!فِراق راؤول وبُكاء ياخور

KDakhyel - خالد

مطأطئٌ رأسه تملأه الخيبة والأسى، بدأ "تيربو" الحديث سائلاً والخجل يفيض من وجنتيه:

كيف بدأ الأمر؟ ألاكويني!

- ولِمَ أخبرك؟!

- كي لا تُطوى صفحاته

طبق الصمت لدقائق، ثم تنهّد وبدأ ألاكويني قائلاً مجبراً:

بدأ الأمرُ منذ ثلاثة أيام، والأجواء القاسية تجتاح قريتنا النائية!

- نائيةٌ؟! كيف ذلك والمقبرة قد عجّت بالناس ظهر اليوم!

- غالبيتهم من خارج القرية. عضّ على لسانك قليلاً، لكيلا أعضّ على لساني أنا ندماً من القصّ عليك...


هبّت هبوبٌ شديدةٌ، وهطلت أمطارٌ وثلوجٌ غزيرةٌ، وأتبعت الليلة الماضية ببردٍ فتاك، بحجم البيض وأكبر، أخلى الشوارع على خلوتها، وأترع المساكن على قلتها، في ليالٍ استثنائية، لم تخلو "ياخور" يوماً بهذا الشكل -وقبل أن تسأل "ياخور" هو اسم هذه القرية- كنت أمرّ بفترةٍ روتينيةٍ مملةٍ لا تطاق، وكأنّ الأيامَ والساعات مرآةٌ بعضها للبعض، فوجدتها فرصةً، وشرعت استغلالاً لها، أبحث بها عما يدهشني ويعيد تلوين ما قد جفّ من ألوان حياتي الفرحية. فاكتسيت كل ما بدولابي، وانتعلت بسطارينِ طويلين متينين، قد ورثتهما من أبي بعد "حرب هارب"، وانطلقت إلى الباب الرئيسي للعمارة، مروراً بممره الطويل الضيق جاف الهواء- بسبب أجهزة التدفئة المكتظة فيه- والذي بسببه جُل قاطني العمارة مصابون باعتلالات تنفّسية. وصلت إلى الباب أحاول فتحه، ولا يفتح، فقد تجمّد من الصقيع، فأخذت أتراجع خطوتين، وانطلق لركله مسرعاً، كان حديدياً صلباً، قد خفّف البسطار آثاره على قدماي.


وما أن فُتح بعد الركلة التاسعة، إلا ووجهي يشحب وملامحي تذوب و"بؤبؤاي" يتوسعان، وقلبي يخفق بقوة وسرعة هائلة حتى كاد صدري يتناثر مسحوقاً. كل ما خلف الباب ناصع البياض دون ملامح، كل شيء فيه متشابه، لا تميّز بين الأشياء، كان منظراً مهيباً مريعاً، دبّ الرُعب في صدري، ظننت لوهلة أنّني فتحت باب ما بعد الموت بيدي. دخل جسمي في حمامٍ ساخن من العرق، ثم عاد عقلي يعمل مجدداً وأدركت مارأيت من ثلوج متراكمة، وأردفه بعض حواسي فصرت أشم وأسمع، وأول ما سمعت، صوت صريرٍ مزعجٍ مدوٍّ، وكأنّ أحدهم اخترق رأسي وأخذ يخرق في جمجمتي، خرجت مع الباب أبحث عن مصدره، فإذا بكلب الحراسة "راؤول" على ميسرة الباب، يرتعش كلّ طرفٍ من أطرافه، وأسنانه تتطابق وتحتك مع بعضها في صرير يستفزّ الميت ويحييه، ورأسه متأثرٌ بحبّات البرد المزروْرقِ لونه، وكأنّها آثار انتشال روح-قد كان ذلك على وشك- هببت مسرعاً حاملاً إياه واضعه في الممر، مقابل أجهزة التدفئة، مغطيه بلحافٍ كان ملقى بجانبه، ثم أخذت اتفحّصه وأطعمه حتى هدأ واستتبّت حالته، لم أكن لأفعل كل هذا لو لم يكن "راؤول"!، هو أوفى من عرفت. قد انتشلني من حافة الموت يوماً.



وليت مدبراً الى شوارع "ياخور" وأزقتها بعد اطمئناني عليه، والخوف مازال يعتريني ويزعزعني، نتيجة اللحظات التي عشتها بعد فتح الباب- دائماً ما أتطرف بمشاعري، وابدأ بتحليل كل حدثٍ يجري لي بشكلٍ مرعب، حتى الأحداث الجميلة تتحوّل إلى عزاء من تحليلي التشاؤمي، يجب أن اتوقّف عن هذا- فبت أبحث عما يدهشني ويشغلني عن التفكير، كانت القرية بيضاء مريعة حتى جبالها البركانية شديدة السواد قد اكتست الأبيض. مدمرة هي وكأنها قد انتهت للتو من حرب مضطرمة، فزجاج واجهات المتاجر متناثر على الطريق، ومظلاتها كذلك، وأعمدة الإنارة محطّمة. الصمت مفزع في القرية، ما كان يطمئنني تلك الليلة، هو تصدّر البدر كبد السماء، كان هو الدفء الوحيد بين الثلوج.


بعد مسيرٍ قارب نصف الساعة، لحظت ضوء سيارة بعيدة تبدو متوقّفة، معطّلةً من الممكن. المفزع، أنّها لم تبيض من الثلج كبقية القرية. فبت بين التناقضات أتدحرج، فأسرع خطواتي إليها متشوّقاً، وأبطئها مرتعباً، حتى دنوت منها كانت صغيرةً طولاً وعرضاً، ويقف خلفها مرءاً صغيراً قصيراً يبدو متفحّصاً إياها، صرت إليه قاصداً معونته، وما أن اقتربت منه، حتى رفع رأسه متعقباً صوت الخطوات ذلك، فرآني، ولوح لي، وقصدني مهرولاُ بشكلٍ غريب، وكأنّه يعرفني منذ سنوات. فُزعت من ردة فعله، وتوقّفت مباشرةً، متوتراً ناسياً كل ردات الفعل التي قد حفظتها طوال الثلاثين سنة الماضية، سوى الوقوف والتحديق في عيون البشر. حتى اقترب مني وبدأت تتّضح معالم وجهه، فبزغ أنفه الضخم متصدراً، ثم والاه شاربه ذاك العريض الكثيف وصيفاً، ثم قبّعته الحمراء تلك البديعة، حتى برز كاملاً متأنقاً بزيه الكحلي، وأخذ يستلم خداي في سيمفونية رائعة من القُبل مسبوقةً بعناقات حارة، إلا أنّ عقلي في ذلك الحين كان ما قد زال ثملاً نتيجة ما حصل تواً في العمارة، كان يتكلم معي ويعرّف عن نفسه، ثم أخذ يمسك يدي ويسير بي إلى مركبته، وأنا لا أفهم ما يجري حقاً، وتعسّر عليَّ فهمه، فادّعيت الفهم والإدراك بكل بساطة، وأدرت نظري إليه مستنكراً مقطّباً حواجبي، وقلت:

ما اسمك؟

- رد ضاحكاً ظاناً بأنّي أمازحه: أعلم أنّه اسم مغمور هنا ويصعب عليك تقبّله وحفظه، ولكن يمكنك تهجئته، ردّد خلفي:

"ما"

- ما

- ري

- ري

- يو

- يو

- ماريو!

- قلت ببرودٍ وأنا ما زلت ثملاً، باختلاف أنّني صرت ببغاءً هذه المرة، بالإضافة إلى التحديق:

ماريو

- أحسنت!

حتى صعقت بصدمة كهربائية طفيفة في جمجمتي، أعادت لي وعيي وتوقّفت معها عن المسير، ثم التفت إلى ماريو مميلاً رأسي مستنكراً، مقطّباً حواجبي للحظات، ثم ابتسمت وقلت بصدمة وذهول:

ماريو!!!

وأخذت أتحسّس أنفه وشاربه بإصبعي، ثم تسلّمت خدّيه وعزفت له سيمفونية قُبلٍ أروع مما قد فعل، وعناقاتٍ أحرّ مما قد أضرم. لم أكن مصدقاً لما أرى، فبين كل مقطوعة ومقطوعة أغسل وجهي وأفركه، وآخذ شوط رقصٍ بهيج، حتى قبض ماريو على يدي بقوة شديدة، لا أدري من أين أتى بها رغم قصره وصغره وقال:

علينا إنهاء إصلاح المركبة الآن!، لنؤجل كل هذا!

- أي مركبة؟!

وقد عدت فاقداً بعض وعيي، ناسياً سيارته.

“مركبتي تلك (وأشار بإصبعه لها)، علينا إصلاحها الآن قبل بدء السباق!” قال ماريو

- هيا هيا اذاً

وما أن أقبلنا على السيارة، حتى صعقت مرةً أخرى بصدمةٍ كهربائية في جمجمتي، تشبه الماضية تماماً، أعادت لي ما فقدت من وعيي، وبسيناريو الصعقة الماضية نفسه: توقّفت عن المسير، التفت إلى ماريو، أملت رأسي، قطبت حواجبي محاولاً تجميع شتات وعيي، وإدراك مايحصل للحظات، ثم ابتسمت، وقلت مذهولاً:

أهذه "كارت"؟!

- بالطبع، وبطولتها على وشك البدء يجب أن تفوز بها!

كانت "كارت" سيارته تماماً كما كنت أراها على التلفاز وفي ألعاب الفيديو، حمراء بلا سقفٍ ولا صندوق، تعمل بمحركٍ خلفي صغير، عجلاتها الأربعة أعرض منها، لا تحمل أكثر من راكبٍ واحد. بدايةً، حاولت التظاهر باللا افتتان، ولكن الطفل المختبئ بداخلي أبى ذلك، وقال له بوجهٍ بريء مستعرضاً ابتسامته العريضة:

هل لي أن أُجربها؟!

- معطّلةٌ هي والسباق السنوي سينطلق بعد ساعتين، أعدك بركوبها بعد السباق، ولكن علينا إصلاحها الآن!

كان ماريو صبوراً حليما، ولا أدري حتى الآن كيف كان يحاول جاهداً ألا يبين لي أي ملامح غضب أو أسف، فقد كانت أفعالي بالغة الحماقة والاستفزاز.

بعد ساعتين من المحاولة، لم ننجح في التعرف على المشكلة، وفقدنا الأمل في اللحاق على انطلاقة السباق، بدا ماريو حزيناً جداً، فارتكى على جانب مركبته، وخلع قبّعته وقفازاته وغطّى وجهه بيديه، وصار يبكي بحرقة، انفجر بها عن عادته وتماسكه البالغ، دنوت منه وبت أربت عليه وأواسيه، حتى هدأ بعد ساعةٍ وأكثر من النياح، فأخذ يلبس قبّعته وقفازاته بعد أن جفّت دموعه، وأدار نظره إليَّ خائباً وقال:

كنت على وشك التصدر في سلم الفائزين بالبطولة تاريخياً

- هنيئاً لك، طعم الصدارة في المرة القادمة سيكون "ألذ"

- تقصد أصعب!

- لا يصل إلى القمة من لا يدرك صعوبة منالها

هزّ رأسه ورفع حاجبه، وكأنّه لا يريد ابداء أي رأي على كلامي-فهو لم يذق طعم الخسارة أبداً- وقال:

لم تخبرني باسمك، ما هو؟

- أوه ... عذراً ألاكويني

- نسبة إلى القديس توما؟!

- نعم

- سمعت أنّه كان كريماً ومضيافاً سخياً

- لا أدري، لا أعرف عنه سوى اسمه

- آه، لنعد لموضوع النجاح إذاً، كيف يكون؟

- عليك أن تتعرّف على طريقك بنفسك

- وأين طريق بيتك أنت؟

- من هنا

- لنتعرّف عليه اذاً ...


في مسيرنا إلى المنزل، سردت لماريو تفاصيل طفولتي وذكرياتي معه بحماسةٍ وحنين، كان يستمع لي بكافة حواسه، حتى انتهيت من آخر حكاية لي معه، فأردف متسائلاً:

ما أجمل مراحل عمرك؟ ألاكويني

- الطفولة بالطبع

- ولما؟

- أمم ... الطفولة؟ تبدو لي حياةً منفصلة، ليس لها بواقعنا أي صلة، تبدو مقطوفة من الجنة. وهذا كلامٌ مكرر، لا ينفك أحد عن قوله عند حديثه عن الطفولة، ولكن لماذا الكل يتّفق على هذا؟ أظن بأن الطفولة أخذت الحصة الأكبر من سعادة حياتنا ودهشتها وبهرتها، فلونت حيواتنا بإفراطٍ غير طبيعي، أحدث طفرةً ألوان فرحية لا مثيل لها، باتت تتبدّد وتجف مع مرور كل عام، حتى تبقى آثارها خالدة لا تندثر على سطح السعادة القاحط، الآثار تلك، هي من يبقينا أحياء متمسكين بأطراف الأمل، علّ أن تعود لنا طفرة مشابهة لتلك، فهي مصدر سعادة وأمل. تبدو مصدر حياة

- لذلك أنا أولد بها كلّ مرة، ألاكويني!

أوشكنا على الوصول، والشمس بزغت من خلف الجبال. قلت لماريو ساخراً ممازحاً إياه:

أشك بأنك تستطيع شم جثث النمل بخشمك هذا، أليس كذلك؟

- الثلوج هنا تمنع روائح الجثث

- تبين، أظن أن شفتيك قد لاقتا حتفهما تحت شاربك

- اصمت، وانظر إلى ميمنة ذلك الباب (وأشار بإصبعه إلى باب عمارتنا المتهالكة) ...

وجهت حدقتاي إليها، ولمحت حيواناً ضخماً ممدداً ذراعيه واضعاً رأسه بين يديه، فهو ساكنٌ لا يتحرك. فقلت وساقاي تتسابقان وكأن خلفي"قطيع أسودٍ" ضامرة، لم تأكل منذ أيام جائعة. هالعاً مما أرى:

إنّه راؤ.. ما أبقاه هنا !

ورحت أعدو إليه وزفيري يسبق شهيقي، وصلت إليه، وأخذت أحاول تحريكه برجلي لأوقظه، كان فعلاً سخيفاً ناجماً عن بقايا أملِ عيشه في أمخص قدمي، وقد تبدّد في ساحة العمارة بعد إجابته بالسكون المميت. أيقنت ذلك الحين بوفاته، فحملته بذكرياته، بوفائه، بإخلاصه، باستماتته لحماية العمارة، وأدخلته إلى ممرها الباكي عليه. كنت أقوم بأفعال بلهاء لا مبرر لها من شدة الجزع والفاجعة التي قد عصفت بي، فهببت أضرب باب غرفة حارس العمارة "فاشي" وأصرخ عليه، كدت أكسر الباب من ضربي وركلي له، فتح الباب مغتاظاً ومنفعلاً، بضخامته بعرض منكبيه، خرج من الباب جالساً وكتفه يقابل الباب، يداه بحجم ظهري. توجّست منه وأدركت حماقة ما قد صنعت، وأخذت اتراجع خطوة بخطوة، حتى قبض على عنقي وحكم عليها بالخنق، وساواني بالجدار ثم بالسقف عالياً، حتى رأيت ما بداخل أجهزة التدفئة- تحتاج إلى صيانة بالتأكيد- ظللت أتفحّص الأجهزة، إلى أن اشتم فاشي رائحة كريهة جداً، فالتف ببطء شديد وكأنّه يعلم ما سيراه ولا يريد أن يراه، ورأى راؤول جثة هامدة فواحة رائحتها في العمارة، أفلتني وارتد له هاوياً تحت قدميه. قال "تيربو" مقاطعني:

الزلزال كان بسبب هويَته؟!!

- ...

- أنت، لِمَ تعضُّ على لسانِك؟!!

Painting by Frederick Morgan

Join