكرت بهذا الأمر؟ ما الحال الذي وصلت له لتفكر بشيء كهذا؟ ما أوصل هذه الفكرة إلى رأسها؟ لم أصل لأي نتيجة، لم أتوقف إلا حينما طرقت باب الحمام، تطلب مني تنظيف الأرضية بعد ما تقيأت عليها. غالب أوقات ضي مع سميرة وفاطمة، تكون في سلة القمامة، فتأخذها وتقلبها عليهما فتغطياهما بالكامل، ويبدآن مع بعض بتأدية ما يملي عليهم خيال ضي. كانت القصص دائماً ما تنتهي بمقتل ضي إثر عدو خارجي، وبعد كل مشهد يؤديانه ترفع ضي القمامة لتلتقط أنفاسها. التمثيل يكون بأصوات خافتة سماعها أصعب من فهم ضي، لكننا قد وضعنا أجهزة تسجيل صغيرة في سميرة - قد كنا نخاف منها - والتهديدات التي يستعملها خيال ضي، لا تخرج عن ثلاثة: إما ضرب، أو إضراب عن الأكل، أو نتف للشعر. وبعد انتهاء القصة ومقتل ضي تبدأ بأداء أغنية السلام، وتقول الأغنية: "جنود السلم حطي فوق الصدر واحمي رفات القلب والعمرِ". تقول إن العم "فهد" قد لقنها إياها - يبدو أنه خسر حبوباً كثيرة في مراهقته - اتقاء خروج الروح من الجسد عند خروجها هي من القمامة، ويلزم عند غنائك لها أن تستشعر كل كلمة فيها وكأنك تغنيها بقلبك. وكما تقول ضي: "اصدح بصوتك لتسمعك الملائكة". منذ مجيء ضي إلى بيتنا، وهي لم تبتسم أبداً حتى أصبحت ذات يوم، وراحت تكمل رحلة استكشاف بيتنا الضخم، وفي ذاك الصباح وصلت إلى المزرعة الخلفية الصغيرة في البيت، ولم تصدق ما رأته
وصارت تركض وتضحك، و"تتشقلب" على العشب حتى تلونت ثيابها البيضاء باللون الأخضر،
وفي اليوم التالي، بذرت بذور وردة الجوري، وصارت تدللها وتغني لها بعد الشروق. وتروي لها قصصا قبل المغيب، وأسمتها "وردة" فباتت الوردة "وردة"، اسماً مميزاً. حتى تفتحت وصارت حمراء تسر الناظرين،
وأضافت ضي فقرة الرقص مع الغناء في الصباح. ومع إكمال ضي سنة كاملة معنا، قررت إهداءنا الورد بأكمله. كانت لحظات لا تنسى، وكأنها قد اقتصت طرفاً من أطرافها وأعطتنا إياه. كانت لها تشكي، ولها تبوح،
عليها ترتكي، وعليها تنوح،
معها ترقص، ومعها تغوص. حتى اشتد عودها وقوي ضلعها وهي في السابعة من عمرها. وقد تعلمت وانكسرت واشتدت أكثر ممن يدعون ذلك. معلومة غريبة: ضي في أول ثلاثة أشهر لها معنا، كان قلبها ينبض بشكل مخيف، وجسمها يرتعش ويتعرق بعد شربها للماء.
Painting By Vimdeanna Art