هل ماتت الوكالات الإعلانية؟

منذ بداية الألفية الثالثة، لم تكفّ المجلات المتخصصة والكثير من الكتّاب في مجال التسويق بالتبشير باندثار "وكالة الإعلان" بسبب التطورات التقنية الهائلة.

يبدو الأمر حالياً سهل التصديق، ويبدو ظاهرياً بأن النبوءة تحققت! فكثير من الأسماء الكبيرة في عالم الإعلان بدأت بإغلاق مكاتب وفروع لها وتقليص موظفيها. الأسماء الإعلانية الصغيرة بدأت في التلاشي والاختفاء.

يجدر بنا في البداية تعريف مفهوم "وكالة الإعلان" لكي نعي عن ماذا نتحدث تحديداً. نشأ مفهوم وكالة الإعلان في بريطانيا في بدايات القرن الثامن عشر، وشهد تطوراً كبيراً ومفصلياً في أمريكا في بدايات القرن العشرين. وهناك أخذت الوكالة شكلها الشبكي المعولم (شبكة مكاتب وفروع في كل القارات). ووصلت وكالة الإعلان إلى قمة تطورها بشكلها التقليدي في نهاية التسعينات. عولمة الوكالة الإعلانية كان هدفه الوصول بالشركات الأمريكية الكبرى ومنتجاتها إلى كل الثقافات بشكل إعلاني موحد ومتسق، والاستفادة مالياً من توسع هذه الشركات في الأسواق العالمية.

وكالة الإعلان هي مؤسسة وسيطة بين العميل الراغب في الإعلان وبين الوسائل الناقلة أو الحاملة للإعلان. هذه الوكالات لها ثلاث أدوار رئيسة: فهم المنتج وخلق استراتيجية ترويجية له Strategy، توليد الأفكار وتنفيذها إبداعياً لجذب العملاء ورفع المبيعات Creative، وحجز مساحات وفواصل زمنية في الوسائل الحاملة أو الناقلة مثل لوحات الطرق ومحطات التلفزة. والإذاعة والصحف وغيرها Media Buying.

التعريف أعلاه يعطينا تلميحاً سريعاً يفسر الكم الهائل من المقالات التي خرجت مبشرة ومنذرة بموت وكالة الإعلان. وكالة الإعلان بشكلها التقليدي ازدهرت وتطورت بسبب دفعها العميل للصرف الباذخ على المساحات والفواصل الإعلانية في محطات التلفزيون والصحف؛ إذ كان هذا الأسلوب مثمراً جداً في أوقات مضت، فكان يرفع الوعي بسرعة بالعلامة التجارية، وكان يرفع المبيعات بشكل هائل.

السبب مفهوم: الوسائل الحاملة للإعلان كانت محدودة العدد في فترة ما قبل التسعينات. ولعلي أضرب مثالاً عاصرته أنا في السعودية: يكفي لتشتهر العلامة التجارية في السعودية في تلك الفترة أن تعلن عدة مرات في التلفزيون السعودي (القناة الأولى) بعد أخبار التاسعة مساءً، وفي صحيفتي الرياض وعكاظ واليوم ومجلة سيدتي، وفي لوحة على طريق المطار في المدن الكبرى.

كان التسويق وقتها سهلاً جداً. وكان من السهل جداً الوصول للعميل، بل ومحاصرته. وكانت الوكالة تجني من أرباح الوساطة ما بين العميل والوسائل الإعلانية مبالغ ضخمة، دفعت بعض الوكالات إلى أن تقدم للعميل الأفكار والأعمال الإبداعية مجاناً طمعاً في عمولات الوساطة التي كان متوسطها 10 إلى 15 بالمئة. كان تركّزُ الناس حول الصحف والمحطات شديداً، وكان اختراقهم بالإعلانات التقليدية سهلاً جداً. كانت الحملة الإعلانية المحترمة في السعودية في أواخر التسعينات تكلف حوالي 10 ملايين ريال. وكان 10 بالمئة من هذه الصفقة يعني الكثير من المال للوكالة الإعلانية.

في وقتنا الحالي، لم يعد بوسع المسوق وضع كل ميزانيته في إعلانات التلفزيون والصحف والشوارع كما في السابق، فالوسائل تكاثرت جداً. كما لم تعد الميزانيات المرصودة للتسويق كافية كالسابق، لكثرة جبهات الصرف.

ما حدث مع الثورة الرقمية هو اضمحلال اهتمام الناس تدريجياً بمحطات التلفزيون والصحف، وهما اللذان كانا يمثلان أكبر مصدري دخل للوكالة الإعلانية التقليدية.

لقد تغيّر النموذج العملي للصنعة بكاملها للأبد. وكانت الوكالات قد تعودت لعقود طويلة على الاقتيات على عمولات الحجز في الصحف والتلفزيونات. أرباح سهلة.. وضخمة. ما لبث هذا النموذج أن تغيّر، بعد ثورة المعلومات والاتصالات.

أصبح كثير من الوكالات التي تعودت على نموذج العمل التقليدي غير قادرة على التأقلم، أو الاستمرار. فبدأ كثير من هذه الوكالات بالإغلاق، ما دعا كثيراً من المتخصصين إلى التذكير بنبوءة موت الوكالات الإعلانية.

نعم.. ماتت بعض الوكالات الإعلانية، أو لنتجاوز ونقول: الكثير منها. لكن لم يمت مفهوم الوكالة الإعلانية. ما حدث هو مرحلة من مراحل التطور والنشوء Evolution للوكالة الإعلانية، تماماً كما في عالم البيولوجيا.

تعرضت صنعة الإعلان لهزة شديدة وتغيّر في نمط عملها وفي آلياتها بسبب الطفرة الرقمية، فمات الكثير من وكالات الإعلان، لكن بقي البعض منها، والذي تأقلم مع المتغيرات في عصر غوغل والموبايل واليوتيوب والشبكات الاجتماعية.

قابلت قبل فترة وجيزة الصديق العزيز طارق إستانبولي. وطارق من الرموز المؤسِّسة للإعلان في السعودية، هو مؤسس ورئيس وكالة الإعلان المحلية in-communication، وكانت تحمل اسم ميديا غرافيكس سابقاً. طارق شارك في إطلاق وتأسيس علامات محلية كبيرة مثل لوزين ودجاج اليوم وشماغ دسار ومايسترو بيتزا. كما أنتج إعلانات أسطورية مثل دسار (شماع انجليزي ولا سعودي؟). قلت له في لقاء عابر: "وكالات الإعلان ماتت"، فرد ببروده اللذيذ المعتاد، وقال: "ما ماتت يا خالد. اللي صار إن الجوال حل محل الجريدة والتلفزيون. تغير الوسيط بس".

لم يجانب أبا عمر الصواب، بل أصاب كبد الحقيقة. الوكالة التي استطاعت التكيف مع المتغيرات الرقمية هي التي استطاعت البقاء. التطورات الرقمية لم تحمل تغيراً في شكل الوسيط الناقل للإعلان فقط، بل تغيراً سلبياً في الدخل، وتشتتاً أكبر في الجماهير التي أصبحت محاولة الوصول لها مهمة ليست بالسهلة أبداً لتشعب اهتماماتها وتنوع المنصات الجاذبة لها: غوغل، تويتر، فيسبوك، يوتيوب، لينكدإن، انستغرام، سناب شات، تمبلر، ألعاب الفيديو، التطبيقات، الصحف الإلكترونية، المدونات، المتاجر الإلكترونية، المشاهير، المؤثرين.. والكثير الكثير الذي لا نستطيع حصره هنا بسهولة. ما جعل مهمة الوكالة الإعلانية أصعب بكثير، وبعائد أقل من الماضي.

ما حدث مع الإعلان، حدث مع الموسيقى. مات الكاسيت والـCD والـDVD، وجاء الآيبود والآيتيونز وجيش الوسائط الرقمية، ولم تمت الأغاني ولم يندثر المنتجون والمغنون والعازفون. الوسط الناقل فقط تغير، من كاتردج وكاسيت إلى شكل رقمي متطور، تأقلمت شركات الإنتاج والمغنون مع أدواته وقواعده.

الخلاصة.. إن الوكالة الإعلانية باقية وتتمدد، لكنها الآن في مرحلة تطور ونشوء، فلم يتكون لها شكل واضح لحد الآن. لكنها كانت وما تزال هي الرحم الذي تولد منه الأفكار الإبداعية لإشهار الماركات. ما تغير في صنعة الإعلان هو الشكل الحامل للأفكار؛ فمكان الجريدة والتلفزيون، حلت بدائل تويتر واليوتيوب وغيرها من الوسائل العصرية.

الفكرة باقية.. والشكل تغيّر.

هذا ما حدث.. وهذه هي حكاية وكالة الإعلان التي ستستمر فصولها إلى ما شاء الله.

الوكالة الإعلانية كانت وما تزال هي الرحم الذي تولد منه الأفكار الإبداعية لإشهار الماركات

Join