معيار القصة في فهم الفن
من ثقب صغير ترى عبره سكان جزيرة. منهم من عهدتهم ومن لم تعهد. منهم الأبطال والعوام، النساك والكهان. ترى بعضهم حيارى ينظرون أن يأخذهم الكاتب للنصف البعيد الآخر من تلك الجزيرة، التي سماها سابقوهم المجهول. حيث لا يعلم أحد، حتى كاتبهم ما هناك. حكماؤهم أخبروا أن كل المعاني في تلك الجزيرة مختلفة. الأرض برواسيها ومحيطاتها، السماء بخيوطها البيضاء ونجومها، حتى الأصوات، النور، والشعور. يرحل بعضهم الكاتب لتلك الجزيرة بعد أن يختارهم بعناية ويزودهم بالعتاد ومعان سابقة أتى بها أولوهم، ثم يدخلون ذاك المجهول وحين ذلك، لا يعرف أحد الماجريات هناك. أما هناك, فبعضهم يقتلون أو يختفون، وآخروهم يرجعون فيسردون لكاتبهم ما كان من ملاحم وأحداث، ويصفون له تلك المعاني في وجوم، فرح، أو إلهام. أما الكاتب، ولله ما أغرب ما يحدث له، يرحل عن تلك الجزيرة لعالمك وعالمه هو، وينتهي كل شيء. نعم, هذه هي القصة تماما.
. . .
القصة هي بوابة من المعاني تستظهر نفسها في تباين، ويزداد التباين تعقيدا حين نأخذ بالحسبان أشكالها المختلفة في رواية، رسمة، فيلم، موسيقى، أو العمارة. هي أداة تمكن المؤلف والمتلقي من فهم ما يصعب شرحه من أفكار معنوية ونقدية, كما أنها البئر العميق الذي به يلهم العالم والمتعلم، وكل ذلك على عكس ما يراه البعض من أن القصة هي لمجرد الإثارة والإمتاع، وفي هذه المقالة أنوي إظهار ذلك لأسباب. أولها وأعمها أن القصة هي مدخل محكم لفهم عظمة الفن وضرورته على كينونة الفرد والمجتمع، وهو أمر يؤسفني بشدة غيابه عن الكثيرين. ثانيها وهو أخصها، أن يرى الفرد العمق فيها لعله بذلك يذهب إلى ما هو أبعد من فكر وجمال وإبداع.
للمعنى أيا يكن، أبعاد من حيث العمق والدلالة. وكلما كان المعنى ضمنيا في صورة، كلما إزدادت قوته على الإدلال والتبيان ولعل الزيادة أحيانا توزاي الصعوبة والتعقيد. والقصة في شكلها العام هي هذه المنظومة الصغيرة التي خلالها تظهر المعاني في صور رمزية ينظمها الكاتب بقصد أو غير قصد لتدل على حقيقة أو جملة من الحقائق. لنأخذ مثالا بسيط ونعرج به على القصة. لو قال أحدهم: فلان رجل شجاع، وقال آخر: فلان كالأسد. قول الثاني بالطبع هو الأكثر قدرة على حمل المعنى المقصود. فتشبيهه فلان بالأسد، قد ضم أن فلان هذا رجل شجاع ومسيطر وذا هيبه وضم أيضا صورة شديدة التراكب عن الأسد توارثتها الثقافات منذ مئات السنين ومعان أخرى بعضها لا يمكن وصفه. لا يمكن، لأن لكل شيء من الجمادات أو الأحياء معنى ذاتي يفقد جزءا منه حين يوصف وهذا حديث آخر. المهم هنا أن ننتبه أن القصة هي سلسة من هذه الرمزيات أكثر تعقيدا تحملها الشخصيات والأوصاف والأحداث في القصة وهذأ أحد ما يجعل القصة أداة واسعة في تبيان الأمور.
تخيل لو انك أردت أن تحكي لأحدهم عن معنى التضحية. بوسعك أن تسهب معه بالشرح والتعريف عن معناها, أوبإمكانك أن تحكي له قصة تستخدم فيها شخصيات وتسرد له ملاحم وماجريات يستظهر فيها معنى التضحية نفسه, والثانية أعظم. ولنا في رواية الجريمة والعقاب مثل محكم إذ أن بطل الشخصية راسكولينكوف جسد إجابة استعصى على كثير من المفكرين فهمها وشرحها في "ماذا لو كان كل شيء مباح؟".
وسأتجرأ وأقول في عجالة أن الله سبحانه وهو العليم الحكيم خاطب بني آدم بلغتهم, وأنزل القرآن وهو الملآن بالتشبيهات والمجازيات والقصص, وشاء أن تكون تلك هي الآيات التي فيها يظهر لذوي الألباب الحكم مطلقة المعنى وواسعة الدلالات. وإذ أنني أرى أن ذلك لأن القصص هي إحدى أعظم أدوات الفهم لدى الإنسان.
لنقارب القصة من منظور كاتبها البحت حيث أن ما يحدث في القصة حقيقة هو أن المؤلف يظهر نظرته المعقدة للأشياء من حوله ومعانيها التي بنيت على سنين طوال من التجربة والشعور والفكر تختزل نفسها في قالب صغير مما يجعل القصة ذات معنى أكثر ومما يتيح للمتلقي معايشة المنظور الآخر لنفس لها ذاتها المختلفة جدا. يضطرني ذلك للتنبية على أمرين كثيرا ما أرى البعض يغفل عنهم ويرى على أن القصة تدل فقط وفقط على ما يعنيه الكاتب وأنه لا يصح تفسير معنى ما لم يعمد الكاتب إيصاله.
"ورغم البرد القارس وصفير الرياح تعصف بأشجار الجوز المغروسة على جانبي الطريق، بقي أبو جعفر واقفا بباب حانوته حتى أرسلت الشمس خيوطا صفراء واهية حددت معالم الشارع"
رضوى عاشور، 1422هـ، ص.9
لا يعني أنه يجب أن يكون في استخدام رضوى عاشور لكلمة "خيوطا" معنى معين قصدته، وهذا أحيانا لا يهم، فيكفي أن نعلم أنها شبهت نور الشمس بالخيوط لمعنى قضى حضور الواقع في ذهنها إظهاره وهنا تحديدا ما يميز كاتبا فنان عن كاتب بسيط، فالأول هو الذي تنفذ عبره رؤية أكثر معنى وجمالا. إذا، فالقصة ليست ما يعني المؤلف إيصاله فحسب بل هي أكثر من ذلك. أيضا، يضاف للقصة بعد أخر عندما نأخذ بالإعتبار منظور المتلقي (القارئ) الذي يعتمد على فكره وثقافته، فالقصة التي يقرؤها الكثيرون ثم لا يتفقون على مدلولاتها فهذا مؤشر على بعد معاني القصة وارتباطها المختلف حسب القارئ نفسه فكل قارئ يجد فيها معنى خاصا به وحده
فهذه بعض التعريجات الأدبية النقدية على موضوع القصة كفن من حيث هي أرض عظيمة من الرمزيات والمعاني، ثم من حيث هي أقدر أحيانا على إيضاح الأمور من النقد العام المباشر العلمي، ومن جانب أنها مرآة للنفس وفهمها للأمور. يزداد الحديث عن القصة ولكن لعل بذلك المرور السريع يفتح لي ولك باب من المدارك تسعه أفق أعظم عن ماهية الفن وأثره العظيم ليس فقط في القصة بل وفي جميع أدوات الفن، وليست القصة سوى مقدمة لذلك
المراجع
رضوى عاشور. (1422هـ). عنوان الكتاب: ثلاثية غرناطة. دار الشروق.