منتجات رمادية..
وأسواق سوداء!
مع أن السوق السوداء سوق غير قانونية، تباع فيها المُنتَجات بعيداً عن أعين السُّلطات والرقابة الرسمية، بأسعار مرتفعة أو منخفضة وفقاً لنوع هذه المُنتَجات وندرتها وهوامش ربحها وحجم الإقبال عليها، إلا أن المُنتَجات الرمادية منتجات أصلية وقانونية ولا غبار على سلامة استخدامها. ومع قانونيتها، إلا أنها من الممكن أن تؤدي إلى نشوء "سوق رمادية" Grey Market تباع فيها هذه المُنتَجات وتشترى.
ولكن.. ما "المُنتَجات الرمادية"؟
ماهيّة المُنتَجات الرمادية
المُنتَجات الرمادية في الواقع ليست بالفعل رمادية اللون، تماماً مثل "السوق السوداء"؛ فلا يوجد حقيقةً سوق متشحة بالسواد، ولكن اللون الأسود هنا يستخدم مجازاً، للإشارة إلى التعاملات غير القانونية التي تتم في الخفاء.
المُنتَجات الرمادية هي منتجات أصلية ومطابقة للأنظمة والقوانين، صنّعتها جهات موثوقة وذات اسم وصيت، تدخل الأسواق بطريقة نظامية، ولكن هذه المُنتَجات تباع إما في البلدان التي لا ينبغي أن تباع فيها، أو في قنوات توزيع أو منافذ تسويق غير مخصصة لها، وذلك عبر وسطاء بيع وتوزيع ليس لهم علاقة مباشرة بالشركات المُصنِّعة. وتُسمى هذه المُنتَجات في الإنجليزية:
Grey Products or Parallel Imports
وكقاعدة عامة، يمكن القول إنه كلما كان سعر المنتَج مرتفعاً وهامشه الربحي ضئيلاً للتجار المحليين واسمه ذائعاً والطلب له عالياً في سوقٍ ما، كان احتمال دخول نسخته الرمادية إلى هذه السوق عالياً وإقبال التجار المحليين عليه كبيراً.
لماذا كانت هذه المُنتَجات "رمادية"؟
وَوُصِفَت هذه المُنتَجات بالرمادية لأنه يصعب على وجه الدقة تصنيفها على أنها منتجات قانونية (بيضاء) أو غير قانونية (سوداء)، على الرغم من أن الشركات المُصنِّعة لهذه المُنتَجات تحارب وجودها خارج الأسواق أو البلدان أو القنوات المخصصة لها. فهذه المُنتَجات هي قانونية ولا غبار عليها من وجهة النظر الرسمية، فلا البائع مُذنِب ولا المشتري مُخالِف. لكن الشركات المُصنِّعة لهذه المُنتَجات ترى بأن وجود هذه المُنتَجات خلل فادح يجب التصدي له. لذا كانت هذه المُنتَجات في منطقة رمادية من الناحية القانونية. جدير بالذكر أن بعض الدول المتقدمة قامت خلال الفترة القريبة الماضية باستحداث بعض القوانين التي تحد من الممارسات التجارية الرمادية، خصوصاً فيما يتعلق بانتهاك حقوق العلامات التجارية واتفاقيات التوزيع الحصرية.
هذا المُنتَج غير مخصص للبيع في ....!
ومن الأمثلة على المُنتَجات الرمادية تلك المُنتَجات التي تحمل عبارة تحذيرية من قبيل "غير مخصص للبيع في محال التجزئة"، لكنك تُفاجأ بوجودها في محال التجزئة كالبقالات أو الصيدليات. ويعني ذلك أن الشركات المُصنِّعة قامت بإنتاج نسخة من منتجها خصصتها للبيع في قنوات توزيع محددة (مثل قناة الإعاشة والتموين)، بهيكل تكلفة وخطة تسعير مختلفتين عن بقية منتجاتها التي تباع في المحال العامة الأخرى. لذا كان لوجودها في قنوات توزيع أخرى كالتجزئة ضرر على الشركة وإفساد لمبيعاتها وإنقاص لأرباحها، نظراً لتفاوت مستويات التصنيع والتغليف والتسعير بين القنوات المختلفة.
المُنتَجات التي تباع خارج البلدان المخصصة لها
ومن الأشكال الأخرى الشهيرة للمنتجات الرمادية هي تلك المُنتَجات التي تحمل علامات أصلية وقد أنتجتها فعلاً الشركات المُصنِّعة الأصلية، إلا أنها تباع خارج البلدان التي خططت الشركات المُصنِّعة أن تباع فيها. وأمثلة ذلك من المُنتَجات الاستهلاكية في السوق السعودية واضحة وشائعة، خصوصاً في قنوات التوزيع التي تتعامل مع جميع الموزعين، مثل المحال التي تبيع كل شيء من الكماليات، والتي يطلق عليها محلياً "محلات أبو ريالين"، بل وحتى في محال السوبرماركت الشهيرة. نجد أن بعض هذه المحال يبيع – مثلاً - معجون أسنان شهير كمعجون ماركة "سيجنال" Signal، وبسعر أقل من محال السوبرماركت المحلية الشهيرة. وعند التدقيق في التغليف، نجد أن المعجون الرخيص أتى "مثلاً" من إندونيسيا، أي أن الشركة المُصنِّعة الأم (وهي يونيلفير Unileverالعالمية) مالكة العلامة التجارية، خصصت هذا المُنتَج للسوق الإندونيسية حيث صنّعته هناك. إلا أن تاجراً محلياً استورد كميات كبيرة منه بطريقة نظامية من إندونيسيا ووزعها في السوق السعودية، مع أن الشركة المُصنِّعة تمنع ذلك؛ إذ خصصت للسعودية معجون أسنان مصنّع سعودياً بمواصفات فنية وهيكل تكلفة يناسب السوق السعودية ليباع فيها بسعر يلائم مستهلكيها. لذا كان لوجود هذا المُنتَج – مع أنه أصلي وقانوني – ضرر على الشركة المُصنِّعة الأم، فهو يباع في السعودية بسعر المُنتَج المخصص للسوق السعودية الذي يفوق بمراحل سعره في إندونيسيا، مع أنهما ربما كانا مختلفين في مواصفات التصنيع. وعليه، يصبح الربح للمستورِد المحلي ومنفذ التجزئة المحلي خيالياً. ويمكن القول باختصار، بأن المُنتَجات الرمادية في أغلب الأحيان تُكسب ذهباً. وذلك المثل ينطبق على شركات في قطاعات أخرى، مثل سامسونج، التي تنتج لبعض الدول كالهند أجهزة هواتف متنقلة رخيصة بمواصفات معينة، ثم تجد هذا الهواتف تباع في مواقع عالمية بأسعار رخيصة مثيرة لشهية الشراء (مقارنة بأسعارها في أسواق الدول المتقدمة).
سوء تقدير الطلب المحلي
وقد تنشأ سوق رائجة للمنتَج الرمادي عندما يسئ مالك العلامة التجارية أو وكيلها الأصلي تقدير حجم السوق المحلي، فينتُج أو يستورد أقل مما تحتاجه السوق، فتنشأ سوق سوداء تعيش على سد الفجوة السوقية الموجودة، وذلك باستيراد منتجات رمادية من الأسواق الخارجية. وعلى العكس، فعندما يسئ مالك العلامة التجارية أو وكيلها الأصلي تقدير حجم السوق المحلي، فيُنتِج أو يَستورِد أكثر مما تحتاجه السوق، عندها ينشط تصدير الفوائض الضخمة لديه إلى الأسواق الخارجية، فيؤدي ذلك إلى أن نشوء سوق للمنتجات الرمادية في دول محيطة.
سبب خفي لنشوء ظاهرة المنتجات الرمادية
إلا أن هناك سبباً خفياً آخر لظهور المنتجات الرمادية، خصوصاً لدى الشركات العالمية العابرة للقارات. ويمكن تصنيفه على أنه أقرب ما يكون لــ"النزاع العائلي". فالشركة العالمية الأم لها عدة مراكز تشغيل أو فروع للعمليات في العالم، مقسمة جغرافياً في العادة (شرق آسيا، الشرق الأوسط، شمال أفريقياً، شرق أوروبا.. وهكذا). هذه الفروع هي بمثابة الأبناء للشركة الأم التي تطلب من كل ابن تحقيق أرقام مبيعات محددة في كل عام، وكل ابن يناضل من أجل تحقيق الأرقام لتي تطلبها الأم منه. لكن فرع الإقليم (الابن) أحياناً قد لا يحقق أرقام المبيعات المطلوبة منه Targets، فيضطر مديرو هذا الفرع إلى الالتفاف على هذا الوضع ببيع منتجاتهم إلى أقاليم مجاورة عبر وسطاء (غير رسميين) من أجل تحقيق الأرقام المطلوبة منهم. هذا الوضع سيسعد بالتأكيد مديري هذا الإقليم، لكنه سيغضب بلا شك مديري فروع الأقاليم الأخرى لأنه سيملأ أقاليمهم بالمنتجات الرمادية التي ستخفض مبيعاتهم وستلتهم جزءاً من حصتم السوقية.
أصناف المُنتَجات الرمادية
وقد تتنوع المُنتَجات الرمادية لتشمل أصنافاً متعددة من مختلف المُنتَجات، مثل السيارات والأجهزة الكهربائية والإلكترونية والأغذية والمُنتَجات الاستهلاكية والأدوية ومستحضرات العناية والتجميل والسجائر، وغيرها الكثير. وكلها تحمل أسماء ماركات أصلية محترمة ومطلوبة. كما يزدهر بيع المُنتَجات الرمادية في مواقع عالمية لها وزنها في التجارة الإلكترونية، وهذا يشمل مواقع إلكترونية شعبية ومعروفة في أمريكا وأوروبا وآسيا، التي قد تبيع ماركات معروفة بأسعار مغرية، لكن دون وجود وسيط معتمد.
لماذا تكره الشركات المُصنِّعة المُنتَجات الرمادية؟
إذاً لماذا تكره الشركات المُصنِّعة ظاهرة "المُنتَجات الرمادية" وتكافحها، مع أنها منتجات عائدة لها، هي من أنتجها؟ والجواب على ذلك ما يلي:
(1) يصرف الوكيل المحلي مبالغ طائلة على التسويق وتنشيط المبيعات وبناء الاسم التجاري والإعلانات والرعايات في السوق المحلية، وهو استثمار ضخم وطويل الأمد. وليس من العدل أن يقطف ثمار هذا الاستثمار مستوردٌ عابر يطمع في مكسب سريع.
(2) قد تتسبب المُنتَجات الرمادية في تشويه سمعة الشركة المُصنِّعة؛ إذ إن المُنتَجات المُصنِّعة خصيصاً لدول ما، مثل الدول الناشئة، هي في العادة أقل في المواصفات – والتكلفة الكلية تبعاً لذلك - من مثيلاتها التي تباع في الدول المتقدمة، حتى تناسب القوة الشرائية المنخفضة لمواطني الدول الناشئة. وبيع هذه المُنتَجات في الدول المتقدمة قد يضر بسمعة الشركة المُصنِّعة.
(3) لا تحمل المُنتَجات الرمادية في الغالب ضماناً، ولا يمكن إصلاحها في مراكز الصيانة المعتمدة، ولا يمكن حتى الشكوى أو التواصل بشأنها، لأنها موجودة في غير أسواقها أو قنواتها المخصصة لها.
(4) إن المُنتَجات الرمادية هي في الحقيقة منتجات "طفيلية" تأكل من حصة مثيلاتها العادية المخصصة للسوق المحلية، فتنخفض مبيعات ممثل مالك العلامة أو الوكيل المحلي وتنخفض أرباحه.
(5) قد لا تكون المُنتَجات الرمادية متطابقة مع اشتراطات السلامة والمعايير المحلية لأنها قد تكون مصنَّعة لأسواق مختلفة أقل تطلباً أو التزاماً، وقد يتسبب ذلك في حدوث ما لا يحمد عقباه للمستهلكين، وهذا يشوه سمعة الشركة، ويضعها في دائرة الشك والمساءلة.
(6) تُعد المُنتَجات الرمادية باباً واسعاً لتمرير البضائع المقلدة، حينما يختلط الأمر على المستهلِك وعلى المُشرِّع فيصعب التفريق بين المُنتَج الرمادي والمُنتَج المقلَّد، وهذا يسبب الضرر بلا شك لمالك العلامة التجارية ولوكيلها.
دور وزارة التجارة
وأرى بأن وزارة التجارة في المملكة ينبغي أن يكون لها دور في منع أو خفض مستوى وجود المُنتَجات الرمادية، ولهذا الأمر أهمية كبرى لأنه يتواءم مع رؤية 2030 التي تهدف إلى تعزيز التنافسية وحمايتها في السوق السعودية، وحماية حقوق المستثمرين، ودعم وجود الاستثمار الأجنبي وازدهاره. وأقترح حلاً بسيطاً يتمثل في إلزام جميع المُنتَجات بوضع ختم أو طابع يشير إلى أصالة المُنتَج، وإلى وجود وكيل معتمد لديها له مع عناوين التواصل به. وأن يكون مسمى ذلك الختم أو الطابع "ضمان الأصالة". كما أن هذا الختم كفيل بمنع أو خفض دخول المُنتَجات الرمادية، لأن الوكيل أو المصنّع المحلي سيكون مدرجاً ضمن قاعدة البيانات التجارية الرسمية لدى الهيئة العامة للجمارك، بحيث يكون مرتبطاً بعلامة تجارية محددة يصعب إدخالها إلى الأسواق دون رغبته.
دور المستهلِك
أما بالنسبة للمستهلك، فمن باب حمايته، يجب عليه شراء المُنتَجات من مصدرها الأصلي أو أي مصدر موثوق آخر. ففيما يخص السلع المعمّرة، كالأجهزة والمعدات والمجوهرات، على المستهلِك أن يشتريها من الوكيل الأصلي أو الموزع المعتمد. وفيما يخص المُنتَجات الاستهلاكية، فشراؤها من محال كبرى ذات اسم وصيت أفضل من شرائها من الأكشاك والبقالات الصغيرة التي تنتشر فيها المُنتَجات الرمادية الاستهلاكية بأنواعها كافة، خصوصاً منتجات مثل الصابون والشامبو ومعاجين الأسنان والمعقمات ومستحضرات العناية الشخصية.
هل وجود المُنتَجات الرمادية أمر سيء للمستهلك.. دائماً؟
هناك وجهة نظر مختلفة عن المُنتَجات الرمادية يقدمها بعض حماة حقوق المستهلِك، ترى بأن وجود هذه المُنتَجات هو أمر يصب في مصلحة المستهلِك. ويرى هؤلاء بأن بعض الوكلاء المحليين أو الموزعين الحصريين في بعض الدول يرفعون سعر السلع الأجنبية المطلوبة على المستهلِكين المحليين بشكلٍ لا معقول، ويجنون بذلك هوامش ربحية ضخمة مقارنة بالأسعار التي يدفعها المستهلكون لهذه السلع في دول أخرى. ويرون أيضاً بأن وجود هذه المُنتَجات يرغم الوكلاء المحليين والموزعين الحصريين على اتّباع سياسة تسعير عادلة، تُقلِّص الفجوة بين سعر السلعة محلياً وخارجياً. أما في حال كانت المُنتَجات الرمادية أقل من ناحية المواصفات، فيرى الحقوقيون بأن المستهلِك له حق معرفة حقائق المُنتَجات ومكوناتها ومن ثم اختيار ما يناسبه منها، حيث إن هناك فئة من المستهلكين قد تتنازل قليلاً عن بعض المواصفات والمزايا، مقابل تحقيق وفر مالي.
يمكن القول إنه كلما كان سعر المنتَج مرتفعاً وهامشه الربحي ضئيلاً للتجار المحليين واسمه ذائعاً والطلب له عالياً في سوقٍ ما، كان احتمال دخول نسخته الرمادية إلى هذه السوق عالياً وإقبال التجار المحليين عليه كبيراً.